الاندكس

الرابط

 https://drive.google.com/file/d/1oQ6F4ip_x4FPYXEL9by5sq_at0QyoUMM/view?usp=sharing

اندكس / جاهز للالصاق بأي موفع
اندكس بريد مكة كله الرابط

 الرابط  https://drive.google.com/file/d/1EdReCzy8MeqB_xIetCWKXcdEcNHTBfSi/view?usp=sharing

الخميس، 23 فبراير 2023

جامع العلوم والحكم لابن رجب الحنبلي الجزء الاول


جامع العلوم والحكم لابن رجب الحنبلي الجزء الاول

المقدمة

جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثًا من جوامع الكلم

{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا}

مقدمة

الحمد لله الذي أكمل لنا الدين وأتم علينا النعمة وجعل أمتنا ولله الحمد خير أمة وبعث فينا رسولًا منا يتلو علينا آياته ويزكينا ويعلمنا الكتاب والحكمة أحمده على نعمه الجمة وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له شهادة تكون لمن اعتصم بها خير عصمة، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أرسله للعالمين رحمة وفرض عليه بيان ما أنزل إلينا فأوضح لنا كل الأمور المهمة وخصه بجوامع الكلم فربما جمع أشتات الحكم والعلوم في كلمة أو شطر كلمة صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه صلاة تكون لنا نورًا من كل ظلمة وسلم تسليمًا أما بعد فإن الله سبحانه وتعالى بعث محمدًا ﷺ بجوامع الكلم وخصه ببدائع الحكم كما في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال بعثت بجوامع الكلم.

قال النووي رحمه الله جوامع الكلم فيما بلغنا أن الله تعالى يجمع له الأمور الكثيرة التي كانت تكتب في الكتب قبله في الأمر الواحد والأمرين ونحو ذلك .

وخرج الإمام أحمد رحمه الله من حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه قال خرج علينا رسول الله ﷺ يومًا كالمودع فقال أنا محمد النبي الأمي قال ذلك ثلاث مرات ولا نبي بعدي أوتيت فواتح الكلم وخواتمه وجوامعه وذكر الحديث .

وخرج أبو يعلى الموصلي من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال إنى أوتيت جوامع الكلم وخواتمه واختصر لي الكلام اختصارًا.

وخرج الدارقطني رحمه الله من حديث ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي ﷺ قال أعطيت جوامع الكلم واختصر لي الحديث اختصارًا .

وروينا من حديث عبد الرحمن بن إسحاق القرشي عن أبي بردة عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال قال رسول الله ﷺ أعطيت فواتح الكلم وخواتمه وجوامعه فقلنا يا رسول الله علمنا مما علمك الله عز وجل قال فعلمنا التشهد.

وفي صحيح مسلم عن سعيد بن أبي بردة عن أبي موسى عن أبيه عن جده أن النبي ﷺ سئل عن البتع والمزر قال، وكان رسول الله ﷺ قد أعطي جوامع الكلم بخواتمه فقال أنهى عن كل مسكر أسكر عن الصلاة.

وروي هشام بن عمار في كتاب البعث بإسناده عن أبي سالم الحبشي قال حدثت أن النبي ﷺ كان يقول فضلت على من قبلي بست ولا فخر فذكر منها جوامع الكلم فقال وأعطيت جوامع الكلم، وكان أهل الكتاب يجعلونها جزءا بالليل إلى الصباح فجمعها لي ربي في آية واحدة {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}

في جوامع الكلم التي خص بها النبي ﷺ نوعان:

أحدهما: ما هو في القرآن كقوله تعالى {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ}.

قال الحسن لم تترك هذه الآية خيرًا إلا أمرت به ولا شرًا إلا نهت عنه.

والثاني: ما هو في كلامه ﷺ وهو منتشر موجود في السنن المأثورة عنه ﷺ.

وقد جمع العلماء رضي الله عنهم جموعًا من كلماته ﷺ الجامعة فصنف الحافظ أبو بكر بن السني كتابًا سماه الإيجاز وجوامع الكلم من السنن المأثورة وجمع القاضي أبو عبدالله القضاعي من جوامع الكلم المجيزة كتابًا سماه الشهاب في الحكم والآداب وصنف على منواله قوم آخرون فزادوا على ما ذكره زيادة كثيرة وأشار الخطابي في أول كتابه غريب الحديث إلى يسير من الأحاديث الجامعة وأملي الإمام الحافظ أبو عمرو بن الصلاح مجلسًا سماه الأحاديث الكلية جمع فيه الأحاديث الجوامع التي يقال إن مدار الدين عليها وما كان في معناها من الكلمات الجامعة الوجيزة فاشتمل مجلسه هذا على ستة وعشرين حديثًا ثم إن الفقيه الإمام الزاهد القدوة أبا زكريا يحيى النووي رحمة الله عليه أخذ هذه الأحاديث التي أملاها ابن الصلاح وزاد عليها تمام اثنين وأربعين حديثًا وسمى كتابه بالأربعين واشتهرت هذه الأربعون التي جمعها وكثر حفظها ونفع الله بها ببركة نية جامعها وحسن قصده رحمه الله تعالى وقد تكرر سؤال جماعة من طلبة العلم والدين لتعليق شرح لهذه الأحاديث المشار إليها فاستخرت الله تعالى في جمع كتاب يتضمن شرح ما يسره الله تعالى من معانيها وتقييد ما يفتح به سبحانه من تبيين قواعدها ومبانيها وإياه أسأل العون على ما قصدته والتوفيق لصالح النية والقصد فيما أردته وأعول في أمري كله عليه وأبرأ من الحول والقوة إلا إليه وقد كان بعض من شرح هذه الأربعين قد تعقب على جامعها رحمه الله تركه لحديث ألحقوا الفرائض بأهلها فما أبقت الفرائض فلأولي رجل ذكر قال لأنه الجامع لقواعد الفرائض التي هي نصف العلم فكان ينبغي ذكره في هذه الأحاديث الجامعة كما ذكر حديث البينة على المدعي واليمين على من أنكر لجمعه لأحكام القضاء فرأيت أنا أن أضم هذا الحديث إلى أحاديث الأربعين التي جمعها الشيخ رحمه الله وأن أضم إلى ذلك كله أحاديث أخر من جوامع الكلم الجامعة لأنواع العلوم والحكم حتى تكمل عدة الأحاديث كلها خمسين حديثًا فهذه تسمية الأحاديث المزيدة على ما ذكره الشيخ رحمه الله في كتابه حديث ألحقوا الفرائض بأهلها، وحديث يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب، وحديث إن الله إذا حرم شيئًا حرم ثمنه، وحديث أربع من كن فيه كان منافقا، وحديث لو أنكم توكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، وحديث لا يزال لسانك رطبًا من ذكر الله تعالى.

وسميته: جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثًا من جوامع الكلم

واعلم أنه ليس غرضي إلا شرح الألفاظ النبوية التي تضمنتها هذه الأحاديث الكلية فلذلك لا أتقيد بكلام الشيخ رحمه الله في تراجم رواة هذه الأحاديث من الصحابة رضي الله عنهم ولا بألفاظه في العزو إلى الكتب التي يعزو إليها وإنما آتي بالمعنى الذي يدل على ذلك لأني قد أعلمتك أنه ليس لي غرض في غير شرح معاني كلمات النبي ﷺ الجوامع وما يتضمنه من الآداب والحكم والمعارف والأحكام والشرائع وأشير إشارة لطيفة قبل الكلام في شرح الحديث إلى إسناده ليعلم بذلك صحته وقوته وضعفه وأذكر بعض ما روي في معناه من الأحاديث إن كان في ذلك الباب شيء غير الحديث الذي ذكره الشيخ وإن لم يكن في الباب غيره أو لم يكن يصح فيه غيره نبهت على ذلك كله وبالله التوفيق والمستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا بالله.

=======

الحديث الأول

عن أمير المؤمنين أبي حفص عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال سمعت رسول الله ﷺ يقول إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امريء ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه . رواه البخاري ومسلم

هذا الحديث تفرد بروايته يحيى بن سعيد الأنصاري عن محمد بن إبراهيم التيمي عن علقمة بن أبي وقاص الليثي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وليس له طريق يصح غير هذا الطريق كذا قال علي بن المديني وغيره وقال الخطابي لا أعلم خلافًا بين أهل الحديث في ذلك مع أنه قد روى من حديث أبي سعيد وغيره.

وقد قيل إنه قد روى من طرق كثيرة لكن لا يصح من ذلك شيء عند الحفاظ ثم رواه عن الأنصاري الخلق الكثير والجم الغفير فقيل رواه عنه أكثر من مائتي راو وقيل رواه عنه سبعمائة راو ومن أعيانهم الإمام مالك والثوري والأوزاعي وابن المبارك والليث بن سعد وحماد بن زيد وشعبة وابن عيينة وغيرهم.

واتفق العلماء على صحته وتلقيه بالقبول وبه صدر البخاري كتابه الصحيح وأقامه مقام الخطبة له إشارة منه إلى أن كل عمل لا يراد به وجه الله فهو باطل لاثمرة له في الدنيا ولا في الآخرة ولهذا قال عبد الرحمن بن مهدي لو صنفت كتابًا في الأبواب لجعلت حديث عمر بن الخطاب في الأعمال بالنيات في كل باب.

وعنه أنه قال من أراد أن يصنف كتابًا فليبدأ بحديث الأعمال بالنيات.

وهذا الحديث أحد الأحاديث التي يدور الدين عليها فروى عن الشافعي أنه قال هذا الحديث ثلث العلم ويدخل في سبعين بابًا من الفقه.

وعن الإمام أحمد رضي الله عنه قال أصول الإسلام على ثلاثة أحاديث حديث عمر إنما الأعمال بالنيات، وحديث عائشة من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد، وحديث النعمان بن بشير الحلال بين والحرام بينّ.

وقال الحاكم حدثونا عن عبدالله بن أحمد عن أبيه أنه ذكر قوله عليه الصلاة والسلام الأعمال بالنيات، وقوله إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يومًا، وقوله من أحدث في ديننا ما ليس منه فهو رد فقال ينبغي أن يبتدأ بهذه الأحاديث في كل تصنيف فإنها أصول الأحاديث.

وعن إسحاق بن راهويه قال أربعة أحاديث هي من أصول الدين حديث عمر إنما الأعمال بالنيات، وحديث الحلال بين والحرام بين، وحديث إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يومًا، وحديث من صنع في أمرنا شيئًا ما ليس منه فهو رد.

وروى عثمان بن سعيد عن أبي عبيد قال جمع النبي ﷺ جميع أمر الآخرة في كلمة واحدة من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد وجمع أمر الدنيا كله في كلمة واحدة إنما الأعمال بالنيات يدخلان في كل باب.

وعن أبي داود قال نظرت في الحديث المسند فإذا هو أربعة آلاف حديث ثم نظرت فإذا مدار أربعة آلاف الحديث على أربعة أحاديث حديث النعمان بن بشير الحلال بين والحرام بين، وحديث عمر إنما الأعمال بالنيات، وحديث أبي هريرة إن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا, وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين الحديث، وحديث من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه قال فكل حديث من هذه الأربعة ربع العلم.

وعن أبي داود رضي الله عنه أيضًا قال كتبت عن رسول الله ﷺ خمسمائة ألف حديث انتخبت منها ما تضمنه هذا الكتاب يعني كتاب السنن جمعت فيه أربعة آلاف وثمانمائة حديث ويكفي الإنسان لدينه من ذلك أربعة أحاديث أحدهما قوله ﷺ إنما الأعمال بالنيات والثاني قوله ﷺ من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه والثالث قوله ﷺ لا يكون المؤمن مؤمنا حتى لا يرضى لأخيه إلا ما يرضى لنفسه والرابع قوله ﷺ الحلال بين والحرام بين.

وفي رواية أخرى عنه أنه قال الفقه يدور على خمسة أحاديث الحلال بين والحرام بين، وقوله ﷺ لا ضرر ولا ضرار، وقوله إنما الأعمال بالنيات، وقوله الدين النصيحة، وقوله ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فائتوا منه ما استطعتم.

وفي رواية عنه قال أصول السنن في كل فن أربعة أحاديث حديث عمر إنما الأعمال بالنيات، وحديث الحلال بين والحرام بين، وحديث من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه، وحديث ازهد في الدنيا يحبك الله وازهد فيما في أيدي الناس يحبك الناس وللحافظ أبي الحسن طاهر بن مفوز المعافري الأندلسي:

عمدة الدين عندنا كلمات *** أربع من كلام خير البرية

اتق الشبهات وازهد ودع ما *** ليس يعنيك واعملن بنية

فقوله ﷺ إنما الأعمال بالنيات وفي رواية الأعمال بالنيات وكلاهما يقتضي الحصر على الصحيح وليس غرضنا ههنا توجيه ذلك ولا بسط القول فيه وقد اختلفوا في تقدير قوله الأعمال بالنيات فكثير من المتأخرين يزعم أن تقديره الأعمال صحيحة أو معتبرة ومقبولة بالنيات وعلى هذا فالأعمال إنما أريد بها الأعمال الشرعية المفتقرة إلى النية فأما مالًا يفتقر إلى نية كالعادات من الأكل والشرب واللبس وغيرها أو مثل رد الأمانات والمضمونات كالودائع والغصوب فلا يحتاج شيء من ذلك إلى نية فيخص هذا كله من عموم الأعمال المذكورة ههنا وقال آخرون بل الأعمال ههنا على عمومها لايختص منها شيء وحكاه بعضهم عن الجمهور كأنه يريد به جمهور المتقدمين.

وقد وقع ذلك في كلام ابن جرير الطبري وأبي طالب المكي وغيرهما من المتقدمين وهو ظاهر كلام الإمام أحمد قال في رواية حنبل أحب لكل من عمل من صلاة أو صيام أو صدقة أو نوع من أنواع البر أن تكون النية متقدمة في ذلك قبل الفعل قال النبي ﷺ الأعمال بالنيات فهذا يأتي على كل أمر من الأمور.

وقال الفضل بن زياد سألت أبا عبد الله يعني أحمد عن النية في العمل قلت كيف النية قال يعالج نفسه إذا أراد عملًا لا يريد به الناس.

وقال أحمد بن داود الحربي قال حدث يزيد بن هارون بحديث عمر الأعمال بالنيات وأحمد جالس فقال أحمد ليزيد يا أبا خالد هذا الخناق وعلى هذا القول فقيل تقدير الكلام الأعمال واقعة أو حاصلة بالنيات فيكون إخبارا عن الأعمال الاختيارية أنها لاتقع إلا عن قصد من العامل هو سبب عملها ووجودها ويكون قوله بعد ذلك وإنما لكل امريء ما نوى إخبارًا عن حكم الشرع وهو أن حظ العامل من عمله نيته فإن كانت صالحة فعمله صالح فله أجره وإن كانت فاسدة فعمله فاسد فعليه وزره ويحتمل أن يكون التقدير في قوله الأعمال بالنيات صالحة أو فاسدة أو مقبولة أو مردودة أو مثاب عليها أو غير مثاب عليها بالنيات فيكون خبرًا عن الحكم الشرعي وهو أن صلاحها وفسادها بحسب صلاح النية وفسادها كقوله ﷺ إنما الأعمال بالخواتيم أي إن صلاحها وفسادها وقبولها وعدمها بحسب الخاتمة.

وقوله بعد ذلك وإنما لكل امريء ما نوى إخبار أنه لا يحصل له من عمله إلا ما نواه به فإن نوى خيرًا حصل له خير وإن نوى به شرًا حصل له شر وليس هذا تكريرًا محضًا للجملة الأولي فإن الجملة الأولى دلت على أن صلاح العمل وفساده بحسب النية المقتضية لإيجاده والجملة الثانية دلت على أن ثواب العامل على عمله بحسب نيته الصالحة وأن عقابه عليه بحسب نيته الفاسدة وقد تكون نيته مباحة فيكون العمل مباحًا فلا يحصل له ثواب ولا عقاب فالعمل في نفسه صلاحه وفساده وإباحته بحسب النية الحاملة عليه المقتضية لوجوده وثواب العامل وعقابه وسلامته بحسب النية التي صار بها العمل صالحًا أو فاسدًا أو مباحًا.

واعلم أن النية في اللغة نوع من القصد والإرادة وإن كان قد فرق بين هذه الألفاظ بما ليس هذا موضع ذكره.

والنية في كلام العلماء تقع بمعنيين:

أحدهما: تمييز العبادات بعضها عن بعض كتمييز صلاة الظهر من صلاة العصر مثلًا وتمييز رمضان من صيام غيره أو تمييز العبادات من العادات كتمييز الغسل من الجنابة من غسل التبرد والتنظيف ونحو ذلك وهذه النية هي التي توجد كثيرًا في كلام الفقهاء في كتبهم.

والمعنى الثاني: بمعنى تمييز المقصود بالعمل وهل هو لله وحده لا شريك له أم لله وغيره وهذه هي النية التي يتكلم فيها العارفون في كتبهم في كلامهم على الإخلاص وتوابعه وهي التي توجد كثيرًا في كلام السلف المتقدمين وقد صنف أبو بكر بن أبي الدنيا مصنفًا سماه كتاب الإخلاص والنية وإنما أراد هذه النية وهي النية التي يتكرر ذكرها في كلام النبي ﷺ تارة بلفظ النية وتارة بلفظ الإرادة وتارة بلفظ مقارب لذلك.

وقد جاء ذكرها كثيرًا في كتاب الله عز وجل بغير لفظ النية أيضًا من الألفاظ المقاربة لها وإنما فرق من فرق بين النية وبين الإرادة والقصد ونحوهما لظنهم اختصاص النية بالمعنى الأول الذي يذكره الفقهاء فمنهم من قال النية تختص بفعل الناوي والإرادة لا تختص بذلك كما يريد الإنسان من الله أن يغفر له ولا ينوي ذلك.

وقد ذكرنا أن النية في كلام النبي ﷺ وسلف الأمة إنما يراد بها هذا المعنى الثاني غالبًا فهي حينئذ بمعنى الإرادة ولذلك يعبر عنها بلفظ الإرادة في القرآن كثيرًا كما في قوله تعالى {مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ} آل عمران، وقوله عز وجل {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ} الأنفال، وقوله تعالى {مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا} هود، وقوله {مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ} الشورى، وقوله تعالى {مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ} الإسراء، وقوله تعالى {وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} الأنعام، وقوله تعالى {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} الكهف، وقوله {ذَلِكَ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ} الروم، وقوله {وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّبًا لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُو عِندَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُم مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} الروم وقد يعبر عنها في القرآن بلفظ الابتغاء كما في قوله تعالى {إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى} الليل، وقوله تعالى {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ} البقرة، وقوله تعالى {وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ} البقرة، وقوله {لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ} النساء.

فنفى الخير عن كثير مما يتناجى الناس به إلا في الأمر بالمعروف وخص من أفراده الصدقة والإصلاح بين الناس لعموم نفعها فدل ذلك على أن التناجي بذلك خير وأما الثواب عليه من الله فخصه بمن فعله ابتغاء مرضات الله وإنما جعل الأمر بالمعروف من الصدقة والإصلاح بين الناس وغيرهما خيرًا وإن لم يبتغ به وجه الله لما يترتب على ذلك من النفع المتعدي فيحصل به للناس إحسان وخير وأما بالنسبة إلى الأمر فإن قصد به وجه الله وابتغاء مرضاته كان خيرًا له وأثيب عليه وإن لم يقصد ذلك لم يكن خيرًا له ولا ثواب له عليه وهذا بخلاف من صلى وصام وذكر الله يقصد بذلك عرض الدنيا فإنه لا خير له فيه بالكلية لأنه لاتقع في ذلك لصاحبه لما يترتب عليه من الإثم فيه ولا لغيره لأنه لا يتعدى نفعه إلى أحد اللهم إلا أن يحصل لأحد اقتداء به في ذلك.

وأما ما ورد في السنة وكلام السلف من تسمية هذا المعنى بالنية فكثير جدًا ونحن نذكر بعضه كما خرج الإمام أحمد والنسائي من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه عن النبي ﷺ أنه قال من غزا في سبيل الله ولم ينو إلا عقالًا فله ما نوى.

وخرج الإمام أحمد من حديث ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال إن أكثر شهداء أمتي أصحاب الفرش ورب قتيل بين صفين الله أعلم بنيته.

وخرج ابن ماجه من حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال يحشر الناس على نياتهم ومن حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال إنما يبعث الناس على نياتهم.

وخرج ابن أبي الدنيا من حديث عمر رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال إنما يبعث المقتتلون على نياتهم وفي صحيح مسلم عن أم سلمة رضي الله عنها عن النبي ﷺ قال يعوذ عائذ بالبيت فيبعث إليه بعث فإذا كانوا ببيداء من الأرض خسف بهم فقلت يا رسول الله فكيف بمن كان كارهًا قال يخسف به معهم ولكنه يبعث يوم القيامة على نيته وفيه أيضًا عن عائشة رضي الله عنها عن النبي ﷺ معنى هذا الحديث وقال فيه يهلكون مهلكًا واحدًا ويصدرون مصادر شتى ويبعثهم الله على نياتهم.

وخرج الإمام أحمد وابن ماجه من حديث زيد بن ثابت عن النبي ﷺ قال من كانت همه الدنيا فرق الله شمله وفي لفظ أمره وجعل فقره بين عينيه ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له ومن كانت الآخرة نيته جمع الله له أمره وجعل غناه في قلبه وأتته الدنيا وهي راغمة هذا لفظ ابن ماجه ولفظ أحمد من كانت همه الآخرة ومن كانت نيته الدنيا.

وخرجه ابن أبي الدنيا وعنده من كانت نيته الآخرة ومن كانت نيته الدنيا.

وفي الصحيحين عن سعد بن أبي وقاص عن النبي ﷺ قال إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أثبت عليها حتى اللقمة تجعلها في فى امرأتك.

وروى ابن أبي الدنيا بإسناد منقطع عن عمر قال لا عمل لمن لا نية له ولا أجر لمن لا حسبة له يعني لا أجر لمن لم يحتسب ثواب عمله عند الله عز وجل.

وبإسناد ضعيف عن ابن مسعود قال لا ينفع قول إلا بعمل ولا ينفع قول ولا عمل إلا بنية ولا ينفع قول ولا عمل ولا نية إلا بما وافق السنة.

وعن يحيى ابن أبي كثير قال تعلموا النية فإنها أبلغ من العمل وعن زيد الشامي قال إنى لأحب أن تكون لي نية في كل شيء حتى في الطعام والشراب.

وعنه أنه قال انو في كل شيء تريد الخير حتى خروجك إلى الكناسة.

وعن داود الطائي قال رأيت الخير كله إنما يجمعه حسن النية وكفاك بها خيرًا وإن لم تنصب قال داود والبر همة التقي ولو تلعقت جميع جوارحه بحب الدنيا لردته يومًا نيته إلى أصله.

وعن سفيان الثوري قال ما عالجت شيئًا أشد على من نيتي لأنها تنقلب علي.

وعن يوسف بن أسباط قال تخليص النية من فسادها أشد على العاملين من طول الاجتهاد.

وقيل لنافع بن جبير ألا تشهد الجنازة قال كما أنت حتى أنوي قال ففكر هنيهة ثم قال امض.

وعن مطرف بن عبد الله قال صلاح القلب بصلاح العمل وصلاح العمل بصلاح النية وعن بعض السلف قال من سره أن يكمل له عمله فليحسن نيته فإن الله عز وجل يأجر العبد إذا حسن نيته حتى باللقمة.

وعن ابن المبارك قال رب عمل صغير تعظمه النية ورب عمل كبير تصغره النية.

وقال ابن عجلان لا يصلح العمل إلا بثلاث التقوى لله والنية الحسنة والإصابة.

وقال الفضيل بن عياض إنما يريد الله عز وجل منك نيتك وإرادتك.

وعن يوسف بن أسباط قال إيثار الله عز وجل أفضل من القتل في سبيل الله خرج ذلك كله ابن أبي الدنيا في كتاب الإخلاص والنية وروي فيه بإسناد منقطع عن عمر قال أفضل الأعمال أداء ما افترض الله عز وجل والورع عما حرم الله عز وجل وصدق النية فيما عند الله عز وجل وبهذا يعلم معنى ما روى الإمام أحمد أن أصول الإسلام ثلاثة أحاديث حديث إنما الأعمال بالنيات، وحديث من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد.

وحديث الحلال بين والحرام بين فإن الدين كله يرجع إلى فعل المأمورات وترك المحظورات والتوقف عن الشبهات وهذا كله تضمنه حديث النعمان بن بشير وإنما يتم ذلك بأمرين:

أحدهما أن يكون العمل في ظاهره على موافقة السنة وهذا هو الذي يتضمنه حديث عائشة من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد.

والثاني أن يكون العمل في باطنه يقصد به وجه الله عز وجل كما تضمنه حديث عمر الأعمال بالنيات.

وقال الفضيل في قوله تعالى {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} الملك قال أخلصه وأصوبه وقال إن العمل إذا كان خالصًا ولم يكن صوابًا لم يقبل وإذا كان صوابًا ولم يكن خالصًا لم يقبل حتى يكون خالصًا وصوابًا قال والخالص إذا كان لله عز وجل والصواب إذا كان على السنة وقد دل على هذا الذي قال الفضيل لقوله عز وجل {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} الكهف.

وقال بعض العارفين إنما تفاضلوا بالإرادات ولم يتفاضلوا بالصوم والصلاة.

وقوله ﷺ فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه لما ذكر ﷺ أن الأعمال بحسب النيات وأن حظ العامل من عمله نيته من خير أو شر وهاتان كلمتان جامعتان وقاعدتان كليتان لا يخرج عنهما شيء ذكر بعد ذلك مثلًا من الأمثال والأعمال التي صورتها واحدة ويختلف صلاحها وفسادها باختلاف النيات وكأنه يقول سائر الأعمال على حذو هذا المثال وأصل الهجرة هجران بلد الشرك والانتقال منه إلى دار الإسلام كما كان المهاجرون قبل فتح مكة يهاجرون منها إلى مدينه النبي ﷺ وقد هاجر من هاجر منهم قبل ذلك إلى أرض الحبشة إلى النجاشي فأخبر ﷺ أن هذه الهجرة تختلف باختلاف المقاصد والنيات بها فمن هاجر إلى دار الإسلام حبا لله ورسوله ورغبة في تعلم دبن الإسلام وإظهار دينه حيث كان يعجز عنه في دار الشرك فهذا هو المهاجر إلى الله ورسوله حقا وكفاه شرفًا وفخرًا أن حصل له ما نواه من هجرته إلى الله ورسوله ولهذا المعنى اقتصر في جواب هذا الشرط على إعادته بلفظه لأن حصول ما نواه بهجرته نهاية المطلوب في الدنيا والآخرة ومن كانت هجرته من دار الشرك إلى دار الإسلام ليطلب دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها في دار الإسلام فهجرته إلى ما هاجر من ذلك فالأول تاجر والثاني خاطب وليس بواحد منهما مهاجر.

وفي قوله إلى ما هاجر إليه تحقير لما طلبه من أمر الدنيا واستهانة به حيث لم يذكر بلفظه وأيضا أن الهجرة إلى الله ورسوله واحدة فلا تعدد فيها فلذلك أعاد الجواب فيها بلفظ الشرط والهجرة لأمور الدنيا لا تنحصر فقد يهاجر الإنسان لطلب دنيا مباحة تارة ومحرمة تارة وأفراد ما يقصد بالهجرة من أمور الدنيا لا تنحصر فلذلك قال فهجرته إلى ما هاجر إليه يعني كائنا ما كان وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى {إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ} الممتحنة.

قال كانت المرأة إذا أتت النبي ﷺ حلفها بالله ما خرجت من بغض زوج وبالله ما خرجت رغبة بأرض عن أرض وبالله ما خرجت التماس دنيا وبالله ما خرجت إلا حبا لله ورسوله أخرجه ابن أبي حاتم وابن جرير والبزار في مسنده وخرجه الترمذي في بعض نسخ كتابه مختصرًا.

وقد روى وكيع في كتابه عن الأعمش عن شقيق هو أبو وائل قال خطب أعرابي من الحي امرأة يقال لها أم قيس فأبت أن تزوجه حتى يهاجر فهاجر فتزوجته فكنا نسميه مهاجر أم قيس قال فقال عبد الله يعني ابن مسعود من هاجر يبتغي شيئًا فهو له وهذا السياق يقتضي أن هذا لم يكن في عهد النبي ﷺ إنما كان في عهد ابن مسعود ولكن روي من طريق سفيان الثوري عن الأعمش عن أبي وائل عن ابن مسعود قال كان فينا رجل خطب امرأة يقال لها أم قيس فأبت أن تزوجه حتى يهاجر فهاجر فتزوجها وكنا نسميه مهاجر أم قيس قال ابن مسعود من هاجر لشيء فهو له وقد اشتهر أن قصة مهاجر أم قيس هي كانت سبب قول النبي ﷺ من كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها وذكر ذلك كثير من المتأخرين في كتبهم ولم نر لذلك أصلًا يصح والله أعلم.

وسائر الأعمال كالهجرة في هذا المعني فصلاحها وفسادها بحسب النية الباعثة عليها كالجهاد والحج وغيرهما وقد سئل النبي ﷺ عن اختلاف الناس في الجهاد وما يقصد به من الرياء وإظهار الشجاعة والعصبية وغير ذلك أي ذلك في سبيل الله فقال من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله فخرج بهذا كل ما سألوه عنه من المقاصد الدنيوية ففي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري أن أعرابيًا أتى النبي ﷺ فقال يا رسول الله الرجل يقاتل للمغنم والرجل يقاتل للذكر والرجل يقاتل ليرى مكانه فمن قاتل في سبيل الله فقال رسول الله ﷺ من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله وفي رواية لمسلم سئل رسول الله ﷺ عن الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل رياء فأي ذلك في سبيل الله فذكر الحديث وفي رواية له أيضًا الرجل يقاتل غضبًا ويقاتل حمية.

وخرج النسائي من حديث أبي أمامة قال جاء رجل إلى النبي ﷺ فقال أرأيت رجلًا غزا يلتمس الأجر والذكر ما له فقال رسول الله ﷺ لاشيء ثم قال رسول الله ﷺ إن الله لا يقبل إلا ما كان خالصا وابتغى به وجهه.

وخرج أبو داود من حديث أبي هريرة أن رجلًا قال يا رسول الله رجل يريد الجهاد وهو يريد عرضا من عرض الدنيا فقال رسول الله ﷺ لا أجر له فأعاد عليه ثلاثًا والنبي ﷺ يقول لا أجر له.

وخرج الإمام أحمد وأبو داود من حديث معاذ بن جبل عن النبي ﷺ قال الغزو غزوان فأما من ابتغى وجه الله وأطاع الإمام وأنفق الكريمة وياسر الشريك واجتنب الفساد فإن نومه ونبهه أجر كله وأما من غزا فخرا ورياء وسمعة وعصى الإمام وأفسد في الأرض فإنه لم يرجع بالكفاف.

وخرج أبو داود من حديث عبدالله بن عمرو قال قلت يا رسول الله أخبرني عن الجهاد والغزو فقال إن قاتلت صابرا محتسبا بعثك الله صابرا محتسبا وإن قاتلت مرائيا مكاثرا بعثك الله مرائيا مكاثرا على أي حال قاتلت أو قتلت بعثك الله بتلك الحال.

وخرج مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه سمعت النبي ﷺ يقول إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد فأتى به فعرفه نعمه فعرفها فقال ما عملت فيها قال قاتلت فيك حتى استشهدت قال كذبت ولكنك قاتلت لأن يقال جريء فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن فأتى به فعرفه نعمه فعرفها فقال ما عملت فيها قال تعلمت العلم وعلمته وقرأت القرآن فيك قال كذبت ولكنك تعلمت العلم ليقال عالم وقرأت القرآن ليقال قاريء فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار ورجل وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال فأتى به فعرفه نعمه فعرفها فقال فما عملت فيها فقال ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيه إلا أنفقت فيها لك قال كذبت ولكنك فعلت ليقال هو جواد فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار وفي الحديث إن معاوية لما بلغه هذا الحديث بكى حتى غشي عليه فلما أفاق قال صدق الله ورسوله قال الله عز وجل {مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ. أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ} هود.

وقد ورد الوعيد على تعلم العلم لغير وجه الله كما خرجه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ من تعلم علمًا مما يبتغي به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب عرضا من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة يعني ريحها.

وخرج الترمذي من حديث كعب بن مالك عن النبي ﷺ قال من طلب العلم ليماري به السفهاء أو يجاري به العلماء أو يصرف به وجوه الناس إليه أدخله الله النار وخرجه ابن ماجه بمعناه من حديث ابن عمر وحذيفة وجابر رضي الله عنهم عن النبي ﷺ ولفظ حديث جابر لا تعلموا العلم لتباهوا به العلماء ولا لتماروا به السفهاء ولا تخيروا بالمجالس فمن فعل ذلك فالنار النار فقال ابن مسعود لا تعلموا العلم لثلاث لتماروا به السفهاء أو لتجادلوا به الفقهاء أو لتصرفوا وجوه الناس إليكم وابتغوا بقولكم وفعلكم ما عند الله فإنه يبقى ويذهب ما سواه وقد ورد الوعيد على العمل لغير الله عموما كما خرج الإمام أحمد من حديث أبي بن كعب رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال بشر هذه الأمة بالثناء بالعز والرفعة والدين والتمكين في الأرض فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا لم يكن له في الآخرة من نصيب واعلم أن العمل لغير الله أقسام فتارة يكون رياء محضا بحيث لا يراد به سوى مرئيات المخلوقين لغرض دنيوي كحال المنافقين في صلاتهم قال الله عز وجل {وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ} النساء وقال تعالى {فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ} الماعون.

وكذلك وصف الله تعالى الكفار بالرياء المحض في قوله {وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِم بَطَرًا وَرِئَاء النَّاسِ} الأنفال وهذا الرياء المحض لا يكاد يصدر عن مؤمن في فرض الصلاة والصيام وقد يصدر في الصدقة الواجبة والحج وغيرهما من الأعمال الظاهرة والتي يتعدى نفعها فإن الإخلاص فيها عزيز وهذا العمل لا يشك مسلم أنه حابط وأن صاحبه يستحق المقت من الله والعقوبة وتارة يكون العمل لله ويشاركه الرياء فإن شاركه من أصله فالنصوص الصحيحة تدل على بطلانه أيضًا وحبوطه.

وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال يقول الله تبارك وتعالى أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملًا أشرك معي فيه غيري تركته وشركه وخرجه ابن ماجه ولفظه فأنا منه بريء وهو للذي أشرك.

وخرج الإمام أحمد عن شداد بن أوس عن النبي ﷺ قال من صلى يرائي فقد أشرك ومن صام يرائي فقد أشرك ومن تصدق يرائي فقد أشرك فإن الله عز وجل يقول أنا خير قسيم لمن أشرك بي شيئًا فإن جدة عمله قليلة وكثيرة لشريكه الذي أشرك به أنا عنه غني.

وخرج الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه من حديث أبي سعيد بن أبي فضالة، وكان من الصحابة قال قال رسول الله ﷺ إذا جمع الله الأولين والآخرين ليوم لا ريب فيه نادى مناد من كان أشرك في عمل عمله لله فليطلب ثوابه من عند غير الله عز وجل فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك.

وخرج البزار في مسنده من حديث الضحاك بن قيس عن النبي ﷺ قال إن الله عز وجل يقول أنا خير شريك فمن أشرك معي شريكا فهو لشريكه يا أيها الناس أخلصوا أعمالكم لله عز وجل فإن الله لا يقبل من الأعمال إلا ما أخلص له ولا تقولوا هذا لله والرحم فإنها للرحم وليس لله منها شيء ولا تقولوا هذا لله ولوجوهكم فإنها لوجوهكم وليس لله منها شيء.

وخرج النسائي بإسناد جيد عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه أن رجلًا أتى النبي ﷺ فقال يا رسول الله أرأيت رجلًا غزا يلتمس الأجر والذكر فقال رسول الله ﷺ لاشيء له فأعادها عليه ثلاث مرات يقول له رسول الله ﷺ لاشيء له ثم قال إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان له خالصا وابتغى به وجهه.

وخرج الحاكم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رجل يا رسول الله إنى أقف الموقف أريد به وجه الله وأريد أن يرى موطني فلم يرد عليه رسول الله ﷺ شيئًا حتى نزلت فمن كان يرجو لقاء ربه الكهف ومن يروي عنه هذا المعنى أن العمل إذا خالطه شيء من الرياء كان باطلًا طائفة من السلف منهم عبادة بن الصامت وأبو الدرداء والحسن وسعيد بن المسيب وغيرهم وفي مراسيل القاسم بن مخيمرة عن النبي ﷺ قال لا يقبل الله عملًا فيه مثقال حبة من خردل من رياء ولا نعرف عن السلف في هذا خلافًا وإن كان فيه خلاف عن بعض المتأخرين فإن خالط نيته الجهاد مثل نية غير الرياء مثل أخذه أجرة للخدمة أو أخذ شيء من الغنيمة أو التجارة نقص بذلك أجر جهاده ولم يبطل بالكلية وفي صحيح مسلم عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي ﷺ قالإن الغزاة إذا غنموا غنيمة تعجلوا ثلثي أجرهم فإن لم يغنموا شيئًا تم لهم أجرهم وقد ذكرنا فيما مضى أحاديث تدل على أن من أراد بجهاده عرضا من الدنيا أنه لا أجر له وهي محمولة على أنه لم يكن له غرض في الجهاد إلا الدنيا وقال الإمام أحمد التاجر والمستأجر والمكاري أجرهم على قدر ما يخلص من نيتهم في غزواتهم ولا يكون مثل من جاهد بنفسه وماله لا يخلط به غيره وقال أيضًا فيمن يأخذ جعلا على الجهاد إذا لم يخرج إلا لأجل الدراهم فلا بأس أن يأخذ كأنه خرج لدينه فإن أعطي شيئًا أخذه وكذا روي عن عبدالله بن عمرو قال إذا جمع أحدكم على الغزو فعوضه الله رزقا فلا بأس بذلك وأما إن أحدكم إن أعطي درهما غزا وإن منع درهما مكث فلا خير في ذلك وكذا قال الأوزاعي إذا كانت نية الغازي على الغزو فلا أرى بأسًا وهكذا يقال فيمن أخذ شيئًا في الحج ليحج به إما عن نفسه أو عن غيره وقد روي عن مجاهد أنه قال في حج الحمال وحج الأجير وحج التاجر هو تام لا ينقص من أجورهم شيء وهذا محمول على أن قصدهم الأصلي كان هو الحج دون التكسب وأما إن كان أصل العمل لله ثم طرأت عليه نية الرياء فلا يضره فإن كان خاطرا ودفعة فلا يضره بغير خلاف فإن استرسل معه فهل يحبط عمله أم لا يضره ذلك ويجازى على أصل نيته في ذلك اختلاف بين العلماء من السلف قد حكاه الإمام أحمد وابن جرير الطبري وأرجو أن عمله لا يبطل بذلك وأنه يجازى بنيته الأولي وهو مروي عن الحسن البصري وغيره ويستدل لهذا القول بما خرجه أبو داود في مراسيله عن عطاء الخراساني أن رجلًا قال يا رسول الله إن بني سلمة كلهم يقاتل فمنهم من يقاتل للدنيا ومنهم من يقاتل نجدة ومنهم من يقاتل ابتغاء وجه الله فأيهم الشهيد قال كلهم إذا كان أصل أمره أن تكون كملة الله هي العليا وذكر ابن جرير أن هذا الاختلاف إنما هو في عمل يرتبط آخره بأوله كالصلاة والصيام والحج فأما ما لا ارتباط فيه كالقراءة والذكر وإنفاق المال ونشر العلم فإنه ينقطع بنية الرياء الطارئة عليه ويحتاج إلى تجديد نية، وكذلك روي عن سليمان بن داود الهاشمي أنه قال ربما أحدث بحديث ولي فيه نية فإذا أتيت على بعضه تغيرت نيتي فإذا الحديث الواحد يحتاج إلى نيات ولا يرد على هذا الجهاد كما في مرسل عطاء الخراساني فإن الجهاد يلزم بحضور الصف ولا يجوز تركه حينئذ فيصير كالحج فأما إذا عمل العمل لله خالصا ثم ألقى الله له الثناء الحسن في قلوب المؤمنين بذلك بفضل ورحمة واستبشر بذلك لم يضره ذلك وفي هذا المعنى جاء حديث أبي ذر عن النبي ﷺ أنه سئل عن الرجل يعمل العمل لله من الخير يحمده الناس عليه فقال تلك عاجل بشرى المؤمن خرجه مسلم وخرجه ابن ماجه وعنده الرجل يعمل العمل فيحبه الناس عليه ولهذا المعنى فسره الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه وابن جرير الطبري وغيرهم، وكذلك الحديث الذي خرجه الترمذي وابن ماجه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلًا قال يا رسول الله الرجل يعمل فيسره فإذا اطلع عليه أعجبه فقال له أجران أجر السر وأجر العلانية ولنقتصر على هذا المقدار من الكلام على الإخلاص والرياء فإن فيه كفاية وبالجملة فما أحسن قول سهل بن عبد الله ليس على النفس شيء أشق من الإخلاص لأنه ليس لها فيه نصيب وقال يوسف بن الحسين الرازي أعز شيء في الدنيا الإخلاص وكم أجتهد في إسقاط الرياء عن قلبي وكأنه ينبت فيه على لون آخر.

وقال ابن عيينة كان من دعاء مطرف بن عبد الله اللهم إنى أستغفرك مما تبت إليك منه ثم عدت فيه وأستغفرك مما جعلته لك على نفسي ثم لم أوف به لك وأستغفرك مما زعمت إنى أردت به وجهك فخالط قلبي منه ما قد عملت.

فصل

وأما النية بالمعنى الذي ذكره الفقهاء وهو تمييز العبادات وتمييز العبادات بعضها من بعض فإن الإمساك عن الأكل والشرب يقع تارة حمية وتارة لعدم القدرة على الأكل وتارة تركًا للشهوات لله عز وجل فيحتاج في الصيام إلى نية ليتميز بذلك عن ترك الطعام على غير هذا الوجه.

وكذلك العبادات كالصلاة والصيام منها فرض ومنها نفل والفرض يتنوع أنواعا فإن الصلوات المفروضات خمس صلوات في كل يوم وليلة والصيام الواجب تارة يكون صيام رمضان وتارة يكون كفارة أو عن نذر ولا يتميز هذا كله إلا بالنية.

وكذلك الصدقة تكون نفلا وتكون فرضًا والفرض منه زكاة ومنه كفارة ولا يتميز ذلك إلا بالنية فيدخل ذلك في عموم قوله ﷺ وإنما لكل امريء ما نوى.

وفي بعض ذلك اختلاف مشهور بين العلماء فإن منهم من لا يوجب تعيين النية للصلاة المفروضة بل يكفي عنده أن ينوي فرض الوقت وإن لم يستحضر تسميته في الحال وهي رواية عن الإمام أحمد وينبني على هذا القول أن من فاتته صلاة من يوم وليلة ونسي عينها أن عليه أن يقضي ثلاث صلوات الفجر والمغرب ورباعية واحدة.

وكذلك ذهب طائفة من العلماء إلى أن صيام رمضان لا يحتاج إلى نية معينة أيضًا بل يجزى نية الصيام مطلقا لأن وقته غير قابل لصيام آخر وهو أيضًا رواية عن الإمام أحمد وربما حكي عن بعضهم أن صيام رمضان لا يحتاج إلى نية بالكلية لتعيينه بنفسه فهو كرد الودائع.

وحكي عن الأوزاعي أن الزكاة كذلك وتأول بعضهم قوله على أنه أراد أنها تجزي بنية الصدقة المطلقة كالحج.

وكذلك قال أبو حنيفة لو تصدق بالنصاب كله من غير نية أجزأه عن زكاته.

وقد روي عن النبي ﷺ أنه سمع رجلًا يلبي بالحج عن رجل فقال له أحججت عن نفسك قال لا قال هذه عن نفسك ثم حج عن الرجل.

وقد تكلم في صحة هذا الحديث ولكنه صحيح عن ابن عباس وغيره وأخذ بذلك الشافعي وأحمد في المشهور عنه وغيرهما في أن حجة الإسلام تسقط بنية الحج مطلقًا سواء نوى التطوع أو غيره ولا يشترط للحج تعيين النية فمن حج عن غيره ولم يحج عن نفسه وقع عن نفسه.

وكذلك لو حج عن نذر أو نفلًا ولم يكن حج حجة الإسلام فإنها تنقلب عنها وقد ثبت عن النبي ﷺ أنه أمر أصحابه في حجة الوداع بعدما دخلوا معه وطافوا وسعوا أن يفسخوا حجهم ويجعلوه عمرة، وكان منهم القارن والمفرد وإنما كان طوافهم عند قدومهم طواف القدوم وليس بفرض وقد أمرهم أن يجعلوه طواف عمرة وهو فرض وقد أخذ بذلك الإمام أحمد في فسخ الحج وعمل به وهو مشكل على أصله فإنه يوجب تعيين الطواف الواجب للحج والعمرة بالنية وخالفه في ذلك أكثر الفقهاء كمالك والشافعي وأبي حنيفة.

وقد يفرق الإمام أحمد بين أن يكون طوافه في إحرام انقلب كالإحرام الذي يفسخه ويجعله عمرة فينقلب الطواف فيه تبعا لانقلاب الإحرام كما ينقلب الطواف في الإحرام الذي نوى به التطوع إذا كان عليه حجة الإسلام تبعا لانقلاب الإحرام من أصله ووقوعه عن فرضه بخلاف ما إذا طاف للزيارة بنية الوداع أو التطوع فإن هذا لا يجزيه إلا أن ينوي به الفرض ولم ينقلب فرضًا تبعا لانقلاب إحرامه والله أعلم.

ومما يدخل في هذا الباب أن رجلًا في عهد النبي ﷺ كان قد وضع صدقته عند رجل فجاء ولد صاحب الصدقة فأخذها ممن هي عنده فعلم بذلك أبوه فخاصمه إلى النبي ﷺ فقال ما إياك أردت فقال النبي ﷺ للمتصدق لك ما نويت وقال للآخذ لك ما أخذت خرجه البخاري.

وقد أخذ الإمام أحمد بهذا الحديث وعمل به في المنصوص عنه وإن كان أكثر أصحابه على خلافه فإن الرجل إنما منع من دفع الصدقة إلى ولده خشية أن تكون محاباة فإذا وصلت إلى ولده من حيث لا يشعر كانت المحاباة منتفية وهو من أهل استحقاق الصدقة في نفس الأمر ولهذا لو دفع صدقته إلى من يظنه فقيرًا.

وكان غنيًا في نفس الأمر أجزأته على الصحيح لأنه إنما دفع إلى من يعتقد استحقاقه والفقر أمر خفي لا يكاد يطلع عل حقيقته وأما الطهارة فالخلاف في اشتراط النية لها مشهور وهو يرجع إلى أن الطهارة للصلاة هل هي عبادة مستقلة أم هي شرط من شروط الصلاة كإزالة النجاسة وستر العورة فمن لم يشترط لها النية جعلها كسائر شروط الصلاة.

ومن اشترط لها النية جعلها عبادة مستقلة فإذا كانت عبادة في نفسها لم تصح بدون النية.

وهذا قول جمهور العلماء ويدل على صحة ذلك تكاثر النصوص الصحيحة عن النبي ﷺ أن الوضوء يكفر الذنوب والخطايا وأن من توضأ كما أمر كان كفارة لذنوبه وهذا يدل على أن الوضوء المأمور به في القرآن عبادة مستقلة بنفسها حيث رتب عليه تكفير الذنوب والوضوء الخالي من النية لا يكفر شيئًا من الذنوب بالاتفاق فلا يكون مأمورًا به ولا تصح به الصلاة ولهذا لم يرد في شيء من بقية شرائط الصلاة كإزالة النجاسة وستر العورة ما ورد في الوضوء من الثواب ولو شرك بين نية الوضوء وبين قصد التبرد أو إزالة النجاسة أو الوسخ أجزأه في المنصوص عن الشافعي وهذا قول أكثر أصحاب أحمد لأن هذا القصد ليس بمحرم ولا مكروه ولهذا لو قصد مع رفع الحدث تعليم الوضوء لم يضره ذلك وقد كان النبي ﷺ يقصد أحيانا بالصلاة تعليمها للناس.

وكذلك الحج كما قال خذوا عني مناسككم ومما تدخل النية فيه من أبواب العلم مسائل الأيمان فلغوا اليمين لا كفارة فيه وهو ما جرى على اللسان من غير قصد بالقلب ألبتة كقوله لا والله وبلى والله في أثناء الكلام قال تعالى {لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِيَ أَيْمَانِكُمْ} الآية، وكذلك يرجع في الأيمان إلى نية الحالف وما قصد بيمينه فإن حلف بالطلاق أو عتاق ثم ادعى أنه نوى ما يخالف ظاهر لفظه فإنه يدين فيما بينه وبين الله عز وجل وهل يقبل منه في ظاهر الحكم فيه قولان للعلماء مشهوران وهما روايتان عن أحمد.

وقد روي عن عمر أنه رفع إليه رجل قالت له امرأته شبهني قال كأنك ظبية كأنك حمامة فقالت لا أرضى حتى تقول أنت خلية طالق فقال ذلك فقال عمر خذ بيدها فهي امرأتك خرجه أبو عبيد وقال أراد الناقة تكون معقولة ثم تطلق من عقالها ويحل عنها فهي خلية من العقال وهي طالق لأنها قد انطلقت منه فأراد الرجل ذلك فأسقط عنه عمر الطلاق لنيته قال وهذا أصل لكل من تكلم بشيء يشبه لفظ الطلاق والعتاق وهو ينوي غيره إن القول فيه قوله فيما بينه وبين الله عز وجل في الحكم على تأويل عمر رضي الله عنه ويروى عن السميط السدسي وقال خطبت امرأة فقالوا لا نزوجك حتى تطلق امرأتك فقلت إنى طلقتها ثلاثًا فزوجوني ثم نظروا فإذا امرأتي عندي فقالوا أليس قد طلقتها ثلاثًا فقلت كان عندي فلانة فطلقتها وفلانة فطلقتها فأما هذه فلم أطلقها فأتيت شقيق بن ثور وهو يريد الخروج إلى عثمان وافدا فقلت له سل أمير المؤمنين عن هذه فخرج فسأله فذكر ذلك لعثمان فجعلها له فقال بنيته خرجه أبو عبيد في كتاب الطلاق وحكي إجماع العلماء على مثل ذلك وقال إسحاق بن منصور قلت لأحمد حديث السميط تعرفه قال نعم السدسي وإنما جعل نيته بذلك وقال إسحق فإن كان الحالف ظعالمًا ونوى خلاف ما حلفه عليه غريمه لم تنفعه نيته وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال يمينك على ما يصدقك عليه صاحبك وفي رواية له اليمين على نية المستحلفوهو محمول على الظالم فأما المظلوم فينفعه ذلك وقد خرج الإمام أحمد وابن ماجه من حديث سويد بن حنظلة قال خرجنا نريد رسول الله ﷺ ومعناه وائل بن حجر فأخذه عدو له فتحرج الناس أن يحلفوا فحلفت أنا أنه أخي فخلي سبيله وأتينا النبي ﷺ فأخبرته أن القوم تحرجوا أن يحلفوا فحلفت أنا أنه أخي فقال صدقت المسلم أخو المسلم، وكذلك قد تدخل النية في الطلاق والعتاق فإذا أتى بلفظ من ألفاظ الكنايات المحتملة للطلاق أو العتاق فلا بد له من النية وهل يقوم مقام النية دلالة الحال من غضب أو سؤال الطلاق ونحوه أم لا فيه خلاف مشهور بين العلماء وهل يقع بذلك الطلاق في الباطن كما لو نواه أم يلزم به في ظاهر الحكم فقط فيه خلاف أيضًا مشهور ولو أوقع الطلاق بكناية ظاهرة كالبتة ونحوها فهل يقع به الثلاث أو واحدة فيه قولان مشهوران فظاهر مذهب أحمد أنه يقع به الثلاث مع إطلاق النية فإن نوى به ما دون الثلاث وقع به ما نواه وحكي عنه رواية أخرى أنه يلزمه الثلاث أيضًا ولو رأى امرأة يظنها امرأته فطلقها ثم بانت أجنبية طلقت امرأته لأنه إنما قصد طلاق امرأته نص على ذلك أحمد وحكي عنه رواية أخرى أنها لا تطلق وهو قول الشافعي ولو كان بالعكس بأن رأى امرأة ظنها أجنبية فطلقها فبانت امرأته فهل تطلق فيه قولان وهما روايتان عن أحمد والمشهور من مذهب الشافعي وغيره أنها لا تطلق ولو كان له امرأتان فنهى إحداهما عن الخروج ثم رأى امرأة قد خرجت فظنها المنهية فقال لها فلانة خرجت أنت طالق فقد اختلف العلماء فيها فقال الحسن تطلق المنهية لأنها هي التي نواها وقال إبراهيم يطلقها وقال عطاء لا تطلق واحدة منها وقال أحمد إنها تطلق المنهية رواية واحدة لأنه نوى طلاقها وهل تطلق المواجهة على روايتين عنه فاختلف الأصحاب على القول بأنها تطلق هل تطلق في الحكم فقط أم في الباطن أيضًا على طريقتين لهم وقد استدل بقوله ﷺ الأعمال بالنيات وإنما لكل امريء ما نوى على أن العقود التي يقصد بها في الباطن التوصل إلى ما هو محرم غير صحيحة كعقود البيوع التي يقصد بها معنى الربا ونحوها كما هو مذهب مالك وأحمد وغيرهما فإن هذا العقد إنما نوى به الربا لا بالبيع وإنما لكل امريء ما نوى ومسائل النية المتعلقة بالفقه كثيرة جدًا وفيما ذكرنا كفاية وقد تقدم عن الشافعي أنه قال في هذا الحديث إنه يدخل في سبعين بابًا من الفقه والله أعلم.

والنية هي قصد القلب ولا يجب التلفظ بما في القلب في شيء من العبادات.

وخرج بعض أصحاب الشافعي له قولًا باشتراط التلفظ بالنية للصلاة وغلط المحققون منهم واختلف المتأخرون من الفقهاء في التلفظ بالنية في الصلاة وغيرها فمنهم من استحبه ومنهم من كرهه ولا نعلم في هذه المسائل نقلا خاصا عن السلف ولا عن الأئمة إلا في الحج وحده فإن مجاهدا قال إذا أراد الحج يسمي ما يهل به وروي عنه أنه قال يسميه في التلبية وهذا ليس مما نحن فيه فإن النبي ﷺ كان يذكر نسكه في تلبيته فيقول لبيك عمرة وحجة وإنما كلامنا أنه يقول عند إرادة عقد الإحرام اللهم إنى أريد الحج والعمرة كما استحب ذلك كثير من الفقهاء وكلام مجاهد ليس صريحا في ذلك وقال أكثر السلف منهم عطاء وطاوس والقاسم بن محمد والنخعي تجزيه النية عند الإهلال وصح عن ابن عمر أنه سمع رجلًا عند إحرامه يقول اللهم إنى أريد الحج والعمرة فقال له أتعلم الناس أو ليس الله يعلم ما في نفسك ونص مالك على مثل هذا وأنه لا يستحب له أن يسمي ما أحرم به حكاه صاحب كتاب تهذيب المدونة من أصحابه وقال أبو داود فقلت لأحمد أتقول قبل التكبير يعني في الصلاة شيئًا قال لا وهذا قد يدخل فيه أنه لا يتلفظ بالنية والله سبحانه وتعالى أعلم.

=====

الحديث الثاني

عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أيضًا قال بينما نحن جلوس عند رسول الله ﷺ ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد حتى جلس إلى النبي ﷺ فأسند ركبتيه إلى ركبتيه ووضع كفيه على فخذيه وقال يا محمد أخبرني عن الإسلام فقال رسول الله ﷺ أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا قال صدقت قال فعجبنا له يسأله ويصدقه قال فأخبرني عن الإيمان قال أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره قال صدقت قال فأخبرني عن الإحسان قال أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك قال صدقت قال فأخبرني عن الساعة قال ما المسئول عنها بأعلم من السائل قال فأخبرني عن أماراتها قال أن تلد الأمة ربتها وأن تري الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان ثم انطلق فلبث مليا ثم قال يا عمر أتدري من السائل قلت الله ورسوله أعلم قال هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم . رواه مسلم

هذا الحديث تفرد به مسلم عن البخاري بإخراجه فخرجه من طريق كهمس عن عبدالله بن بريدة عن يحيى بن يعمر قال كان أول من قال في القدر بالبصرة معبد الجهني فانطلقت أنا وحميد بن عبد الرحمن الحميري حاجين أو معتمرين فقلنا لو لقينا أحدًا من أصحاب رسول الله ﷺ فسألناه عما يقول هؤلاء في القدر فوفق لنا عبدالله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما داخلا المسجد فاكتنفته أنا وصاحبي أحدنا عن يمينه والآخر عن شماله فظننت أن صاحبي سيكل الكلام إلى فقلت ياأبا عبد الرحمن إنه قد ظهر قبلنا ناس يقرءون القرآن ويتقفرون العلم وذكر من شأنهم وأنهم يزعمون أن لا قدر وأن الأمر أنف قال إذا لقيت أولئك فأخبرهم إنى بريء منهم وأنهم برآء مني والذي يحلف به عبدالله ابن عمر لو أن لأحدهم مثل أحد ذهبا فأنفقه ما قبله الله منه حتى يؤمن بالقدر ثم قال حدثني أبي عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال بينما نحن عند رسول الله ﷺ فذكر الحديث بطوله ثم خرجه من طرق أخرى بعضها يرجع إلى عبدالله بن بريدة وبعضها يرجع إلى يحيى بن يعمر وذكر أن في بعض ألفاظها زيادة ونقصانا وخرجه ابن حبان في صحيحه من طريق سليمان التيمي عن يحيى بن يعمر وقد خرجه مسلم من هذا الطريق إلا أنه لم يذكر لفظه فيه زيادات منها في الإسلام قال وتحج وتعتمر وتغتسل من الجنابة وأن تتم الوضوء قال فإذا فعلت ذلك فأنا مسلم قال نعم وقال في الإيمان وتؤمن بالجنة والنار والميزان وقال فيه فإذا فعلت ذلك فأنا مؤمن قال نعم وقال في آخرههذا جبريل أتاكم ليعلمكم أمر دينكم خذوا عنه والذي نفسي بيده ما اشتبه على منذ أتاني قبل مرتي هذه وما عرفته حتى ولى وخرجنا في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال كان رسول الله ﷺ يومًا بارزا للناس فأتاه رجل فقال ما الإيمان فقال الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه وبلقائه ورسله وتؤمن بالبعث الآخر قال يا رسول الله ما الإسلام قال الإسلام أن تعبد الله لا تشرك به شيئًا وتقيم الصلاة المكتوبة وتؤدي الزكاة المفروضة وتصوم رمضان قال يا رسول الله ما الإحسان قال أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك قال يارسول الله متى الساعة قال ما المسئول عنها بأعلم من السائل ولكن سأحدثك عن أشراطها إذا ولدت الأمة ربها فذلك من أشراطها وإذا رأيت الحفاة العراة رءوس الناس فذلك من أشراطها وإذا تطاول رعاء البهم في البنيان فذلك من أشراطها في خمس لا يعلمهن إلا الله ثم تلا رسول الله ﷺ {إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} قال ثم أدبر الرجل فقال رسول الله ﷺ على بالرجل فأخذوا ليردوه فلم يروا شيئًا فقال رسول الله ﷺ هذا جبريل جاء ليعلم الناس دينهم وخرجه مسلم بسياق أتم من هذا وفيه في خصال الإيمان وتؤمن بالقدر كلهوقال في الإحسانأن تخشى الله كأنك تراه.

وخرجه الإمام أحمد في مسنده من حديث شهر بن حوشب عن ابن عباس رضي الله عنهما ومن حديث شهر بن حوشب أيضًا عن ابن عامر أو أبي عامر أو أبي مالك عن النبي ﷺ وفي حديثه قال ونسمع رجع النبي ﷺ ولا نرى الذي يكلمه ولا نسمع كلامه وهذا يرده حديث عمر الذي خرجه مسلم وهو أصح وقد روى حديث عمر عن النبي ﷺ من حديث أنس بن مالك وجرير بن عبدالله البجلي وغيرهما وهو حديث عظيم الشأن جدًا يشتمل على شرح الدين كله ولهذا قال النبي ﷺ في آخره هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم بعد أن شرح درجة الإسلام ودرجة الإيمان ودرجة الإحسان فجعل ذلك كله دينا واختلفت الرواية في تقديم الإسلام على الإيمان وعكسه ففي حديث عمر الذي خرجه مسلم أنه بدأ بالسؤال عن الإسلام وفي حديث الترمذي وغيره أنه بدأ بالسؤال عن الإيمان كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه وجاء في بعض روايات حديث عمر أنه سأله عن الإحسان بين الإسلام والإيمان فأما الإسلام فقد فسره النبي ﷺ بأعمال الجوارح الظاهرة من القول والعمل وأول ذلك شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله وهو عمل اللسان ثم إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت من استطاع إليه سبيلا وهي منقسمة إلى عمل بدني كالصلاة والصوم وإلى عمل مالي وهو إيتاء الزكاة وإلى ما هو مركب منهما كالحج بالنسبة إلى البعيد عن مكة وفي رواية ابن حبان أضاف إلى ذلك الاعتمار والغسل من الجنابة وإتمام الوضوء وفي هذا تنبيه على أن جميع الواجبات الظاهرة داخلة في مسمى الإسلام وإنما ذكرنا ههنا أصول أعمال الإسلام التي ينبني عليها كما سيأتى شرح ذلك في حديث ابن عمر رضي الله عنهما بني الإسلام على خمس في موضعه إن شاء الله تعالى، وقوله في بعض الروايات فإذا فعلت ذلك فأنا مسلم قال نعم يدل على أن من أكمل الإتيان بمباني الإسلام الخمس صار مسلمًا حقا مع أن من أقر بالشهادتين صار مسلمًا حكما فإذا دخل في الإسلام بذلك ألزم بالقيام ببقية خصال الإسلام ومن ترك الشهادتين خرج من الإسلام وفي خروجه من الإسلام بترك الصلاة خلاف مشهور بين العلماء، وكذلك في تركه بقية مباني الإسلام الخمس كما سنذكره في موضعه إن شاء الله تعالى ومما يدل على أن جميع الأعمال الظاهرة تدخل في مسمى الإسلام قوله ﷺ المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده.

وفي الصحيحين عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما أن رجلًا سأل النبي ﷺ أي الإسلام خير قال أن تطعم الطعام وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف.

وفي صحيح الحاكم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال إن للإسلام ضوءا ومنارا كمنار الطريق بين ذلك أن تعبد الله ولا تشرك به شيئًا وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتسليمك على بني آدم إذا لقيتهم وتسليمك على أهل بيتك إذا دخلت عليهم فمن انتقص منهن شيئًا فهو متهم من الإسلام بتركه ومن تركهن فقد نبذ الإسلام وراء ظهره.

وخرجه ابن مردويه من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال للإسلام ضياء ونور وعلامات كمنار الطريق فرأسها وجماعها شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وإتمام الوضوء والحكم بكتاب الله وسنة نبيه وطاعة ولاة الأمر وتسليمكم على أنفسكم وتسليمكم على أهلكم إذا دخلتم بيوتكم وتسليمكم على بني آدم إذا لقيتموهم.

وفي إسناده ضعف ولعله موقوف وصح من حديث أبي إسحاق عن صلة بن زفر عن حذيفة رضي الله عنه قال الإسلام ثمانية أسهم الإسلام سهم والصلاة سهم والزكاة سهم والجهاد سهم وصوم رمضان سهم ولعل السهم الثامن الحج والأمر بالمعروف سهم والنهي عن المنكر سهم وخاب من لا سهم له.

وخرجه البزار مرفوعًا والموقوف أصح ورواه بعضهم عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن النبي ﷺ خرجه أبو يعلي الموصلي وغيره والموقوف على حذيفة أصح قال الدارقطني وغيره، وقوله يعني الإسلام سهم أي الشهادتين لأنهما علم الإسلام وبهما يصير الإنسان مسلما، وكذلك ترك المحرمات داخل في مسمى الإسلام أيضًا كما روي عن النبي ﷺ أنه قال من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه وسيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى ويدل على هذا أيضًا ما خرجه الإمام أحمد والترمذي والنسائي من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنهم عن النبي ﷺ قال ضرب الله مثلًا صراطا مستقيما وعلى جنبتي الصراط سوران فيهما أبواب مفتحة وعلى الأبواب ستور مرخاة وعلى باب الصراط داع يقول يأيها الناس ادخلوا الصراط جميعا ولا تعوجوا وداع يدعو من جوف الصراط فإذا أراد أحد أن يفتح شيئًا من تلك الأبواب قال ويحك لا تفتحه فإنك إن فتحته تلجه والصراط الإسلام والسوران حدود الله عز وجل والأبواب المفتحة محارم الله وذلك الداعي على رأس الصراط كتاب الله والداعي من جوف الصراط واعظ الله في قلب كل مسلم زاد الترمذي {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ وَيَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} يونس.

ففي هذا المثل الذي ضربه النبي ﷺ أن الإسلام هو الصراط المستقيم الذي أمر الله بالاستقامة عليه ونهى عن مجاوزة حدوده وإن من ارتكب شيئًا من المحرمات فقد تعدى حدوده وأما الإيمان فقد فسره النبي ﷺ في هذا الحديث بالاعتقادات الباطنة فقال أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت وتؤمن بالقدر خيره وشره وقد ذكر الله في كتابه الإيمان بهذه الأصول الخمسة في مواضع كقوله تعالى {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ} البقرة، وقوله تعالى {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ} البقرة وقال تعالى {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} البقرة.

والإيمان بالرسل يلزم منه الإيمان بجميع ما أخبروا به من الملائكة والأنبياء والكتاب والبعث والقدر وغير ذلك من تفاصيل ما أخبروا به وغير ذلك من صفات الله وصفات اليوم الآخر كالصراط والميزان والجنة والنار وقد أدخل في هذه الآيات الإيمان بالقدر خيره وشره ولأجل هذه الكلمة روى ابن عمر رضي الله عنهما هذا الحديث محتجًا به على من أنكر القدر وزعم أن الأمر أنف يعني أنه مستأنف لم يسبق به سابق قدر من الله عز وجل وقد غلظ عبدالله بن عمر عليهم وتبرأ منهم وأخبر أنه لا تقبل منهم أعمالهم بدون الإيمان بالقدر.

والإيمان بالقدر على درجتين:

إحداهما: الإيمان بأن الله تعالى سبق في علمه ما يعمله العباد من خير وشر وطاعة ومعصية قبل خلقهم وإيجادهم ومن هو منهم من أهل الجنة ومن هو منهم من أهل النار وأعد لهم الثواب والعقاب جزاء لأعمالهم قبل خلقهم وتكوينهم وأنه كتب ذلك عنده وأحصاه وأن أعمال العباد تجري على ما سبق في عمله وكتابه.

والدرجة الثانية: إن الله خلق أفعال العباد كلها من الكفر والإيمان والطاعة والعصيان وشاءها منهم فهذه الدرجة يثبتها أهل السنة والجماعة وتنكرها القدرية والدرجة الأولى أثبتها كثير من القدرية ونفاها غلاتهم كمعبد الجهني الذي سئل ابن عمر عن مقالته وكعمرو بن عبيد وغيره.

وقد قال كثير من أئمة السلف ناظروا القدرية بالعلم فإن أقروا به خصموا وإن جحدوا فقد كفروا.

يريدون أن من أنكر العلم القديم السابق بأفعال العباد وأن الله تعالى قسمهم قبل خلقهم إلى شقي وسعيد وكتب ذلك عنده في كتاب حفيظ فقد كذب بالقرآن فيكفر بذلك وإن أقروا بذلك وأنكروا أن الله خلق أفعال العباد وشاءها وأرادها منهم إرادة كونية قدرية فقد خصموا لأن ما أقروا به حجة عليهم فيما أنكروه.

وفي تكفير هؤلاء نزاع مشهور بين العلماء وأما من أنكر العلم القديم فنص الشافعي وأحمد على تكفيره، وكذلك غيرهما من أئمة الإسلام.

فإن قيل فقد فرق النبي ﷺ في هذا الحديث بين الإسلام والإيمان وجعل الأعمال كلها من الإسلام لا من الإيمان والمشهور عن السلف وأهل الحديث أن الإيمان قول وعمل ونية وأن الأعمال كلها داخلة في مسمى الإيمان وحكى الشافعي على ذلك إجماع الصحابة والتابعين ومن بعدهم ممن أدركهم، وأنكر السلف على من أخرج الأعمال من الإيمان إنكارًا شديدًا وممن أنكر ذلك على قائله وجعله قولًا محدثا سعيد بن جبير وميمون بن مهران وقتادة وأيوب السختياني والنخعي والزهري وإبراهيم ويحيى بن أبي كثير وغيرهم على الثوري هو رأي محدث أدركنا الناس على غيره وقال الأوزاعي، وكان من مضى من السلف لا يفرقون بين العمل والإيمان وكتب عمر بن عبد العزيز إلى أهل الأمصار أما بعد فإن الإيمان فرائض وشرائع فمن استكملها استكمل الإيمان ومن لم يستكملها لم يستكمل الإيمان ذكره البخاري في صحيحه قيل الأمر على ما ذكره وقد دل على دخول الأعمال في الإيمان قوله تعالى {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} الأنفال.

وفي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي ﷺ قال لوفد عبد القيس آمركم بأربع الإيمان بالله وحده وهل تدرون ما الإيمان بالله شهادة أن لا إله إلا الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وأن تعطوا من المغنم الخمس.

وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبه فأفضلها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان ولفظه لمسلم.

وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن.

فلولا أن ترك هذه الكبائر من مسمى الإيمان لما انتفى اسم الإيمان عن مرتكب شيء منها لأن الاسم لا ينتفى إلا بانتفاء بعض أركان المسمى أو واجباته وأما وجه الجمع بين هذه النصوص وبين حديث سؤال جبريل عليه السلام عن الإسلام والإيمان وتفريق النبي ﷺ بينهما وإدخاله الأعمال في مسمى الإسلام دون الإيمان فإنه يتضح بتقرير أصل وهو أن من الأسماء ما يكون شاملًا لمسميات متعددة عند إفراده وإطلاقه فإذا قرن ذلك الاسم بغيره صار دالًا على بعض تلك المسميات والاسم المقرون به دال على باقيها وهذا كاسم الفقير والمسكين فإذا أفرد أحدهما دخل فيه كل من هو محتاج فإذا قرن أحدهما بالآخر دل أحد الاسمين على بعض أنواع ذوي الحاجات والآخر على باقيها فكهذا اسم الإسلام والإيمان إذا أفرد أحدهما دخل فيه الآخر ودل بانفراده على ما يدل عليه الآخر بانفراده فإذا قورن بينهما دل أحدهما على بعض ما يدل عليه بانفراده ودل الآخر على الباقي.

وقد صرح بهذا المعنى جماعة من الأئمة قال أبو بكر الإسماعيلي في رسالته إلى أهل الجبل قال كثير من أهل السنة والجماعة إن الإيمان قول وعمل والإسلام فعل ما فرض الله على الإنسان أن يفعله إذا ذكر كل اسم على حدته مضمومًا إلى آخر فقيل المؤمنون والمسلمون جميعا مفردين أريد بأحدهما معنى لم يرد به الآخر وإذا ذكر أحد الاسمين شمل الكل وعمهم.

وقد ذكر هذا المعنى أيضًا الخطابي في كتابه معالم السنن وتبعه عليه جماعة من العلماء من بعده ويدل على صحة ذلك أن النبي ﷺ فسر الإيمان في حديث جبريل وفسر في حديث آخر الإسلام بما فسر به الإيمان كما في مسند الإمام أحمد عن عمرو بن عنبسة قال جاء رجل إلى النبي ﷺ فقال يا رسول الله ما الإسلام قال أن تسلم قلبك لله وأن يسلم المسلمون من لسانك ويدك قال فأي الإسلام أفضل قال الإيمان قال وما الإيمان قال أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت قال فأي الأعمال أفضل قال الهجرة قال فما الهجرة قال أن تهجر السوء قال فأي الهجرة أفضل قال الجهاد فجعل النبي ﷺ الإيمان أفضل الإسلام وأدخل فيه الأعمال وبهذا التفصيل يظهر تحقيق القول في مسألة الإيمان والإسلام هل هما واحد أو مختلفان فإن أهل السنة والحديث مختلفون في ذلك وصنفوا في ذلك تصانيف متعددة فمنهم من يدعي أن جمهور أهل السنة على أنهما شيء واحد منهم محمد بن نصر المروزي وابن عبد البر وقد روي هذا القول عن سفيان الثوري من رواية أيوب بن سويد الرملي عنه وأيوب فيه ضعف ومنهم من يحكي عن أهل السنة التفريق بينهما كأبي بكر بن السمعاني وغيره وقد نقل هذا التفريق بينهما عن كثير من السلف منهم قتادة وداود بن أبي هند وأبو جعفر الباقر والزهري وحماد بن زيد وابن مهدي وشريك وابن أبي ذئب وأحمد بن حنبل وأبو خيثمة ويحيى بن معين وغيرهم على اختلاف بينهم في صفة التفريق بينهما، وكان الحسن وابن سيرين يقولان مسلم ويهابان مؤمن وبهذا التفصيل الذي ذكرناه يزول الاختلاف فيقال إذا أفرد كل من الإسلام والإيمان بالذكر فلا فرق بينهما حينئذ وإن قرن بين الاسمين كان بينهما فرق والتحقيق في الفرق بينهما أن الإيمان هو تصديق القلب وإقراره ومعرفته والإسلام هو استسلام العبد لله وخضوعه وانقياده له وذلك يكون بالعمل وهو الدين كما سمي الله في كتابه الإسلام دينا.

وفي حديث جبريل سمي النبي ﷺ الإسلام والإيمان والإحسان دينا وهذا أيضًا مما يدل على أن أحد الاسمين إذا أفرد دخل فيه الآخر وإنما يفرق بينهما حيث قرن أحد الاسمين بالآخر فيكون حينئذ المراد بالإيمان جنس تصديق القلب وبالإسلام جنس العمل.

وفي المسند للإمام أحمد عن أنس رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال الإسلام علانية والإيمان في القلب وهذا لأن الأعمال تظهر علانية والتصديق في القلب لا يظهر، وكان النبي ﷺ يقول في دعائه إذا صلى على الميت اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام ومن توفيته منا فتوفه على الإيمان لأن الأعمال بالجوارح وإنما يتمكن منه في الحياة فأما عند الموت فلا يبقى غير التصديق بالقلب ومن هنا قال المحققون من العلماء كل مؤمن مسلم فإن من حقق الإيمان ورسخ في قلبه قام بأعمال الإسلام كما قال ﷺ ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب فلا يتحقق القلب بالإيمان إلا وتنبعث الجوارح في أعمال الإسلام وليس كل مسلم مؤمنا فإنه قد يكون الإيمان ضعيفا فلا يتحقق القلب به تحقيقا تاما عمل مع جوارحه أعمال الإسلام فيكون مسلمًا وليس بمؤمن الإيمان التام كما قال تعالى {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا} الحجرات فلم يكونوا منافقين بالكلية على أصح التفسيرين وهو قول ابن عباس وغيره بل كان إيمانهم ضعيفا ويدل عليه قوله تعالى {وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا} الحجرات يعني لا ينقصكم من أجورها فدل على أن معهم من الإيمان ما يقبل به أعمالهم، وكذلك قول النبي ﷺ لسعد بن أبي وقاص لما قال له لم تعط فلانا وهو مؤمن فقال النبي ﷺ أو مسلم يشير إلى أنه لم يتحقق فإنما هو في مقام الإسلام الظاهر ولا ريب أنه متي ضعف الإيمان الباطن لزم منه ضعف أعمال الجوارح الظاهرة أيضًا لكن اسم الإيمان ينفي عمن ترك شيئًا من واجباته كما في قوله لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن وقد اختلف أهل السنة هل يسمى مؤمنا ناقص الإيمان أو يقال ليس بمؤمن لكنه مسلم على قولين وهما روايتان عن أحمد وأما اسم الإسلام فلا ينتفي بانتفاء بعض واجباته أو انتهاك بعض محرماته وإنما ينفي بالإتيان بما ينافيه بالكلية ولايعرف في شيء من السنة الصحيحة نفى الإسلام عمن ترك شيئًا من واجباته كما ينفي الإيمان عمن ترك شيئًا من واجباته وإن كان قد ورد إطلاق الكفر على فعل بعض المحرمات وإطلاق النفاق أيضًا وقد اختلف العلماء هل يسمى مرتكب الكبائر كافرًا صغيرًا أو منافقًا النفاق الأصغر ولا أعلم أن أحدًا منهم أجاز إطلاق نفى اسم الإسلام عنه إلا أنه روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال ما تارك الزكاة بمسلم ويحتمل أنه كان يراه كافرًا بذلك خارجا عن الإسلام، وكذلك روي عن عمر فيمن تمكن من الحج ولم يحج أنهم ليسوا بمسلمين والظاهر أنه كان يعتقد كفرهم ولهذا أراد أن يضرب عليهم الجزية بقوله لم يدخلوا في الإسلام بعد فهم مستمرون على كتابيتهم وإذا تبين أن اسم الإسلام لا ينتفي إلا بوجود ما ينافيه ويخرج عن الملة بالكلية فاسم الإسلام إذا أطلق أو اقترن به المدح دخل فيه الإيمان كله من التصديق وغيره كما سبق في حديث عمرو بن عنبسة.

وخرج النسائي من حديث عقبة بن مالك أن النبي ﷺ بعث سرية فغارت على قوم فقال رجل منهم إنى مسلم فقتله رجل من السرية فنمى الحديث إلى رسول الله ﷺ فقال فيه قولًا شديدًا فقال الرجل إنما قالها تعوذا من القتل فقال النبي ﷺ إن الله أبي على أن أقتل مؤمنا ثلاث مرات فلولا أن الإسلام المطلق يدخل فيه الإيمان والتصديق بالأصول الخمسة لم يصر من قال أنا مسلم مؤمنا بمجرد هذا القول وقد أخبر الله تعالى عن ملكة سبأ أنها دخلت في الإسلام بهذه الكلمة قالت رب إنى ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين النمل وأخبر عن يوسف عليه السلام أنه دعا بأن يموت على الإسلام وهذا كله يدل على أن الإسلام المطلق يدخل فيه ما يدخل في الإيمان من التصديق وفي سنن ابن ماجه عن عدي بن حاتم قال قال لي رسول الله ﷺ يا عدي أسلم تسلم قلت وما الإسلام قال أن تشهد أن لا إله إلا الله وتشهد إنى رسول الله وتؤمن بالأقدار كلها خيرها وشرها وحلوها ومرها فهذا نص في أن الإيمان بالقدر من الإسلام ثم إن الشهادتين من خصال الإسلام بغير نزاع وليس المراد الإتيان بلفظهما دون التصديق بهما فعلم أن التصديق بهما داخل في الإسلام وقد فسر الإسلام المذكور في قوله تعالى {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ} آل عمران بالتوحيد والتصديق طائفة من السلف منهم محمد بن جعفر بن الزبير وأما إذا نفي الإيمان عن أحد وأثبت له الإسلام كالأعراب الذين أخبر الله عنهم فإنه ينتفي عنهم رسوخ الإيمان في القلب وتثبت لهم المشاركة في أعمال الإسلام الظاهرة مع نوع إيمان يصحح لهم العمل إذ لولا هذا القدر من الإيمان لم يكونوا مسلمين وإنما نفي عنهم الإيمان لانتفاء ذوق حقائقه ونقص بعض واجباته وهذا مبني على أن التصديق القائم بالقلوب يتفاضل وهذا هو الصحيح وهو أصح الروايتين عن أبي عبدالله أحمد بن حنبل فإن إيمان الصديقين الذين يتجلى الغيب لقلوبهم يصير كأنه شهادة بحيث لا يقبل التشكيك والارتياب ليس كإيمان غيرهم ممن لا يبلغ هذه الدرجة بحيث لوشكك لدخله الشك ولهذا جعل النبي ﷺ مرتبة الإحسان أن يعبد العبد ربه كأنه يراه وهذا لا يحصل لعموم المؤمنين ومن هنا قال بعضهم ما سبقكم أبو بكر رضي الله عنه بكثرة صوم ولا صلاة ولكن بشيء وقر في صدره وسئل ابن عمر رضي الله عنهما هل كانت الصحابة رضي الله عنهم يضحكون فقال نعم وإن الإيمان في قلوبهم أمثال الجبال فأين هذا ممن الإيمان في قلبه ما يزن ذرة أو شعيرة كالذين يخرجون من أهل التوحيد من النار فهؤلاء يصح أن يقال لم يدخل الإيمان في قلوبهم لضعفه عندهم وهذه المسائل أعني مسائل الإسلام والإيمان والكفر والنفاق مسائل عظيمة جدًا فإن الله عز وجل علق بهذه الأسماء السعادة والشقاوة واستحقاق الجنة والنار والاختلاف في مسمياتها أول اختلاف وقع في هذه الأمة وهو خلاف الخوارج للصحابة حيث أخرجوا عصاة الموحدين من الإسلام بالكلية وأدخلوهم في دائرة الكفر وعاملوهم معاملة الكفار واستحلوا بذلك دماء المسلمين وأموالهم ثم حدث بعدهم خلاف بالمنزلة وقولهم بالمنزلة بين المنزلتين ثم حدث خلاف المرجئة وقولهم إن الفاسق مؤمن كامل الإيمان.

وقد صنف العلماء قديما وحديثًا في هذه المسائل تصانيف متعددة وممن صنف في الإيمان من أئمة السلف الإمام أحمد وأبو عبيد القاسم بن سلام وأبو بكر بن أبي شيبة ومحمد بن أسلم الطوسي وكثرت فيه التصانيف بعدهم من جميع الطوائف وقد ذكرنا هنا نكتة جامعة لأصول كثيرة من هذه المسائل والاختلاف فيها وفيه إن شاء الله كفاية.

فصل

قد تقدم أن الأعمال تدخل في مسمى الإسلام ومسمى الإيمان أيضًا وذكرنا ما يدخل في ذلك من أعمال الجوارح الظاهرة ويدخل في مسماها أيضًا أعمال الجوارح الباطنة فيدخل في أعمال الإسلام إخلاص الدين لله تعالى والنصح له والعباده وسلامة القلب لهم من الغش والحسد والحقد وتوابع ذلك من أنواع الأذى ويدخل في مسمى الإيمان وجل القلوب من ذكر الله وخشوعها عند سماع ذكره وكتابه وزيادة الإيمان بذلك وتحقيق التوكل على الله عز وجل وخوف الله سرًا وعلانية والرضا بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد ﷺ رسولًا واختيار تلف النفوس بأعظم أنواع الآلام على الكفر واستشعار قرب الله من العبد ودوام استحضاره وإيثار محبة الله ورسوله على محبة ما سواهما والحب في الله والبغض فيه والعطاء له والمنع له وأن يكون جميع الحركات والسكنات له وسماحة النفوس بالطاعة المالية والبدنية والاستبشار بعمل الحسنات والفرح بها والمساءة بعمل السيئات والحزن عليها وإيثار المؤمنين لرسول الله ﷺ على أنفسهم وأموالهم وكثرة الحياء وحسن الخلق ومحبة ما يحبه لنفسه لإخوانه المؤمنين ومواساة المؤمنين خصوصًا الجيران ومعاضدة المؤمنين ومناصرتهم والحزن بما يحزنهم ولنذكر بعض النصوص الواردة بذلك فأما ما ورد في دخوله في اسم الإسلام ففي مسند الإمام أحمد والنسائي عن معاوية بن حيدة قال قلت يا رسول الله بالذي بعثك بالحق ما الذي بعثك الله به قال الإسلام قلت وما الإسلام قال أن تسلم قلبك لله تعالى وأن توجه وجهك لله وأن تصلي الصلاة المكتوبة وتؤدي الزكاة المفروضة وفي رواية قلت وما آية الإسلام فقال أن تقول أسلمت وجهي لله وتخليت وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وكل المسلم على المسلم حرام وفي السنن عن جبير بن مطعم عن النبي ﷺ أنه قال في خطبته بالخيف من منى ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم إخلاص العمل لله ومناصحة ولاة الأمور ولزوم جماعة المسلمين فإن دعوتهم تحيط من ورائهم فأخبر أن هذه الثلاث الخصال تنفي الغل عن قلب المسلم.

وفي الصحيحين عن أبي موسى عن النبي ﷺ أنه سئل أي المسلمين أفضل قال من مسلم المسلمون من لسانه ويده وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال المسلم أخو المسلم فلا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره بحسب امريء من الشر أن يحقر أخاه المسلم كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه.

وأما ما ورد في دخوله في اسم الإيمان فمثل قوله ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق، وقوله {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} آل عمران، وقوله {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} المائدة، وقوله {وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} آل عمران.

وفي صحيح مسلم عن العباس بن عبد المطلب عن النبي ﷺ قال ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولًا والرضا بربوبية الله تتضمن الرضا بعبادته وحده لا شريك له وبالرضا بتدبيره للعبد وأختياره له والرضا بالإسلام دينا يتضمن أختياره على سائر الأديان والرضا بمحمد رسولًا يتضمن الرضا بجميع ما جاء به من عند الله وقبول ذلك بالتسليم والانشراح كما قال تعالى {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} النساء.

وفي الصحيحين عن أنس عن النبي ﷺ قال ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله وأن يكره أن يرجع إلى الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار وفي رواية وجد بهن حلاوة طعم الإيمان وفي بعض الروايات طعم الإيمان وحلاوته.

وفي الصحيحين عن أنس رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال لا يؤمن أحدكم أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين وفي رواية من أهله وماله والناس أجمعين.

وفي مسند الإمام أحمد عن أبي رزين العقيلي قال قلت يا رسول الله ما الإيمان قال أن تشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدًا عبده ورسوله وأن يكون الله ورسوله أحب إليك مما سواهما وأن تحترق في النار أحب إليك من أن تشرك بالله شيئًا وأن تحب غير ذي نسب لا تحبه إلا لله فإذا كنت كذلك فقد دخل حب الإيمان في قلبك كما دخل حب الماء للظمآن في اليوم القائظ قلت يا رسول الله كيف لي بأن أعلن إنى مؤمن قال ما من أمتي أو قال هذه الأمة عبد يعمل حسنة فيعلم أنها حسنة وأن الله مجازيه بها خيرًا ولا يعمل سيئة فيعلم أنها سيئة ويستغفر الله منها ويعلم أنه لا يغفرها إلا الله إلا وهو مؤمن.

وفي المسند وغيره عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال من سرته حسناته وساءته سيئاته فهو مؤمن.

وفي مسند بقي بن مخلد عن رجل سمع رسول الله ﷺ قال صريح الإيمان إذا أسأت أو ظلمت عبدك أو أمتك أو أحدًا من الناس صمت أو تصدقت وإذا أحسنت استبشر.

وفي مسند الإمام أحمد عن أبي سعيد عن النبي ﷺ قال المؤمنون في الدنيا على ثلاثة أجزاء الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذي يأمنه الناس على أموالهم وأنفسهم ثم الذي إذا أشرف على طمع تركه لله عز وجل.

وفيه أيضًا عن عمرو بن عنبسة قال قلت يا رسول الله ما الإسلام قال طيب الكلام وإطعام الطعام فقلت ما الإيمان قال الصبر والسماحة قلت أي الإسلام أفضل قال من سلم المسلمون من لسانه ويده قلت أي الإيمان أفضل قال خلق حسن وقد فسر الحسن البصري الصبر والسماحة فقال هو الصبر عن محارم الله والسماحة بأداء فرائض الله وفي الترمذي وغيره عن عائشة عن النبي ﷺ قال أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا.

وخرجه أبو داود وغيره من حديث أبي هريرة وخرجه البزار في مسنده من حديث عبدالله بن معاوية العامري عن النبي ﷺ قال ثلاث من فعلهن فقد طعم الإيمان من عبدالله وحده بأنه لا إله إلا هو وأعطي ذكاة ماله طيبة بها نفسه في كل عام فذكر الحديث وفي آخره فقال رجل فما تزكية المرء نفسه يا رسول الله قال أن يعلم أن الله معه حيثما كان.

وخرج أبو داود أول الحديث دون آخره.

وخرج الطبراني من حديث عبادة بن الصامت عن النبي ﷺ قال إن أفضل الإيمان أن تعلم أن الله معك حيثما كنت.

وفي الصحيحين عن عبدالله ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي ﷺ قال الحياء شعبة من الإيمان.

وخرج الإمام أحمد وابن ماجه من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنهم عن النبي ﷺ قال إنما المؤمن كالجمل الأنف حيثما قيد انقاد إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم.

وفي الصحيحين عن النعمان بن بشير رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر وفي رواية لمسلم المؤمنون كرجل واحد وفي رواية أيضًا المسلمون كرجل واحد إذا اشتكى عينه اشتكى كله وإن اشتكى رأسه اشتكى كله.

وفي الصحيحين عن أبي موسى رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا وشبك بين أصابعه.

وفي مسند الإمام أحمد عن سهل بن سعد رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال المؤمن في أهل الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد يألم المؤمن لأهل الإيمان كما يألم الجسد لما في الرأس وفي سنن أبي داود عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال المؤمن مرآة المؤمن المؤمن أخو المؤمن يكف عنه ضيعته ويحوطه من ورائه.

وفي الصحيحين عن أنس رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه وفي صحيح البخاري عن أبي شريح الكعبي رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال والله لا يؤمن والله لا يؤمن والله لا يؤمن قالوا من ذلك يا رسول الله قال من لا يأمن جاره بوائقة.

وخرج الحاكم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي ﷺ قال ليس المؤمن الذي يشبع وجاره جائع.

وخرج الإمام أحمد والترمذي من حديث سهل بن معاذ الجهني عن النبي ﷺ قال من أعطى لله ومنع لله وأحب لله وأبغض لله زاد أحمد وأنكح للتفقد استكمل إيمانه.

وفي رواية للإمام أحمد أنه سئل النبي ﷺ عن أفضل الإيمان فقال أن تحب لله وتبغض لله وتعمل لسانك في ذكر الله فقال وماذا يا رسول الله قال وأن تحب للناس ما تحب لنفسك وتكره لهم ما تكره لنفسك وفي رواية له وأن تقول خيرًا أو تصمت وفي هذا الحديث أن كثرة ذكر الله من أفضل الإيمان.

وخرج أيضًا من حديث عمرو بن الجموح أنه سمع النبي ﷺ يقول لا يستحق العبد صريح الإيمان حتى يحب لله ويبغض لله فإذا أحب لله وأبغض للتفقد استحق الولاية من الله تعالى.

وخرج أيضًا من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال إن أوثق عري الإيمان أن تحب في الله وتبغض في الله.

وقال ابن عباس رضي الله عنهما من أحب في الله وأبغض في الله ووالى في الله وعادى في الله فإنما ينال ولاية الله بذلك ولن يجد عبد طعم الإيمان وإن كثرت صلاته وصومه حتى يكون كذلك.

وقد صارت عامة مؤاخاة الناس على أمر الدنيا وذلك لا يجدي على أهله شيئًا خرجه ابن جرير الطبري ومحمد بن نصر المروزي.

فصل

وأما الإحسان فقد جاء ذكره في القرآن في مواضع تارة مقرونا بالإيمان وتارة مقرونا بالإسلام وتارة مقرونا بالتقوى أو بالعمل الصالح فالمقرون بالإيمان كقوله تعالى {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ إِذَا مَا اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} المائدة وكقوله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً} الكهف والمقرون بالإسلام كقوله تعالى {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ} البقرة وكقوله تعالى {وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ} لقمان الآية والمقرون بالتقوى كقوله تعالى {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} يونس.

قد ثبت في صحيح مسلم عن النبي ﷺ تفسير الزيادة بالنظر إلى وجه الله تعالى في الجنة وهذا مناسب لجعله جزاء لأهل الإحسان ولأن الإحسان هو أن يعبد المؤمن ربه في الدنيا على وجه الحضور والمراقبة كأنه يراه بقلبه وينظر إليه في حال عبادته فكان جزاء ذلك النظر إلى وجه الله عيانًا في الآخرة وعكس هذا ما أخبر الله تعالى به عن جزاء الله الكفار في الآخرة إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون المطففين وجعل ذلك جزاء لحالهم في الدنيا وهو تراكم الران على قلوبهم حتى حجبت عن معرفته ومراقبته في الدنيا فكان جزاؤهم على ذلك أن حجبوا عن رؤيته في الآخرة، وقوله ﷺ في تفسير الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه الخ يشير إلى أن العبد يعبد الله تعالى على هذه الصفة وهو استحضار قربه وأنه بين يديه كأنه يراه وذلك يوجب الخشية والخوف والهيبة والتعظيم كما جاء في رواية أبي هريرة رضي الله عنه أن تخشى الله كأنك تراه ويوجب أيضًا النصح في العبادة وبذل الجهد في تحسينها وإتمامها وإكمالها وقد وصى النبي جماعة من الصحابة بهذه الوصية كما روى إبراهيم الهجري عن أبي الأحوص عن أبي ذر رضي الله عنه قال أوصاني خليلي ﷺ أن أخشى الله كأني أراه فإن لم أكن أراه فإنه يراني وروي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال أخذ رسول الله ﷺ ببعض جسدي فقال اعبد الله كأنك تراه وخرجه النسائي من حديث زيد ابن أرقم مرفوعًا وموقوفا كن كأنك ترى الله فإن لم تكن تراه فإنه يراك.

وخرج الطبراني من حديث أنس رضي الله عنه أن رجلًا قال يا رسول الله حدثني بحديث واجعله موجزا فقال صل صلاة مودع فإنك إن كنت لا تراه فإنه يراك.

وفي حديث حارثة المشهور وقد روي من وجوه مرسلة وروي متصلا والمرسل أصح أن النبي ﷺ قال له يا حارثة كيف أصبحت قال أصبحت مؤمنا حقا قال انظر ما تقول فإن لكل قول حقيقة قال يا رسول الله عزفت نفسي عن الدنيا فأسهرت ليلي وأظمأت نهاري وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزا وكأني أنظر أهل الجنة في الجنة كيف يتزاورون فيها وكأني أنظر إلى أهل النار كيف يتعاوون فيها قال أبصرت فالزم عبدٌ نور الله الإيمان في قلبه.

وروي من حديث أبي أمامة رضي الله عنه أن النبي ﷺ وصى رجلًا فقال له استحي من الله استحياءك من رجلين من صالحي عشيرتك لا يفارقانك.

ويروى من وجه آخر مرسلًا استحي من ربك ويروى عن معاذ أن النبي ﷺ وصاه لما بعثه إلى اليمن فقال استحي من الله كما تستحي من رجل ذي هيبة من أهلك وسئل النبي ﷺ عن كشف العورة خاليا فقال الله أحق أن يستحيا منه.

ووصى أبو الدرداء رجلًا فقال له اعبد الله كأنك تراه وخطب عروة بن الزبير إلى ابن عمر ابنته وهما في الطواف فلم يجبه ثم لقيه بعد ذلك فاعتذر إليه وقال كنا في الطواف نتخايل الله بين أعيننا أخرجه أبو نعيم وغيره.

قوله ﷺ فإن لم تكن تراه فإنه يراك قيل إنه تعليل للأول فإنك العبد إذا أمر بمراقبة الله تعالى في العبادة واستحضار قربه من عبده حتى كأن العبد يراه فإنه قد يشق ذلك عليه فيستعين على ذلك بإيمانه بأن الله يراه ويطلع على سره وعلانيته وباطنه وظاهره ولا يخفى عليه شيء من أمره فإذا تحقق هذا المقام سهل عليه الانتقال إلى المقام الثاني وهو دوام التحقيق بالبصيرة إلى قرب الله من عبده ومعيته حتى كأنه يراه.

وقيل بل هو إشارة إلى أن من شق عليه أن يعبد الله تعالى كأنه يراه فليعبد الله على أن الله يراه ويطلع عليه فليستحي من نظره إليه.

كما قال بعض العارفين اتق الله أن يكون أهون الناظرين إليك.

وقال بعضهم خف الله على قدر قدرته عليك واستحي من الله على قدر قربه منك.

وقال بعض العارفين من السلف من عمل لله على المشاهدة فهو عارف ومن عمل على مشاهدة الله إياه فهو مخلص فيه إشارة إلى المقامين اللذين تقدم ذكرهما.

أحدهما: مقام الإخلاص وهو أن يعمل العبد على استحضار مشاهدة الله إياه واطلاعه وقربه منه فإذا استحضر العبد هذا في عمله وعمل عليه فهو مخلص لله تعالى لأن استحضاره ذلك في عمله يمنعه من الالتفات إلى غير الله وإرادته بالعمل.

والثاني: مقام المشاهدة وهو أن يعمل العبد على مقتضى مشاهدته لله تعالى بقلبه وهو أن يتنور القلب بالإيمان وتنفذ البصيرة في العرفان حتى يصبر الغيب كالعبادة وهذا هو حقيقة مقام الإحسان المشار إليه في حديث جبريل عليه السلام ويتفاوت أهل هذه المقامات فيه بحسب قوة نفوذ البصائر.

وقد فسر طائفة من العماء المثل الأعلى المذكور في قوله تعالى {وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} الروم بهذا المعنى ومثل قوله تعالى {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ} النور.

والمراد مثل نوره في قلب المؤمن كذا قال أبي بن كعب وغيره من السلف وقد سبق حديث أفضل الإيمان أن تعلم أن الله معك حيث كنت، وحديث ما تزكية المرء نفسه قال أن يعلم أن الله معه حيث كان.

وخرج الطبراني من حديث أبي أمامة عن النبي ﷺ قال ثلاثة في ظل الله تعالى يوم القيامة يوم لا ظل إلا ظله رجل حيث توجه علم أن الله معه وذكر الحديث وقد دل القرآن على هذا المعنى في مواضع متعددة كقوله تعالى {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ} الحديد، وقوله وإذا سألك عبادي عني فإني قريب، وقوله {مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} المجادلة، وقوله {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ} يونس، وقوله {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} ق، وقوله {وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ} النساء.

وقد وردت الأحاديث الصحيحة بالندب إلى استحضار هذا القرب في حال العبادات كقوله ﷺ إن أحدكم إذا قام يصلي فإنما يناجي ربه أو ربه بينه وبين القبلة.

وقوله إن الله قِبل وجهه إذا صلى، وقوله إن الله ينصب وجهه لوجه عبده في صلاته ما لم يلتفت، وقوله للذين رفعوا أصواتهم بالذكر إنكم لا تدعون أصم ولا غائبًا إنكم تدعون سميعًا قريبًا وفي رواية وهو أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته.

وفي رواية هو أقرب إلى أحدكم من حبل الوريد، وقوله كما يقول الله عز وجل أنا مع عبدي إذا ذكرني وتحركت بي شفتاه، وقوله يقول الله عز وجل أنا مع ظن عبدي بي وأنا معه حيث يذكرني فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه وإن تقرب منى شبرًا تقربت منه ذراعًا وإن تقرب منى ذراعًا تقربت منه باعًا وإن أتاني يمشي أتيته هرولة.

ومن فهم شيئًا من هذه النصوص تشبيهًا أو حلولًا أو اتحادًا فإنما أُتى من جهله وسوء فهمه عن الله عز وجل وعن رسوله.

والله ورسوله بريئان من ذلك كله فسبحان من {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}.

قال بكر المزني: من مثلك يا ابن آدم خلي بينك وبين المحراب وبين الماء كلما شئت دخلت على الله عز وجل ليس بينك وبينه ترجمان.

ومن وصل إلى استحضار هذا في حال ذكر الله وعبادته أستأنس بالله واستوحش من خلقه ضرورة.

قال ثور ابن يزيد: قرأت في بعض الكتب أن عيسى عليه السلام قال يا معشر الحواريين كلموا الله عز وجل كثيرًا وكلموا الناس قليلًا قالوا كيف نكلم الله كثيرًا قال ادخلوا بمناجاته اخلوا بدعائه خرجه أبو نعيم.

وخرج أيضًا بإسناده عن رباح قال كان رجل يصلي كل يوم وليلة ألف ركعة حتى أقعد من رجليه فكان يصلي جالسًا كل ليلة ألف ركعة فإذا صلى العصر احتبى واستقبل القبلة ويقول عجبت للخليقة كيف أنست بسواك بل عجبت للخليقة كيف أستأنست قلوبها بذكر سواك.

وقال أبو أسامة: دخلت على محمد بن النضر الحارثي فرأيته كأنه ينقبض فقلت: كأنك تكره أن تؤتى قال أجل فقلت أو ما تستوحش قال كيف أستوحش وهو يقول أنا جليس من ذكرني.

وقيل لمالك بن مغفل وهو جالس في بيته وحده ألا تستوحش قال أو يستوحش مع الله أحد.

وكان حبيب أبو محمد يخلو في بيته ويقول من لم تقر عينه بك فلا قرت عينه ومن لم يأنس بك فلا أنس.

وقال غزوان إنى أصبت راحة قلبي في مجالسة من لديه حاجتي.

وقال مسلم بن يسار ما تلذذ المتلذذون بمثل الخلوة بمناجاة الله عز وجل.

وقال مسلم بن عابد لولا الجماعة ما خرجت من بابي أبدًا حتى أموت.

وقال ما يجد المطيعون لله لذة في الدنيا أحلى من الخلوة بمناجاة سيدهم ولا أحسب لهم في الآخرة من عظيم الثواب أكبر في صدورهم وألذ في قلوبهم من النظر إليه ثم غشي عليه.

وعن إبراهيم بن أدهم قال أعلى الدرجات أن تنقطع إلى ربك وتستأنس إليه بقلبك وعقلك وجميع جوارحك حتى لا ترجوا إلا ربك ولا تخاف إلا ذنبك وترسخ محبته في قلبك حتى لا تؤثر عليها شيئًا فإذا كنت كذلك لم تنل في بر كنت أو في بحر أو في سهل أو في جبل، وكان شوقك إلى لقاء الحبيب شوق الظمآن إلى الماء البارد وشوق الجائع إلى الطعام الطيب ويكون ذكر الله عندك أحلى من العسل وأحلى من الماء العذب عند العطشان في اليوم الصائف.

وقال الفضيل: طوبى لمن استوحش من الناس، وكان الله جليسه.

وقال أبو سليمان لا آنسني الله إلا به أبدًا وقال معروف لرجل توكل على الله حتى يكون جليسك وأنيسك وموضع شكواك.

وقال ذو النون من علامات المحبين لله أن لا يأنسوا بسواه ولا يستوحشوا معه ثم قال إذا سكن القلب حب الله تعالى أنس بالله لأن الله أجل في صدور العارفين أن يحبوا سواه.

وكلام القوم في هذا الباب يطول ذكره جدًا وفيما ذكرنا كفاية إن شاء الله تعالى فمن تأمل ما أشرنا إليه مما دل عليه هذا الحديث العظيم على أن جميع العلوم والمعارف يرجع إلى هذا الحديث ويدخل تحته وأن جميع العلماء من فرق هذه الأمة لا تخرج علومهم التي يتكلمون فيها عن هذا الحديث وما دل عليه مجملا ومفصلا فإن الفقهاء إنما يتكلمون في العبادات التي هي من جملة خصال الإسلام ويضيفونه إلى ذلك الكلام في أحكام الأموال والأبضاع والدماء وكل ذلك من علم الإسلام كما سبق التنبيه عليه ويبقى كثير من علم الإسلام من الآداب والأخلاق وغير ذلك لا يتكلم عليه إلا القليل منهم ولا يتكلمون على معنى الشهادتين وهما أصل الإسلام كله والذين يتكلمون على أصول الديانات يتكلمون على الشهادتين وعلى الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والإيمان بالقدر والذين يتكلمون على علم المعارف والمعاملات يتكلمون على مقام الإحسان وعلى الأعمال الباطنة التي تدخل في الإيمان أيضًا كالخشية والمحبة والتوكل والرضا والصبر ونحو ذلك فانحصرت العلوم الشرعية التي يتكلم عليها فرق المسلمين في هذا الحديث ورجعت كلها إليه ففي هذا الحديث وحده كفاية ولله الحمد والمنة.

وبقي الكلام على ذكر الساعة من الحديث فقول جبريل عليه السلام أخبرني عن الساعة فقال النبي ﷺ ما المسئول عنها بأعلم من السائل يعني أن علم الخلق كلهم في وقت الساعة سواء وهذه إشارة إلى أن الله تعالى استأثر بعلمها ولهذا جاء أن العالم إذا سئل عن شيء لا يعلمه أن يقول لا أعلمه وأن ذا لا ينقصه شيئًا بل هو من ورعه ودينه لأن فوق كل ذي علم عليم في حديث أبي هريرة رضي الله عنه وقال النبي ﷺ في خمس لا يعلمهن إلا الله تعالى ثم تلا {إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} لقمان، وقوله عز وجل {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً} الآية.

وفي صحيح البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي ﷺ قال مفاتيح الغيب خمس لا يعلمهن إلا الله ثم تلا هذه الآية {إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} الآية.

وخرجه الإمام أحمد ولفظه أن النبي ﷺ قال أوتيت مفاتيح كل شيء إلا الخمس إن الله عنده علم الساعة.

وخرج أيضًا بإسناده عن ابن مسعود رضي الله عنه قال أوتي نبيكم ﷺ مفاتيح كل شيء غير خمس إن الله عنده علم الساعة الآية.

فقوله فأخبرني عن أمارتها يعني عن علاماتها التي تدل على اقترابها وفي حديث أبي هريرة أن النبي ﷺ قالسأحدثك عن أشراطها وهي علاماتها أيضًا وقد ذكر النبي ﷺ للساعة علامتين:

الأولى: أن تلد الأمة ربتها والمراد بربتها سيدتها ومالكتها وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه ربها وهذه إشارة إلى فتح البلاد وكثرة جلب الرقيق حتى تكثر السراري وتكثر أولادهن فتكون الأمة رقيقة لسيدها وأولاده منه بمنزلته فإن ولد السيد بمنزلة السيد فيصير ولد الأمة بمنزلة ربها وسيدها.

وذكر الخطابي أنه استدل بذلك من يقول إن أم الولد إنما تعتق على ولدها من نصيبه من ميراث والده وإنها تنتقل إلى أولادها بالميراث فتعتق عليهم وإنها قبل موت سيدها تباع قال وفي هذا الاستدلال نظر.

قلت قد استدل بعضهم به على عكس ذلك وأن أم الولد لا تباع وأنها تعتق بموت سيدها بكل حال لأنه جعل ولد الأمة ربها فكأن ولدها هو الذي أعتقها فصار عتقها منسوبا إليه لأنه سبب عتقها فصار كأنه مولاها.

وهذا كما روي عن النبي ﷺ أنه قال في أم ولده مارية لما ولدت إبراهيم عليه السلام أعتقها ولدها.

وقد استدل بهذا الإمام أحمد رضي الله عنه فإنه قال في رواية محمد بن الحكم عنه تلد الأمة ربتها تكثر أمهات الأولاد يقول إذا ولدت فقد عتقت لولدها وقال فيه حجة أن أمهات الأولاد لا يبعن.

وقد فسر قوله تلد الأمة ربتها بأنه يكثر جلب الرقيق حتى تجلب البنت فتعتق ثم تجلب الأم فتشتريها البنت وتستخدمها وهي جاهلة بأنها أمها وقد وقع هذا في الإسلام وقيل معناه أن الإماء تلدن الملوك.

وقال وكيع معناه تلد العجم العرب والعرب ملوك العجم وأرباب لهم.

والعلامة الثانية: أن ترى الحفاة العراة العالة والمراد بالعالة الفقراء كقوله تعالى {وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى}.

وقوله رعاء الشاء يتطاولون في البنيان هكذا في حديث عمر رضي الله عنه.

والمراد أن أسافل الناس يصيرون رؤساءهم وتكثر أموالهم حتى يتباهون بطول البنيان وزخرفته وإتقانه.

وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه ذكر ثلاث علامات منها أن تكون الحفاة العراة رؤساء الناس ومنها أن يتطاول رعاة البهم في البنيان وروى هذا الحديث عبدالله بن عطاء عن عبدالله بن بريدة فقال فيه وأن ترى الصم البكم العمي الحفاة رعاة الشاء يتطاولون في البنيان ملوك الناس قال فقام رجل فانطلق فقلنا يا رسول الله من هؤلاء الذين نعت قال هم العريب.

وكذا روى هذا الحديث بهذه اللفظة الأخيرة علي بن زيد عن يحيى بن يعمر عن ابن عمر وأما الألفاظ الأولى فهي في الصحيح من حديث أبي هريرة بمعناه، وقوله الصم البكم العمي إشارة إلى جهلهم وعدم علمهم وفهمهم وفي هذا المعنى أحاديث متعددة.

فخرج الإمام أحمد والترمذي من حديث حذيفة رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال لا تقوم الساعة حتى يكون أسعد الناس بالدنيا لكع بن لكع وفي صحيح ابن حبان عن أنس عن النبي ﷺ قال لا تنقضي الدنيا حتى تكون عند لكع بن لكع.

وخرج الطبراني من حديث أبي ذر رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال لا تقوم الساعة حتى يغلب على الدنيا لكع بن لكع.

وخرج الإمام أحمد والطبراني من حديث أنس رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال بين يدي الساعة سنون خداعة يتهم فيها الأمين ويؤتمن فيها المتهم وينطق فيها الرويبضة قالوا وما الرويبضة قال السفيه ينطق في أمر العامة وفي رواية الفاسق يتكلم في أمر العامة وفي رواية الإمام أحمد إن بين يدي الدجال سنين خداعة يصدق فيها الكاذب ويكذب فيها الصادق ويخون فيها الأمين ويؤمن فيها الخائن وذكر بقيته ومضمون ما ذكر من أشراط الساعة في هذا الحديث يرجع إلى أن الأمور توسد إلى غير أهلها كما قال النبي ﷺ لمن سأله عن الساعة إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة فإنه إذا صار الحفاة العراة رعاء الشاء وهم أهل الجهل والجفاء رؤساء الناس وأصحاب الثروة والأموال حتى يتطاولوا في البنيان فإنه يفسد بذلك نظام الدين والدنيا فإنه إذا كان رؤوس الناس من كان فقيرا عائلا فصار ملكا على الناس سواء كان ملكه عامًا أو خاصا في بعض الأشياء فإنه لا يكاد يعطى الناس حقوقهم بل يستأثر عليهم بما استولى عليهم من المال فقد قال بعض السلف لأن تمد يدك إلى فم التنين فيقضمها خير لك من أن تمدها إلى يد غني قد عالج الفقر وإذا كان مع هذا جاهلا جافيا فسد بذلك الدين لأنه لا يكون له همة في إصلاح دين الناس ولا تعليمهم بل همته في جباية المال وإكثاره ولا يبالي بما أفسد من دين الناس ولا بمن أضاع من أهل حاجاتهم وقال في حديث آخر لا تقوم الساعة حتى يسود كل قبيلة منافقوها وإذا كان ملوك الناس ورؤوسهم على هذه الحال انعكست سائر الأحوال فصدق الكاذب وكذب الصادق وائتمن الخائن وخون الأمين وتكلم الجاهل وسكت العالم أو عدم بالكلية كما صح عن النبي ﷺ أنه قال إن من أشراط الساعة أن يرفع العلم ويظهر الجهل وأخبر أنه يقبض العلم بموت العلماء حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساء جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا وقال الشعبي لا تقوم الساعة حتى يصير العلم جهلًا والجهل علمًا وهذا كله من انقلاب الحقائق في آخر الزمان وانعكاس الأمور وفي صحيح الحاكم عن عبدالله بن عمرو مرفوعًا إن من أشراط الساعة أن توضع الأخيار وترفع الأشرار وفي قوله يتطاولون في البنيان دليل على ذم التباهي والتفاخر خصوصًا بالتطاول في البنيان ولم يكن إطالة البناء معروفا في زمن النبي ﷺ وأصحابه رضي الله عنهم بل كان بنيانهم قصيرا بقدر الحاجة روى أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله ﷺ لا تقوم الساعة حتى يتطاول الناس في البنيان خرجه البخاري.

وخرج أبو داود من حديث أنس رضي الله عنه أن النبي ﷺ خرج فرأى قبة مشرفة فقال ما هذه قالوا هذه لفلان رجل من الأنصار فجاء صاحبها فسلم على رسول الله ﷺ فأعرض عنه فعل ذلك مرارا فهدمها الرجل وخرجه الطبراني من وجه آخر عن أنس أيضًا وعنده فقال النبي ﷺ كل بناء وأشار بيده هكذا على رأسه أكثر من هذا فهو وبال وقال في حديث ابن السائب عن الحسن كنت أدخل بيوت أزواج النبي ﷺ في خلافة عثمان رضي الله عنه فأتناول سقفها بيدي وروى عن عمر رضي الله عنه أنه كتب لا تطيلوا بناءكم فإنه شر أيامكم وقال يزيد بن أبي زياد قال حذيفة رضي الله عنه لسلمان ألا تبني لك مسكنا يا أبا عبدالله قال لم تجعلني ملكا قال لا ولكن تبني لك بيتًا من قصب وتسقفه بالبواري إذا قمت كاد أن يمس رأسك وإذا نمت كاد أن يمس طرفيك قال كأنك كنت في نفسي وعن عمار بن أبي عمار قال إذا رفع الرجل بناءه فوق سبعة أذرع نودي يا أفسق الفاسقين إلى أين خرجه كله ابن أبي الدنيا وقال يعقوب بن أبي شيبة في مسنده قال بلغني عن ابن أبي عائشة قال حدثنا ابن أبي شميل قال نزل المسلمون حول المسجد يعني بالبصرة في أخبية الشعر ففشا فيهم السرق فكتبوا إلى عمر فأذن لهم في اليراع فبنوا بالقصب فقشا فيهم الحريق فكتبوا إلى عمر فأذن لهم في المدر ونهي أن يرفع الرجل سمكه أكثر من سبعة أذرع وقال إذا بنيتم منه بيوتكم فابنوا منه المسجد قال ابن أبي عائشة، وكان عتبة بن غزوان بنى مسجد البصرة بالقصب وقال من صلى فيه وهو من قصب أفضل ممن صلى فيه وهو من لبن ومن صلى فيه وهو من لبن أفضل ممن صلى فيه وهو من اجر.

وخرج ابن ماجه من حديث أنس عن النبي ﷺ لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس في المساجد من حديث ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي ﷺ قال أراكم تشرفون مساجدكم بعدي كما شرفت اليهود كنائسها وكما شرفت النصارى بيعها وروي ابن أبي الدنيا بإسناده عن إسماعيل بن مسلم عن الحسن رضي الله عنه قال لما بنى رسول الله ﷺ مسجده قال ابنوه عريشا كعريش موسى عليه السلام قيل للحسن وما عريش موسى قال إذا رفع يده بلغ العريش يعني السقف.

====

الحديث الثالث

عن أبي عبد الرحمن عبدالله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما قال سمعت رسول الله ﷺ يقول بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وحج البيت وصوم رمضان . رواه البخاري ومسلم.

هذا الحديث خرجاه في الصحيحين من رواية عكرمة بن خالد عن ابن عمر رضي الله عنهما وخرجه مسلم من طريقين آخرين عن ابن عمر وله طرق أخر وقد روي هذا الحديث من رواية جرير بن عبدالله البجلي عن النبي ﷺ.

وخرج حديثه الإمام أحمد وقد سبق في الحديث الذي قبله ذكر الإسلام والمراد من هذا الحديث أن الإسلام مبني على هذه الخمس فهي كالأركان والدعائم لبنيانه وقد خرجه محمد بن نصر المروزي في كتاب الصلاة ولفظه بني الإسلام على خمس دعائم فذكره والمقصود تمثيل الإسلام بالبنيان ودعائم البنيان هذه الخمس فلا يثبت البنيان بدونها وبقية خصال الإسلام كتتمة البنيان فإذا فقد منها شيء نقص البنيان وهو قائم لا ينقص بنقص ذلك بخلاف نقص هذه الدعائم الخمس فإن الإسلام يزول بفقدها جميعا بغير إشكال، وكذلك يزول بفقد الشهادتين والمراد بالشهادتين الإيمان بالله ورسوله وقد جاء في رواية ذكرها البخاري تعليقا بني الإسلام على خمس الإيمان بالله ورسوله وذكر بقية الحديث وفي رواية لمسلم على خمس على أن توحد الله عز وجل.

وفي رواية له على أن تعبد الله وتكفر بما دونه وبهذا يعلم أن الإيمان بالله ورسوله داخل في ضمن الإسلام كما سبق في الحديث الماضي وأما إقام الصلاة فقد وردت أحاديث متعددة تدل على أن من تركها فقد خرج من الإسلام.

ففي صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال بين الرجل وبين الكفر والشرك ترك الصلاة وروى مثله من حديث بريدة وثوبان وأنس وغيرهم.

وخرج محمد بن نصر المروزي من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال لا تترك الصلاة متعمدًا فمن تركها متعمدًا فقد خرج من الملة وفي حديث معاذ رضي الله عنه عن النبي ﷺ رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة فجعل الصلاة كعمود الفسطاط الذي لا يقوم الفسطاط إلا به ولا يثبت إلا به ولو سقط العمود لسقط الفسطاط ولم يثبت بدونه.

وقال عمر رضي الله عنه لاحظ في الإسلام لمن ترك الصلاة.

وقال سعد رضي الله عنه وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه من تركها فقد كفر.

وقال عبدالله بن شقيق كان أصحاب رسول الله ﷺ لا يرون من الأعمال شيئًا تركه كفر إلا الصلاة.

وقال أبو أيوب السختياني ترك الصلاة كفر لا يختلف فيه.

وذهب إلى هذا القول جماعة من السلف والخلف وهو قول ابن المبارك وأحمد وإسحاق وحكى إسحاق عليه إجماع أهل العلم.

وقال محمد بن نصر المروزي هو قول جمهور أهل الحديث وذهب طائفة منهم إلى أن من ترك شيئًا من أركان الإسلام الخمس عمدا أنه كافر وروى ذلك عن سعيد بن جبير ونافع والحكم وهو رواية عن الإمام أحمد اختارها طائفة من أصحابه وهو قول ابن حبيب من المالكية.

وخرج الدارقطني وغيره من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال قيل يا رسول الله الحج في كل عام قال لو قلت نعم أوجب عليكم ولو وجب عليكم ما أطقتموه ولو تركتموه لكفرتم.

وخرج اللالكائي من طريق مؤمل قال حدثنا حماد بن زيد بن عمرو بن مالك البكرى عن أبي الجوزي عن ابن عباس ولا أحسبه إلا رفعه قال عرى الإسلام وقواعد الدين ثلاثة عليهن أسس الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله والصلاة وصوم رمضان من ترك منهم واحدة فهو بها كافر حلال الدم وتجده كثير المال لم يحج فلا يزال بذلك كافرًا ولا يحل بذلك دمه وتجده كثير المال ولا يزكي فلا يزال بذلك كافرًا ولا يحل دمه ورواه قتيبة بن سعيد بن حماد بن زيد مرفوعًا مختصرًا ورواه سعيد بن زيد أخو حماد عن عمرو بن مالك بهذا الإسناد مرفوعًا وقال ومن ترك منهن واحدة فهو بالله كافر ولا يقبل منه صرف ولا عدل وقد حل دمه وماله ولم يذكر ما بعده وقد روي عن عمر رضي الله عنه ضرب الجزية على من لم يحج وقال ليسوا بمسلمين وعن ابن مسعود أن تارك الزكاة ليس بمسلم وعن أحمد رواية أن ترك الصلاة والزكاة خاصة كفر دون الصيام والحج.

وقال ابن عيينة المرجئة سموا ترك الفرائض ذنبا بمنزلة ركوب المحارم وليس سواء لأن ركوب المحارم متعمدًا من غير استحلال معصية وترك الفرائض من غير جهل ولا عذر هو كفر وبيان ذلك في أمر إبليس وعلماء اليهود الذين أقروا ببعث النبي ﷺ بلسانهم ولم يعملوا بشرائعه وقد استدل أحمد وإسحق على كفر تارك الصلاة بكفر إبليس بترك السجود لآدم وترك السجود لله أعظم وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال إذا قرأ ابن آدم السجدة وسجد اعتزل إبليس يبكي ويقول يا ويلي أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة وأمرت بالسجود فأبيت فلي النار واعلم أن هذه الدعائم الخمس بعضها مرتبط ببعض وقد روي أنه لا يقبل بعضها بدون بعض كما في مسند الإمام أحمد عن زياد بن نعيم الحضرمي قال قال رسول الله ﷺ أربع فرضهن الله في الإسلام فمن أتي بثلاث لم يغنين عنه شيئًا حتى يأتي بهن جميعا الصلاة والزكاة وصوم رمضان وحج البيت وهذا مرسل وقد روي عن زياد عن عمار بن حزم عن النبي ﷺ وروي عن عثمان بن عطاء الخرساني عن أبيه عن ابن عمر قال قال رسول الله ﷺ الدين خمس لا يقبل الله منهن شيئًا دون شيء شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله وإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله وبالجنة والنار والحياة بعد الموت هذه واحدة والصلوات الخمس عمود الدين لا يقبل الله الإيمان إلا بالصلاة والزكاة طهور من الذنوب ولا يقبل الله الإيمان ولا الصلاة إلا بالزكاة فمن فعل هؤلاء الأربع ثم جاء رمضان فترك صيامه متعمدًا لم يقبل الله منه الإيمان ولا الصلاة ولا الزكاة فمن فعل هؤلاء الأربع ثم تيسر له الحج فلم يحج ولم يوصي بحجته ولم يحج عنه بعض أهله لم يقبل الله منه الأربع التي قبلها ذكره ابن أبي حاتم فقال سألت أبي عنه فقال هذا حديث منكر يحتمل أن هذا من كلام عطاء الخرساني قلت الظاهر أنه من تفسيره لحديث ابن عمر وعطاء من أجلاء علماء الشام وقال ابن مسعود من لم يزك فلا صلاة له ونفي القبول هنا لا يراد به نفي الصحة ولا وجوب الإعادة بتركه وإنما يراد بذلك انتفاء الرضا به ومدح عامله والثناء بذلك عليه في الملأ الأعلى والمباهاة به للملائكة فمن قام بهذه الأركان على وجهها حصل له القبول بهذا المعني ومن أتى ببعضها دون بعض لم يحصل له ذلك وإن كان لا يعاقب على ما أتى به منها عقوبة تاركه بل تبرأ به ذمته وقد يثاب عليه أيضًا ومن هاهنا يعلم أن ارتكاب بعض المحرمات التي ينقص بها الإيمان تكون مانعة من قبول بعض الطاعات ولو كان من بعض أركان الإسلام بهذا المعنى الذي ذكرناه كما قال النبي ﷺ من شرب الخمر لم تقبل له صلاة أربعين يومًا وقال من أتى عرافا فصدقه بما يقول لم تقبل له صلاة أربعين يومًا وقال أيما عبد أبق من مواليه لم تقبل له صلاة.

وحديث ابن عمر يستدل به على أن الاسم إذا شمل أشياء متعددة لم يزل زوال الاسم بزوال بعضها فيبطل بذلك قول من قال إن الإيمان لو دخلت فيه الأعمال للزم أن يزول بزوال عمل مما دخل في مسماه فإن النبي ﷺ جعل هذه الخمس دعائم الإسلام ومبانيه وفسر بها الإسلام في حديث جبرائيل وفي حديث طلحة بن عبدالله الذي فيه أن أعرابيًا سأل النبي ﷺ عن الإسلام ففسره له بهذه الخمس ومع هذا فالمخالفون في الإيمان يقولون لو زال من الإسلام خصلة واحدة أو أربع خصال سوى الشهادتين لم يخرج بذلك من الإسلام وقد روى بعضهم أن جبرائيل سأل النبي ﷺ عن شرائع الإسلام لا عن الإسلام وهذه اللفظة لم تصح عند أئمة الحديث ونقاده منهم أبو زرعة والرازي ومسلم بن الحجاج وأبو جعفر العقيلي وغيرهم وقد ضرب العلماء مثل الإيمان بمثل شجرة لها أصل وفروع وشعب فاسم الشجرة يشتمل على ذلك كله ولو زال شيء من شعبها وفروعها لم يزل عنه اسم الشجرة وإنما يقال هي شجرة ناقصة وغيرها أتم منها وقد ضرب الله مثل الإيمان بذلك في قوله تعالى {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء} إبراهيم. والمراد بالكلمة كلمة التوحيد وبأصلها التوحيد الثابت في القلوب وأكلها هو الأعمال الصالحة الناشئة منها وضرب النبي ﷺ مثل المؤمن والمسلم بالنخلة ولو زال شيء من فروع النخلة ومن ثمرها لم يزل بذلك عنها اسم النخلة بالكلية وإن كانت ناقصة الفروع أو الثمر ولم يذكر الجهاد في حديث ابن عمر هذا مع أن الجهاد أفضل الأعمال وفي رواية إن ابن عمر قيل له فالجهاد قال الجهاد حسن ولكن هكذا حدثنا رسول الله ﷺ خرجه الإمام أحمد وفي حديث معاذ بن جبل إن رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد وذروة سنامه أعلى شيء فيه ولكنه ليس من دعائمه وأركانه التي بني عليها وذلك لوجهين أحدهما أن الجهاد فرض كفاية عند جمهور العلماء ليس بفرض عين بخلاف هذه الأركان والثاني أن الجهاد لا يستمر فعله إلى آخر الدهر بل إذا نزل عيسى عليه السلام ولم يبق حينئذ ملة إلا ملة الإسلام فحينئذ تضع الحرب أوزارها ويستغني عن الجهاد بخلاف هذه الأركان فإنها واجبة على المؤمنين إلى أن يأتي أمر الله وهم على ذلك والله سبحانه وتعالى أعلم.

==========

الحديث الرابع

عن أبي عبد الرحمن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال حدثنا رسول الله ﷺ وهو الصادق المصدوق إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يومًا نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد فوالله الذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها . رواه البخاري ومسلم.

هذا حديث متفق على صحته وتلقته الأمة بالقبول ، رواه الأعمش عن زيد بن وهب عن ابن مسعود ومن طريقه خرجه الشيخان في صحيحيهما وقد روي عن محمد بن زيد الأسفاطي قال رأيت النبي ﷺ فيما يرى النائم فقلت يا رسول الله حديث ابن مسعود الذي حدث عنك فقال حدثني رسول الله ﷺ وهو الصادق المصدوق فقال ﷺ والذي لا إله غيره حدثته به أنا يقوله ثلاثًا ثم قال غفر الله للأعمش كما حدث به وغفر الله لمن حدث به قبل الأعمش ولمن حدث به بعده وقد روي عن ابن مسعود من وجوه أخر قوله ﷺ إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يومًا نطفة قد روي عن ابن مسعود تفسيره وروى الأعمش عن خيثمة عن ابن مسعود قال إن النطفة إذا وقعت في الرحم طارت في كل شعرة وظفر فتمكث أربعين يومًا ثم تنحدر في الرحم فتكون علقة قال فذلك جمعها خرجه ابن أبي حاتم وغيره وروي تفسير الجمع مرفوعًا بمعنى آخر فخرج الطبراني وابن منده في كتاب التوحيد من حديث مالك بن الحويرث أن النبي ﷺ قال إن الله تعالى إذا أراد خلق عبد فجامع الرجل المرأة طار ماؤه في كل عرق وعضو منها فإذا كان يوم السابع جمعه الله تعالى ثم أحضره في كل عرق له دون آدم في أي صورة ما شاء ركبك قال ابن منده إسناده متصل مشهور على رسم أبي عيسى والنسائي وغيرهما.

وخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني من رواية مظهر بن الهيثم عن موسى بن علي بن رباح عن أبيه عن جده أن النبي ﷺ قال لجده يا فلان ما ولد لك قال يا رسول الله وما عسى أن يولد لي إما غلام وإما جارية قال فمن يشبه قال جده عسى أن يشبه أمه أو أباه قال فقال النبي ﷺ لا يقولن أحدكم كذا إن النطفة إذا استقرت في الرحم أحضرها الله كل نسب بينها وبين آدم أما قرأت هذه الآية {فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ} قال سلكت.

وهذا إسناد ضعيف ومظهر عن موسى بن على عن أبيه أن أباه لم يسلم إلا في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه يعني أنه لا صحبة له.

ويشهد لهذا المعنى قول النبي ﷺ للذي قال له ولدت امرأتي غلامًا أسود قال لعله نزعه عرق.

قوله ثم يكون علقة مثل ذلك يعني أربعين يومًا والعلقة قطعة من دم ثم يكون مضغة مثل ذلك يعني أربعين يومًا والمضغة قطعة من لحم ثم يرسل الله إليه الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أم سعيد.

فهذا الحديث يدل على أنه ينقلب في مائة وعشرين يومًا في ثلاثة أطوار في كل أربعين يومًا منها يكون في طور فيكون في الأربعين الأولى نطفة ثم في الأربعين الثانية علقة ثم في الأربعين الثالثة مضغة ثم بعد المائة وعشرين يومًا ينفخ فيه الملك الروح ويكتب له هذه الأربع الكلمات.

وقد ذكر الله تعالى في القرآن في مواضع كثيرة تقلب الجنين في هذه الأطوار كقوله تعالى {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ} الحج.

وذكر هذه الأطوار الثلاثة النطفة والعلقة والمضغة في مواضع متعددة من القرآن وفي مواضع أخر ذكر زيادة عليها فقال في سورة المؤمنين {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن سُلالَةٍ مِّن طِينٍ. ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ. ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} المؤمنون فبهذه سبع تارات ذكرها الله في هذه الآية لخلق ابن آدم قبل نفخ الروح فيه، وكان ابن عباس رضي الله عنهما يقول خلق ابن آدم من سبع ثم يتلو هذه الآية وسئل عن العزل فقرأ هذه الآية ثم قال فهل يخلق أحد حتى تجري فيه هذه الصفة.

وفي رواية عنه قال وهل تموت نفس حتى تمر على هذا الخلق.

وروي عن رفاعة بن رافع قال جلس إلى عمر وعلي والزبير وسعد ونفر من أصحاب رسول الله ﷺ فتذاكروا العزل فقال لا بأس به فقال رجل إنهم يزعمون أنها الموءودة الصغرى فقال علي رضي الله عنه لا تكون موءودة حتى تمر على التارات السبع تكون سلالة من طين ثم تكون نطفة ثم تكون علقة ثم تكون مضغة ثم تكون عظامًا ثم تكون لحمًا ثم تكون خلقًا آخر فقال عمر رضي الله عنه صدقت أطال الله بقاءك.

وقد رخص طائفة من الفقهاء للمرأة في إسقاط ما في بطنها مال لم ينفخ فيه الروح وجعلوه كالعزل وهو قول ضعيف لأن الجنين ولد انعقد وربما تصور وفي العزل لم يوجد ولد بالكلية وإنما تسبب إلى منع انعقاده وقد لا يمتنع انعقاده بالعزل إذا أراد الله خلقه كما قال النبي لما سئل عن العزل قال لا عليكم أن لا تعزلوا إنه ما من نفس منفوسة إلا أن الله خلقها وقد صرح أصحابنا بأنه إذا صار الولد علقة لم يجز للمرأة إسقاطه لأنه ولد انعقد بخلاف النطفة فإنها لم تنعقد بعد وقد لا تنعقد ولدا.

وقد ورد في بعض الروايات في حديث ابن مسعود رضي الله عنه ذكر العظام وأنه يكون عظما أربعين يومًا فخرج الإمام أحمد من رواية علي بن زيد سمعت أبا عبيدة يحدث قال قال عبد الله قال رسول الله ﷺ إن النطفة تكون في الرحم أربعين يومًا على حالها لا تغير فإذا مضت الأربعون صارت علقة ثم مضغة كذلك ثم عظاما فإذا أراد الله تعالى أن يسوي خلقه بعث الله إليه ملكا وذكر بقية الحديث ويروى من حديث عاصم عن أبي وائل عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال إن النطفة إذا استقرت في الرحم تكون أربعين ليلة نطفة ثم تكون علقة أربعين ليلة ثم تكون عظاما أربعين ليلة ثم يكسو الله العظام لحما ورواية الإمام أحمد تدل على أن الجنين لا يكسى اللحم إلا بعد مائة وستين يومًا وهذا غلط لا ريب فيه فإنه بعد مائة وعشرين يومًا ينفخ فيه الروح بلا ريب كما سيأتي ذكره وعلي بن زيد هو ابن جدعان لا يحتج به وقد ورد في حديث حذيفة بن أسيد ما يدل على خلق العظام واللحم في أول الأربعين الثانية ففي صحيح مسلم عن حذيفة بن أسيد عن النبي ﷺ قال إذا مر بالنطفة اثنتان وأربعون ليلة بعث الله إليها ملكا فصورها وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظامها ثم قال يا رب ذكر أو أنثى فيقضي ربك ما شاء ويكتب الملك ثم يقول يا رب أجله فيقول ربك ما شاء ويكتب الملك ثم يقول يا رب رزقه فيقضي ربك ما شاء ويكتب الملك ثم يخرج الملك بالصحيفة في يده فلا يزيد على ما أمر ولا ينقص فظاهر هذا الحديث يدل على أن تصوير الجنين وخلق سمعه وبصره وجلده ولحمه وعظامه يكون في أول الأربعين الثانية فيلزم من ذلك أن يكون في الأربعين الثانية لحما وعظاما وقد تأول بعضهم ذلك على أن الملك يقسم النطفة إذا صارت علقة إلى أجزاء فيجعل بعضها للجلد وبعضها للحم وبعضها للعظام فيقدر ذلك كله قبل وجوده وهذا خلاف ظاهر الحديث بل ظاهره أن يصورها ويخلق هذه الأجزاء كلها وقد يكون خلق ذلك بتصويره وتقسيمه قبل وجود اللحم والعظام قد يكون هذا في بعض الأجنة دون بعض، وحديث مالك بن الحويرث المتقدم يدل على أن التصوير يكون في النطفة أيضًا في اليوم السابع وقد قال الله تعالى {إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ}.

وفسر طائفة من السلف أمشاج النطفة بالعروق التي فيها.

قال ابن مسعود رضي الله عنه أمشاجها عرقوها.

وقد ذكر علماء الطب ما يوافق ذلك وقالوا إن المني إذا وقع في الرحم حصل له زبدية ورغوة ستة أيام أو سبعة أيام وفي هذه الأيام تصور النطفة من غير استمداد من الرحم ثم بعد ذلك تستمد منه وابتداء الخطوط والنقط بعد هذا بثلاثة أيام وقد يتقدم يومًا ويتأخر يومًا ثم بعد ستة أيام وهو الخامس عشر من وقت العلوق ينفذ الدم إلى الجميع فيصير علقة ثم تتميز الأعضاء تميزًا ظاهرًا ويتنحى بعضها عن ممارسة بعض وتمتد لرطوبة النخاع ثم بعد تسعة أيام ينفصل الرأس عن المنكبين والأطراف عن الأصابع تميزًا يستبين في بعض ويخفى في بعض قالوا وأقل مدة يتصور فيها الذكر ثلاثون يومًا والزمان المعتدل في تصوير الجنين خمسة وثلاثون يومًا وقد يتصور في خمسة وأربعين يومًا قالوا ولم يوجد في الأسقاط ذكر تم قبل ثلاثين يومًا ولا لأنثى قبل أربعين يومًا فهذا يوافق ما دل عليه حديث حذيفة بن أسيد في التخليق في الأربعين الثانية ومصيره لحمًا فيها أيضًا.

وقد جعل بعضهم حديث بن مسعود على أن الجنين يغلب عليه في الأربعين الأولى وصف المني وفي الأربعين الثانية وصف العلقة وفي الأربعين الثالثة وصف المضغة وإن كانت خلقته قد تمت وتم تصويره وليس في حديث ابن مسعود ذكر وقت تصوير الجنين وقد روي عن ابن مسعود نفسه ما يدل عن أن تصويره قد يقع قبل الأربعين الثالثة أيضًا فروي الشعبي عن علقمة عن ابن مسعود رضي الله عنهم قال النطفة إذا استقرت في الرحم جاءها ملك فأخذها بكفه فقال أي رب مخلقة أم غير مخلقة فإن قيل غير مخلقة لم تكن نسمة وقذفتها الأرحام دما وإن قيل مخلقة قال أي رب ذكر أم أنثى شقي أم سعيد ما الأجل وما الأثر وبأي أرض تموت قال فيقال للنطفة من ربك فتقول الله فيقال من رازقك فتقول الله فيقال اذهب إلى أم الكتاب فإنك تجد فيه قصة هذه النطفة قال فتخلق فتعيش في أجلها وتأكل في رزقها وتطأ في أثرها حتى إذا جاء أجلها ماتت فدفنت في ذلك ثم تلا الشعبي هذه الآية {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ} الحج.

فإذا بلغت مضغة نكست في الخلق الرابع فكانت نسمة فإن كانت غير مخلقة قذفتها الأرحام دما وإن كانت مخلقة نكست نسمة خرجه ابن أبي حاتم وغيره وقد روى من وجه آخر عن ابن مسعود رضي الله عنه أن لا تصوير قبل ثمانين يومًا.

فروى السدي عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما.

وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود وعن ناس من أصحاب النبي ﷺ في قوله عز وجل {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاء} قال إذا وقعت النطفة في الأرحام طارت في الجسد أربعين يومًا ثم تكون علقة أربعين يومًا ثم تكون مضغة أربعين يومًا فإذا بلغ أن تخلق بعث الله ملكًا يصورها فيأتي الملك بتراب بين أصبعيه فيخلطه في المضغة ثم يعجنه بها ثم يصورها كما يؤمر فيقول أذكر أم أنثى شقي أم سعيد وما رزقه وما عمره وما أثره وما مصائبه فيقول الله تبارك وتعالى فيكتب الملك فإذا مات ذلك الجسد دفن حيث أخذ ذلك التراب خرجه ابن جرير الطبري في تفسيره ولكن السدي مختلف في أمره.

وكان الإملام أحمد ينكر عليه جمعه الأسانيد المتعددة للتفسير الواحد كما كان هو وغيره ينكرون على الواقدي جمعه الأسانيد المتعددة للحديث الواحد وقد أخذ طائفة من الفقهاء بظاهر هذه الرواية وتأولوا حديث ابن مسعود المرفوع عليها وقالوا أقل ما يتبين فيه خلق الولد أحد وثمانون يومًا لأنه لا يكون مضغة إلا في الأربعين الثالثة ولا يتخلق ويتصور قبل أن يكون مضغة وقال أصحابنا وأصحاب الشافعي بناء على هذا الأصل إنه لا تنقضي العدة ولا تعتق أم الولد إلا بالمضغة المخلقة وأقل ما يكون أن يتخلق ويتصور في أحد وثمانين يومًا وقال أحمد رحمه الله في العلقة هي دم لا يستبين فيها الخلق فإن كانت المضغة غير مخلقة فهل تنقضي بها العدة وتصير بها أم الولد مستولدة على قولين هما روايتان عن أحمد وإن لم يظهر فيها التخطيط ولكن كان خفيا لا يعرفه إلا أهل الخبرة من النساء فتشهدن بذلك قبلت شهادتين ولا فرق بين أن يكون بعد تمام أربعة أشهر أو قبلها عند أكثر العلماء ونص على ذلك الإمام أحمد في رواية خلق من أصحابه ونقل عنه ابنه صالح في الطفل يتبين خلقه في الأربعة قال الشعبي إذا نكس في الخلق الرابع كان مخلقا انقضت به العدة وعتقت به الأمة إذا كان لأربعة أشهر وكذا نقل عنه حنبل إذا اسقطت أم الولد فإن كانت خلقته تامة عتقت وانقضت به العدة وإذا دخل في الخلق الرابع في أربعة أشهر ينفخ فيه الروح وهذا يخالف رواية الجماعة عنه وقد قال أحمد في رواية عنه إذا تبين خلقه ليس فيه اختلاف فإنها تعتق بذلك إذا كانت أمة ونقل عنه أيضًا جماعة في العلقة إذا تبين أنها ولد أن الأمة تعتق بها وهو قول النخعي وحكى قولًا للشافعي ومن أصحابنا من طرد هذه الرواية عن أحمد في انقضاء العدة به أيضًا وهذا كله مبني على أنه يمكن التخليق في العلقة كما قد يستدل على ذلك بحديث حذيفة بن أسيد المتقدم أن يقال إن حديث حذيفة إنما يدل على أنه يتخلق إذا صار لحما وعظما وإن ذلك قد يقع في الأربعين الثانية لا في حال كونه علقة وفي ذلك نظر والله أعلم.

وما ذكره الأطباء يدل على أن العلقة تتخلق وتتخطط، وكذلك القوابل من النسوة يشهدن بذلك، وحديث مالك بن الحويرث يشهد بالتصوير في حال كون الجنين نطفة والله أعلم.

وما بقي في حديث ابن مسعود أن بعد مصيره مضغة أنه يبعث إليه الملك فيكتب الكلمات الأربع وينفخ فيه الروح وذلك كله بعد مائة وعشرين يومًا واختلفت ألفاظ روايات هذا الحديث في ترتيب الكتابة والنفخ ففي رواية البخاري في صحيحه ويبعث إليه الملك فيؤمر بأربع كلمات ثم ينفخ فيه الروح ففي هذه الرواية تصريح بتأخير نفخ الروح عن الكتابة وفي رواية خرجها البيهقي في كتاب القدر ثم يبعث الملك فينفخ فيه الروح ثم يؤمر بأربع كلمات وهذه الرواية تصرح بتقدم النفخ على الكتابة فإما أن يكون هذا من تصرف الرواة برواياتهم بالمعنى الذي يفهمونه وإما أن يكون المراد ترتيب الأخبار فقط لا ترتيب ما أخبر به وبكل حال فحديث ابن مسعود يدل على تأخير نفخ الروح في الجنين وكتابة الملك لأمره إلى بعد أربعة أشهر حتى تتم الأربعون الثالثة فأما نفخ الروح فقد روي صريحا عن الصحابة رضي الله عنهم أنه ينفخ فيه الروح بعد أربعة أشهر كما دل عليه ظاهر حديث ابن مسعود فروى زيد بن على عن أبيه عن على قال إذا تمت النطفة أربعة أشهر بعث الله إليها ملكا فينفخ فيها الروح في الظلمات فذلك قوله تعالى {ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ} المؤمنون خرجه ابن أبي حاتم وإسناده منقطع.

وخرج اللالكائي بإسناده عن ابن عباس قال إذا وقعت النطفة في الرحم مكثت أربعة أشهر وعشرا ثم نفخ فيه الروح ثم مكثت أربعين ليلة ثم بعث إليها ملك فنقفها في نقرة القفا وكتب شقيا أو سعيدا وفي إسناده نظر وفيه أن نفخ الروح يتأخر عن الأربعة الأشهر بعشرة أيام وبني الإمام أحمد مذهبه المشهور عنه على ظاهر حديث ابن مسعود وأن الطفل ينفخ فيه الروح بعد أربعة أشهر وأنه إذا سقط بعد تمام أربعة أشهر صلى عليه حيث كان قد نفخ فيه الروح ثم مات وحكى ذلك أيضًا عن سعيد بن المسيب وهو أحد قولي الشافعي وإسحاق ونقل غير واحد عن أحمد أنه قال إذا بلغ أربعة أشهر وعشرا ففي تلك العشر ينفخ فيه الروح ويصلي عليه وقال في رواية لأبي الحارث عنه تكون النسمة نطفة أربعين ليلة وعلقة أربعين ليلة ومضغة أربعين ليلة ثم تكون عظما ولحما فإذا تم أربعة أشهر وعشرا نفخ فيه الروح وظاهر هذه الرواية أنه لا ينفخ فيه الروح إلا بعد تمام أربعة أشهر وعشر كما روي عن ابن عباس والروايات التي قبل هذه عن أحمد أنها تدل على أنه ينفخ فيه الروح في مدة العشر بعد تمام الأربعة وهذا هو المعروف عنه وكذا قال ابن المسيب لما سئل عن عدة الوفاة حيث جعلت أربعة أشهر وعشرا ما بال العشر قال ينفخ فيه الروح وأما أهل الطب فذكروا أن الجنين إن تصور في خمسة وثلاثين يومًا تحرك في سبعين يومًا وولد في مائتين وعشرة أيام وذلك سبعة أشهر وربما تقدم أياما وتأخر في التصوير والولادة وإذا كان التصوير في خمسة وأربعين يومًا تحرك في تسعين يومًا وولد في مائتين وسبعين يومًا وذلك تسعة أشهر والله أعلم.

وأما كتابة الملك فحديث ابن مسعود يدل على أنها تكون بعد أربعة أشهر أيضًا على ما سبق.

وفي الصحيحين عن أنس عن النبي ﷺ قال وكل الله بالرحم ملكا يقول أي رب نطفة أي رب علقة أي رب مضغة فإذا أراد الله أن يقضي خلقا قال يا رب أذكر أم أنثى أشقي أم سعيد فما الرزق فما الأجل فيكتب كذلك في بطن أمه وظاهر هذا يوافق حديث ابن مسعود لكن ليس فيه تقدير المدة، وحديث حذيفة ابن أسيد الذي تقدم يدل على أن الكتابة تكون في أول الأربعين الثانية وخرجه مسلم أيضًا بلفظ آخر من حديث حذيفة بن أسيد يبلغ به النبي ﷺ قال يدخل الملك على النطفة بعد ما تستقر في الرحم بأربعين أو خمسة وأربعين ليلة فيقول يا رب أشقي أم سعيد فيكتبان فيقول أي رب أذكر أم أنثى فيكتبان ويكتب عمله وأثره وأجله ورزقه ثم تطوى الصحف فلا يزاد فيها ولا ينقص وفي رواية أخرى لمسلم أيضًا إن النطفة تقع في الرحم أربعين ليلة يتسور عليها الملك فيقول يا رب أذكر أم أنثى وذكر الحديث وفي رواية أخرى لمسلم أيضًا لبضع وأربعين ليلة.

وفي مسند الإمام أحمد من حديث جابر عن النبي ﷺ قال إذا استقرت النطفة في الرحم أربعين يومًا أو أربعين ليلة بعث إليها ملك فيقول يا رب شقي أم سعيد فيعلم وقد سبق ما رواه الشعبي عن علقمة عن ابن مسعود من قوله وظاهره يدل على أن الملك يبعث إليه وهو نطفة.

وقد روي عن ابن مسعود من وجهين آخرين أنه قال إن الله عز وجل تعرض عليه كل يوم أعمال بني آدم فينظر فيها ثلاث ساعات ثم يؤتى بالأرحام فينظر فيها ثلاث ساعات وهو قوله {يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاء} آل عمران، وقوله {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاء إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاء الذُّكُورَ} الشورى ويؤتى بالأرزاق فينظر فيها ثلاث ساعات وتسبحه الملائكة ثلاث ساعات قال فهذا من شأنكم وشأن ربكم ولكن ليس في هذا توقيت ما ينظر فيه من الأرحام بمدة.

وقد روي عن جماعة من الصحابة أن الكتابة تكون في الأربعين الثانية فخرج اللالكائي بإسناده عن عبدالله بن عمرو بن العاص قال إذا مكثت النطفة في رحم المرأة أربعين ليلة جاءها الملك فاختلجها ثم عرج بها إلى الرحمن عز وجل فيقول اخلق يا أحسن الخالقين فيقضي الله فيها ما يشاء من أمره ثم تدفع إلى الملك عند ذلك فيقول يا رب أسقط أم تمام فيبين له فيقول يا رب أناقص الأجل أم تام الأجل فيبين له فيقول يا رب أواحد أم توأم فيبين له فيقول يا رب أذكر أم أنثي فيبين له فيقول يا رب أشقي أم سعيد فيبين له ثم يقول يا رب اقطع له رزقه فيقطع له رزقه مع أجله فيهبط بهما جميعًا فوالذي نفسي بيده لا ينال من الدنيا إلا ما قسم له.

وخرج ابن أبي حاتم بإسناده عن أبي ذر رضي الله عنه قال إن المني يمكث في الرحم أربعين ليلة فيأتيه ملك النفوس فيعرج به إلى الرحمن عز وجل فيقول يا رب أذكر أم أنثى فيقضي الله عز وجل ما هو قاض ثم يقول يا رب أشقي أم سعيد فيكتب ما هو لاق بين يديه ثم تلا أبو ذر يقول يا رب أشقي أم سعيد فيكتب ما هو لاق بين يديه ثم تلا أبو ذر من فاتحة سورة التغابن إلى قوله {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} التغابن فهذا كله يوافق ما في حديث حذيفة بن أسيد وقد تقدم عن ابن عباس رضي الله عنهما أن كتابة الملك تكون بعد نفخ الروح بأربعين ليلة وأن إسناده فيه نظر.

وقد جمع بعضهم بين هذه الأحاديث والآثار وبين حديث ابن مسعود فأثبت الكتابة مرتين وقد يقال مع ذلك إن أحدهما في السماء والآخر في بطن الأم والأظهر والله أعلم أنها مرة واحدة ولعل ذلك يختلف باختلاف الأجنة فبعضهم يكتب له ذلك بعد الأربعين الأولى وبعضهم بعد الأربعين الثالثة وقد يقال إن لفظة ثم في حديث ابن مسعود إنما يراد به ترتيب الأخبار لا ترتيب المخبر عنه في نفسه والله أعلم.

ومن المتأخرين من رجح أن الكتابة تكون في أول الأربعين الثانية كما دل عليه حديث حذيفة بن أسيد وقال إنما أخر ذكرها في حديث ابن مسعود إلى ما بعد ذكر المضغة وأن ذكره بلفظ ثم لئلا ينقطع ذكر الأطوار الثلاثة التي ينقلب فيها الجنين وهو كونه نطفة وعلقة ومضغة فإن ذكر هذه الثلاثة على نسق واحد أعجب وأحسن ولذلك أخر المعطوف عليها وإن كان المعطوف متقدما على بعضها في الترتيب واستشهد لذلك بقوله {وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِن طِينٍ} الآية.

والمراد بالإنسان آدم عليه السلام ومعلوم أن تسويته ونفخ الروح فيه كان قبل جعل نسله من سلالة من ماء مهين لكن لما كان المقصود ذكره قدرة الله عز وجل في مبدأ خلق آدم وخلق نسله عطفت أحدهما على الآخر وأخر ذكر تسوية آدم ونفخ الروح وإن كان ذلك متوسطا بين خلق آدم من طين وبين خلق نسله والله أعلم.

وقد ورد أن هذه الكتابة تكتب بين عيني الجنين ففي مسند البزار عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي ﷺ قال إذا خلق الله النسمة قال ملك الأرحام أي رب أذكر أم أنثي قال فيقضي الله إليه أمره ثم يقول أي رب أشقي أم سعيد فيقضي الله إليه أمره ثم يكتب بين عينيه ما هو لاق حتى النكبة ينكبها وقد ورد موقوفا عن ابن عمر غير مرفوع، وحديث حذيفة بن أسيد المتقدم صريح في أن الملك يكتب ذلك في صحيفته ولعله يكتب في صحيفته ويكتب بين عيني الولد وقد روي أنه تقترن بهذه الكتابة أنه يخلق مع الجنين ما تضمنت من صفاته القائمة فروي عن عائشة رضي الله عنها عن النبي ﷺ قال إن الله إذا أراد أن يخلق الخلق بعث ملكا فدخل الرحم فيقول أي رب ماذا فيقول غلام أو جارية أو ما شاء أن يخلق في الرحم فيقول أي رب أشقي أم سعيد ويقول أي رب ما أجله فيقول كذا وكذا فيقول ما خلقه ما خلائقه فيقول كذا كذا فما من شيء إلا وهو يخلق معه في الرحم خرجه أبو داود في كتاب القدر والبزار في مسنده وبكل حال فهذه الكتابة التي تكتب للجنين في بطن أمه غير كتابة المقادير السابقة لخلق الخلائق المذكورة في قوله تعالى {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنفُسِكُمْ} الحديد الآية.

كما في صحيح مسلم عن عبدالله بن عمرو عن النبي ﷺ قال إن الله قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة وفي حديث عبادة بن الصامت عن النبي ﷺ قال أول ما خلق الله القلم قال له اكتب فجري بما هو كائن إلى يوم القيامة.

وقد سبق ذكر ما روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أن الملك إذا سأل عن حال النطفة أمر أن يذهب إلى الكتاب السابق ويقال له إنك تجد فيه قصة هذه النطفة وقد تكاثرت النصوص بذكر الكتاب السابق بالسعادة والشقاوة ففي الصحيحين عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن النبي ﷺ أنه قال ما من نفس منفوسة إلا وقد كتب الله مكانها من الجنة أو النار وإلا قد كتبت شقية أو سعيدة فقال رجل يا رسول الله أفلا نمكث على كتابنا ندع العمل فقال اعملوا فكل ميسر لما خلق له أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة ثم قرأ فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى الليل وفي هذا الحديث أن السعادة والشقاوة قد سبق الكتاب بهما وأن ذلك مقدر بحسب الأعمال وأن كلا ميسر لما خلق له من الأعمال التي هي سبب السعادة والشقاوة.

وفي الصحيحين عن عمران بن حصين قال قال رجل يا رسول الله أيعرف أهل الجنة من أهل النار قال نعم قال فلم يعمل العاملون قال كل يعمل لما خلق له أو لما يسر له.

وقد روى هذا المعنى عن النبي ﷺ من وجوه كثيرة، وحديث ابن مسعود فيه أن السعادة والشقاوة بحسب خواتيم الأعمال.

وقد قيل إن قوله في آخر الحديث فوالذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه إلى آخر الحديث مدرج من كلام ابن مسعود كذلك رواه مسلم بن كهيل عن زيد بن وهب عن ابن مسعود من قوله قد روى هذا المعنى عن النبي ﷺ من وجوه متعددة أيضًا وفي صحيح البخاري عن سهل بن سعد عن النبي ﷺ قال إنما الأعمال بالخواتيم وفي صحيح ابن حبان عن عائشة رضي الله عنهما عن النبي ﷺ قال إنما الأعمال بالخواتيم وفيه أيضًا عن معاوية قال سمعت النبي ﷺ يقول إنما الأعمال بخواتيمها كالوعاء إذا طاب أعلاه طاب أسفله وإذا خبث أعلاه خبث أسفله وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال إن الرجل ليعمل الزمان الطويل بعمل أهل الجنة ثم يختم له عمله بعمل أهل النار وإن الرجل ليعمل الزمان الطويل بعمل أهل النار ثم يختم له عمله بعمل أهل الجنة.

وخرج الإمام أحمد رحمه الله من حديث أنس رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال لا عليكم أن لا تعجبوا بأحد حتى تنظروا بم يختم له فإن العامل يعمل زمانا من عمره أو برهة من دهره بعمل صالح لو مات عليه دخل الجنة ثم يتحول فيعمل عملًا سيئا وإن العبد ليعمل البرهة من عمره بعمل سييء لو مات عليه دخل النار ثم يتحول فيعمل عملًا صالحًا.

وخرج أيضًا من حديث عائشة رضي الله عنها عن النبي ﷺ قال إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة وهو مكتوب في الكتاب من أهل النار فإذا كان قبل موته تحول يعمل بعمل أهل النار فمات فدخل النار وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار وإنه لمكتوب في الكتاب من أهل الجنة فإذا كان قبل موته تحول فعمل بعمل أهل الجنة فمات فدخلها.

وخرج الإمام أحمد والنسائي والترمذي من حديث عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما قال خرج علينا رسول الله ﷺ وفي يده كتابان فقال أتدرون ما هذان الكتابان فقلنا لا يا رسول الله إلا أن تخبرنا فقال للذي في يده اليمني هذا الكتاب من رب العالمين فيه أسماء أهل الجنة وأسماء آبائهم وقبائلهم ثم أجمل على آخرهم فلا يزاد فيه ولا ينقص منه أبدًا ثم قال للذي في شماله هذا كتاب من رب العالمين فيه أسماء أهل النار وأسماء آبائهم وقبائلهم ثم أجمل على آخرهم فلا يزاد فيه ولا ينقص منه أبدًا فقال أصحابه ففيم العمل يا رسول الله إن كان أمرا قد فرغ منه فقال سددوا وقاربوا فإن صاحب الجنة يختم له بعمل أهل الجنة وإن عمل أي عمل وإن صاحب النار يختم له بعمل أهل النار وإن عمل أي عمل ثم قال رسول الله ﷺ بيديه فنبذهما ثم قال فرغ ربكم من العباد فريق في الجنة وفريق في السعير وقد روى هذا الحديث عن النبي ﷺ من وجوه متعددة وخرجه الطبراني من حديث علي بن أبي طالب عن النبي ﷺ وزاد فيه صاحب الجنة مختوم له بعمل أهل الجنة وصاحب النار مختوم له بعمل أهل النار وإن عمل أي عمل وقد يسلك بأهل السعادة طريق أهل الشقاوة حتى يقال ما أشبههم بهم بل هم منهم وتدركهم السعادة فتستنقذهم وقد يسلك بأهل الشقاوة طريق أهل السعادة حتى يقال ما أشبههم بهم بل هم منهم وتدركهم الشقاوة من كتبه الله سعيدا في أم الكتاب لم يخرجه من الدنيا حتى يستعمله بعمل يسعده قبل موته ولو بفواق ناقة ثم قال الأعمال بخواتيمها الأعمال بخواتيمها.

وخرج البزار في مسنده بهذا المعنى أيضًا من حديث ابن عمر عن النبي ﷺ.

وفي الصحيحين عن سهل بن سعد أن النبي ﷺ التقي هو والمشركون وفي أصحابه رجل لا يدع شاذة ولا فاذة إلا اتبعها يضربها بسيفه فقالوا ما أجزأ منا اليوم أحد كما أجزأ فلان فقال رسول الله ﷺ هو من أهل النار فقال رجل من القوم أنا أصاحبه فأتبعه فجرح الرجل جرحا شديدًا فاستعجل الموت فوضع نصل سيفه على الأرض وذبابه بين ثدييه ثم تحامل على سيفه فقتل نفسه فخرج الرجل إلى رسول الله ﷺ فقال أشهد أنك رسول الله وقص عليه القصة فقال رسول الله ﷺ إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار فيما يبدو للناس وهو من أهل الجنة زاد البخاري رواية إنما الأعمال بالخواتيم، وقوله فيما يبدو للناس إشارة إلى أن باطن الأمر يكون بخلاف ذلك وإن خاتمة السوء تكون بسبب دسيسة باطنة للعبد لا يطلع عليها الناس إما من جهة عمل سييء ونحو ذلك فتلك الخصلة الخفية توجب سوء الخاتمة عند الموت، وكذلك قد يعمل الرجل عمل أهل النار وفي باطنه خصلة خفيه من خصال الخير فتغلب عليه تلك الخصلة في آخر عمره فتوجب له حسن الخاتمة قال عبد العزيز بن أبي رواد حضرت رجلًا عند الموت يلقن الشهادة لا إله إلا الله فقال في آخر ما قال هو كافر بما تقول ومات على ذلك قال فسألت عنه فإذا هو مدمن خمر، وكان عبد العزيز يقول اتقوا الذنوب فإنها هي التي أوقعته وفي الجملة فالخواتيم ميراث السوابق فكل ذلك سبق في الكتاب السابق ومن هنا كان يشتد خوف السلف من سوء الخواتيم ومنهم من كان يقلق من ذكر السوابق وقد قيل إن قلوب الأبرار معلقة بالخواتيم يقولون بماذا يختم لنا وقلوب المقربين معلقة بالسوابق يقولون ماذا سبق لنا وبكى بعض الصحابة عند موته فسئل عن ذلك فقال سمعت رسول الله ﷺ يقول إن الله تعالى قبض خلقه قبضتين فقال هؤلاء في الجنة وهؤلاء في النار ولا أدري في أي القبضتين كنت.

قال بعض السلف ما أبكى العيون ما أبكاها الكتاب السابق وقال سفيان لبعض الصالحين هل أبكاك قط علم الله فيك فقال له ذلك الرجل تركني لا أفرح أبدًا.

وكان سفيان يشتد قلقه من السوابق والخواتيم فكان يبكي ويقول أخاف أن أكون في أم الكتاب شقيا ويبكي ويقول أخاف أن أسلب الإيمان عند الموت.

وكان مالك بن دينار يقوم طول ليله قابضا على لحيته ويقول يا رب قد علمت ساكن الجنة من ساكن النار ففي أي الدارين منزل مالك.

وقال حاتم الأصم من خلا قلبه من ذكر أربعة أخطار فهو مغتر فلا يأمن الشقاء الأول خطر يوم الميثاق حين قال هؤلاء في الجنة ولا أبالي وهؤلاء في النار ولا أبالي فلا يعلم في أي الفريقين كان والثاني حين خلق في ظلمات ثلاث فنادى الملك بالشقاوة والسعادة ولا يدري أمن الأشقياء هو أم من السعداء والثالث ذكر هول المطلع فلا يدري أيبشر برضا الله أم بسخطه والرابع يوم يصدر الناس أشتاتا فلا يدري أي الطريقين يسلك به وقال سهل التستري المريد يخاف أن يبتلى بالمعاصي والعارف يخاف أن يبتلى بالكفر ومن هنا كان الصحابة ومن بعدهم من السلف الصالح يخافون على أنفسهم النفاق ويشتد قلقهم وجزعهم منه فالمؤمن يخاف على نفسه النفاق الأصغر ويخاف أن يغلب ذلك عليه عند الخاتمة فيخرجه إلى النفاق الأكبر كما تقدم أن دسائس السوء الخلفية توجب سوء الخاتمة وقد كان النبي ﷺ يكثر أن يقول في دعائه يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك فقيل له يا نبي الله آمنا بك وبما جئت به فهل تخاف علينا فقال نعم إن القلوب بين اصبعين من أصابع الرحمن عز وجل يقلبها كيف شاء خرجه الإمام أحمد والترمذي من حديث أنس.

وخرج الإمام أحمد من حديث أم سلمة أن النبي ﷺ كان يكثر في دعائه أن يقول اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك فقلت يا رسول الله أو إن القلوب لتتقلب قال نعم ما من خلق الله من بني آدم من بشر إلا أن قلبه بين اصبعين من أصابع الله عز وجل فإن شاء عز وجل أقامه وإن شاء أزاغه فنسأل الله ربنا أن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا ونسأله أن يهب لنا من لدنه رحمة إنه هو الوهاب قالت قلت يا رسول الله ألا تعلمني دعوة أدعو بها لنفسي قال بلى وقولي اللهم رب النبي محمد ﷺ اغفر لي ذنبي وأذهب غيظ قلبي وأجرني من مضلات الفتن ما أحييتني وفي هذا المعنى أحاديث كثيرة. وخرج مسلم من حديث عبدالله بن عمرو سمعت رسول الله ﷺ يقول إن قلوب بني آدم كلها بين اصبعين من أصابع الرحمن عز وجل كقلب واحد يصرفه حيث يشاء ثم قال رسول الله ﷺ اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك.

===========

الحديث الخامس

عن أم المؤمنين أم عبدالله عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله ﷺ: من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد. رواه البخاري ومسلم وفي رواية لمسلم: من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد .

هذا الحديث خرجاه في الصحيحين من رواية القاسم بن محمد عن عمته عائشة رضي الله عنها وألفاظه مختلفة ومعناها متقارب وفي بعض ألفاظه من أحدث في ديننا ما ليس فيه فهو رد وهذا الحديث أصل عظيم من أصول الإسلام كما أن حديث الأعمال بالنيات ميزان للأعمال في باطنها وهو ميزان للأعمال في ظاهرها فكما أن كل عمل لا يراد به وجه الله تعالى فليس لعامله فيه ثواب فكذلك كل عمل لا يكون عليه أمر الله ورسوله فهو مردود على عامله وكل من أحدث في الدين ما لم يأذن به الله ورسوله فليس من الدين في شيء وسيأتي حديث العرباض بن سارية عن النبي ﷺ أنه قال من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرًا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة، وكان ﷺ يقول في خطبته إن أصدق الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد ﷺ وشر الأمور محدثاتها وسنؤخر الكلام على المحدثات إلى ذكر حديث العرباض المشار إليه ونتكلم هاهنا على الأعمال التي ليس عليها أمر الشارع وردها فهذا الحديث بمنطوقه يدل على أن كل عمل ليس عليه أمر الشارع فهو مردود ويدل بمفهومه على أن كل عمل عليه أمره فهو غير مردود والمراد بأمره ههنا دينه وشرعه كالمراد بقوله في الرواية الأخرى من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه فهو رد فالمعنى إذا أن من كان عمله خارجا عن الشرع ليس متقيدا بالشرع فهو مردود، وقوله ليس عليه أمرنا إشارة إلى أن أعمال العاملين كلهم ينبغي أن تكون تحت أحكام الشريعة فتكون أحكام الشريعة حاكمة عليها بأمرها ونهيها فمن كان عمله جاريا تحت أحكام الشريعة موافقا لها فهو مقبول ومن كان خارجا عن ذلك فهو مردود فأما العبادات فما كان منها خارجا عن حكم الله ورسوله بالكلية فهو مردود على عامله وعامله يدخل تحت قوله تعالى {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ} فمن تقرب إلى الله بعمل لم يجعله الله ورسوله قربة إلى الله فعمله باطل مردود عليه وهو شبيه بحال الذين كانت صلاتهم عند البيت مكاء وتصدية وهذا كمن تقرب إلى الله تعالى بسماع الملاهي أو بالرقص أو بكشف الرأس في غير الإحرام وما أشبه ذلك من المحدثات التي لم يشرع الله ورسوله التقرب بها بالكلية وليس ما كان قربة في عبادة يكون قربة في غيرها مطلقًا.

فقد رأى النبي ﷺ رجلًا قائمًا في الشمس فسأل عنه فقيل إنه نذر أن يقوم ولا يقعد ولا يستظل وأن يصوم فأمره النبي ﷺ أن يقعد ويستظل وأن يتم صومه فلم يجعل قيامه وبروزه في الشمس قربة يوفي بنذرهما.

وقد روي أن ذلك كان في يوم جمعة عند سماع خطبة النبي ﷺ وهو على المنبر فنذر أن يقوم ولا يقعد ولا يستظل ما دام النبي ﷺ يخطب إعظامًا لسماع خطبة النبي ﷺ ولم يجعل النبي ﷺ ذلك قربة يوفي بنذره مع أن القيام عبادة في مواضع أخر كالصلاة والأذان والدعاء بعرفة والبروز للشمس قربة للمحرم فدل على أنه ليس كل ما كان قربة في موطن يكون قربة في كل المواطن وإنما يتبع في ذلك كله ما وردت به الشريعة في مواضعها، وكذلك من تقرب بعبادة نهي عنها بخصوصها كمن صام يوم العيد أو صلى وقت النهي وأما من عمل عملًا أصله مشروع وقربة ثم أدخل فيه ما ليس بمشروع أو أخل فيه بمشروع فهذا أيضًا مخالف للشريعة بقدر إخلاله بما أخل به أو إدخاله ما أدخل فيه وهل يكون عمله من أصله مردودًا عليه أو لا فهذا لا يطلق القول فيه برد ولا قبول بل ينظر فيه فإن كان ما أخل به من أجزاء العمل أو شروطه موجبًا لبطلانه في الشريعة كمن أخل بالطهارة مع القدرة عليها أو كمن أخل بالركوع أو بالسجود مع الطمأنينة فيهما فهذا عمل مردود عليه وعليه إعادته إن كان فرضًا وإن كان ما أخل به لا يوجب بطلان العمل كمن أخل بالجماعة للصلاة المكتوبة عند من يوجبها ولا يجعلها شرطًا فهذا لا يقال إن عمله مردود من أصله بل هو ناقص وإن كان قد زاد في العمل المشروع ما ليس بمشروع فزيادته مردودة عليه بمعنى أنها لا تكون قربة ولا يثاب عليها ولكن تارة يبطل بها العمل من أصله فيكون مردودًا كمن زاد ركعة عمدا في صلاته مثلًا وتارة لا يبطله ولا يرده من أصله كمن توضأ أربعا أربعا أو صام الليل مع النهار وواصل في صيامه وقد يبدل ما يؤمر به في العبادة بما هو منهي عنه كمن ستر عورته في الصلاة بثوب محرم أو تؤضأ للصلاة بماء مغصوب أو صلى في بقعة غصب فهذا قد اختلف العلماء فيه هل عمله مردود من أصله أو أنه غير مردود وتبرأ به الذمة من عهدة الواجب وأكثر الفقهاء على أنه ليس بمردود من أصله.

وقد حكى عبد الرحمن بن مهدي عن قوم من أصحاب الكلام يقال لهم الشمرية أصحاب أبي شمر أنهم يقولون إنه من صلى في ثوب كان في ثمنه درهم حرام أن عليه إعادة صلاته وقال ما سمعت قولًا أخبث من قولهم نسأل الله العافية وعبد الرحمن بن مهدي من أكابر فقهاء أهل الحديث المطلعين على مقالات السلف وقد استنكر هذا القول وجعله بدعة فدل على أنه لم يعلم عن أحد من السلف القول بإعادة الصلاة في مثل هذا ويشبه هذا الحج بمال حرام وقد ورد في حديث أنه مردود على صاحبه ولكنه حديث لا يثبت وقد أختلف العلماء هل يسقط به الفرض أم لا وقريب من ذلك الذبح بآلة محرمة أو ذبح من لا يجوز له الذبح كالسارق فأكثر العلماء قالوا إنه تباح الذبيحة بذلك ومنهم من قال هي محرمة وكذا الخلاف في ذبح المحرم الصيد لكن القول بالتحريم فيه أشهر وأظهر لأنه منهي عنه بعينه فلهذا فرق من فرق من العلماء بين أن يكون النهي لمعنى يختص بالعبادة فيبطلها وبين أن لا يكون مختصا بها فلا يبطلها فالصلاة بالنجاسة أو بغير طهارة أو بغير ستارة أو إلى غير القبلة يبطلها لا ختصاص النهي بالصلاة بخلاف الصلاة في الغصب ويشهد لهذا أن الصيام لا يبطله إلا ارتكاب ما نهي عنه فيه بخصوصه وهو جنس الأكل والشرب والجماع بخلاف ما نهي عنه الصائم لا بخصوص الصيام كالكذب والغيبة عند الجمهور، وكذلك الحج ما يبطله إلا ما نهي عنه في الإحرام وهو الجماع ولا يبطله ما لا يختص بالإحرام من المحرمات كالقتل والسرقة وشرب الخمر، وكذلك الاعتكاف إنما يبطل بما نهي عنه فيه بخصوصه وهو الجماع وإنما يبطل بالسكر عندنا وعند الأكثرين لنهي السكران عن قربان المسجد ودخوله على أحد التأويلين في قوله تعالى {لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى} أن المراد مواضع الصلاة فصار كالحائض ولا يبطل الاعتكاف بغيره من ارتكابه الكبائر عندنا وعند كثير من العلماء.

وقد خالف في ذلك طائفة من السلف منهم عطاء والزهري والثوري ومالك وحكي عن غيرهم أيضًا المعاملات وأما المعاملات كالعقود والفسوخ ونحوهما فما كان منها مغير الأوضاع الشرعية كجعل حد الزنا عقوبة مالية وما أشبه ذلك فإنه مردود من أصله لا ينتقل به الملك لأن هذا غير معهود في أحكام الإسلام ويدل على ذلك أن النبي ﷺ قال للذي سأله إن ابني كان عسيفًا على فلان فزنى بامرأته فافتديت منه بمائة شاة وخادم فقال النبي ﷺ المائة الشاة والخادم رد عليك وعلى ابنك مائة جلدة وتغريب عام.

وما كان منها عقدًا منهيًا عنه في الشرع إما لكون المعقود عليه ليس محلًا للعقد أو لفوات شرط فيه أو لظلم يحصل به للمعقود معه وعليه أو لكون العقد يشغل عن ذكر الله عز وجل الواجب عند تضايق وقته أو غير ذلك فهذا العقد هل هو مردود بالكلية لا ينتقل به الملك أم لا هذا الموضع قد اضطرب الناس فيه اضطرابًا كثيرًا وذلك أنه ورد في بعض الصور أنه مردود لا يقيد الملك وفي بعضها أنه يقيده فحصل الاضطراب فيه بسبب ذلك والأقرب إن شاء الله تعالى أنه إن كان النهي عنه لحق الله تعالى لا يقيد الملك بالكلية ومعنى أنه يكون الحق لله أنه لا يسقط برضا المتعاقدين عليه وإن كان النهي عنه لحق آدمي معين بحيث يسقط برضاه به فإنه يقف على رضاه به فإن رضي لزم العقد واستمر الملك وإن لم يرض به فله الفسخ فإن كان الذي يلحقه الضرر لا يعتبر رضاه بالكلية كالزوجة والعبد في الطلاق والعتاق فلا عبرة برضاه ولا بسخطه وإن كان النهي رفقا بالمنهي خاصة لما يلحقه من المشقة فخالف وارتكب المشقة لم يبطل بذلك عمله فأما الأول فله صور كثيرة منها نكاح من يحرم نكاحه إما لعينه كالمحرمات على التأبيد بسبب أو نسب أو للجمع أو لفوات شرط لا يسقط بالتراضي بإسقاطه كنكاح المعتدة والمحرمة والنكاح بغير ولي ونحو ذلك قد روي أن النبي ﷺ فرق بين رجل وامرأة تزوجها وهي حبلي فرد النكاح لوقوعه في العدة ومنها عقود الربا فلا يفيد الملك ويؤمر بردها وقد أمر النبي ﷺ من باع صاع تمر بصاعين أن يرده ومنها بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام والكلب وسائر ما نهي عن بيعه مما لا يجوز بيعه وأما الثاني فله صور عديدة منها إنكاح الولي مالًا يجوز له إنكاحها إلا بإذنها لا بغير إذنها.

وقد ردّ النبي ﷺ نكاح امرأة ثيب زوجها أبوها وهي كارهة.

وروي عنه ﷺ أنه خير امرأة زوجت بغير إذنها وفي إبطال هذا النكاح أو وقوفه على الإجازة روايتان عن أحمد.

وقد ذهب طائفة من العلماء إلى أن من تصرف لغيره في ماله بغير إذنه لم يكن تصرفه باطلًا من أصله بل يقف على إجازته فإن أجازه جاز وإن رده بطل واستدلوا بحديث عروة بن الجعد في شرائه للنبي ﷺ شاتين وإنما كان أمره بأن يشتري شاة واحدة ثم باع إحداهما وقبل ذلك النبي ﷺ وخص ذلك الإمام أحمد في المشهور عنه بمن كان يتصرف لغيره في ماله بإذن إذا خالف الإذن ومنها تصرف المريض في ماله كله هل يقع باطلًا من أصله أم يوقف تصرفه في الثلث على إجازة الورثة فيه اختلاف مشهور للفقهاء والخلاف في مذهب أحمد وغيره وقد صح أن النبي ﷺ رفع إليه أن رجلًا أعتق ستة مملوكين له عند موته لا مال له غيرهم فدعا بهم فجزأهم أجزاء فأعتق اثنين وأرق أربعة وقال له قولًا شديدًا ولعل الورثة لم يجيزوا إعتاق الجميع والله أعلم.

ومنها بيع المدلس ونحوه كالمصراة وبيع النجش وتلقى الركبان ونحو ذلك وفي صحته كله اختلاف مشهور في مذهب الإمام أحمد.

وذهب طائفة من أهل الحديث إلى بطلانه ورده والصحيح أنه يصح ويقف على إجازة من حصل له ظلم بذلك فقد صح عن النبي ﷺ أنه جعل مشتري المصراة بالخيار وأنه جعل للركبان الخيار إذا هبطوا السوق وهذا كله يدل على أنه غير مردود من أصله.

وقد ورد على بعض من قال بالبطلان حديث المصراة فلم يذكر عنه جوابا وأما بيع الحاضر للبادي فمن صححه جعله من هذا القبيل ومن أبطله جعل الحق فيه لأهل البلد كلهم وهم غير منحصرين فلا يتصور إسقاط حقوقهم فصار كحق الله عز وجل ومنها لو باع رقيقًا يحرم التفريق بينهم وفرق بينهم كالأم وولدها فهل يقع باطلًا مردودًا أم يقف على رضاهم بذلك.

وقد روي أن النبي ﷺ أمر برد هذا البيع ونص أحمد على أنه لا يجوز التفريق بينهم ولو رضوا بذلك وذهب طائفة إلى جواز التفريق بينهم برضاهم منهم النخعي وعبيد الله بن الحسن البصري فعلى هذا يتوجه أن يصح ويقف على الرضا ومنها لو خص بعض أولاده بالعطية دون بعض فقد صح عن النبي ﷺ أنه أمر بشير بن سعد لما خص ولده النعمان بالعطية أن يرده إليه ولم يدل ذلك على أنه لم ينتقل الملك بذلك إلى الولد فإن هذه العطية تصح وتقع مراعاة فإن ساوى بين الأولاد في العطية أو استرد ما أعطي الولد جاز وإن مات ولم يفعل شيئًا من ذلك فقال مجاهد هو ميراث وحكي عن أحمد نحوه وأن العطية تبطل والجمهور على أنها لا تبطل وهل للورثة الرجوع فيها أم لا فيه قولان مشهوران وهما روايتان عن أحمد ومنها الطلاق المنهي عنه كالطلاق في زمن الحيض فإنه قد قيل إنه قد نهي عنه لحق الزوج حيث كان يخشى عليه أن يعقبه فيه الندم ومن نهي عن شيء رفقا به فلم ينته عنه بل فعله وتجشم مشقته فإنه لا يحكم ببطلان ما أتى به كمن صام في المرض أو السفر أو واصل في الصيام أو أخرج ماله وجلس يتكفف الناس أو صلى قائمًا مع تضرره بالقيام للمرض أو اغتسل وهو يخشى على نفسه الضرر والتلف ولم يتيمم أو صام الدهر ولم يفطر أو قام الليل ولم ينم، وكذلك إذا جمع الطلاق الثلاث على القول بتحريمه وقيل إنما نهي عن طلاق الحائض لحق المرأة لما فيه من الإضرار بها بتطويل العدة ولو رضيت بذلك بأن سألته الطلاق بعوض في الحيض فهل يزول بذلك تحريمه فيه قولان مشهوران للعلماء والمشهور من مذهبنا ومذهب الشافعي أنه يزول التحريم بذلك فإن قيل إن التحريم فيه لحق الزوج خاصة فإذا قدم عليه فقد أسقط حقه فقط وإن علل بأنه لحق المرأة لم يمنع نفوذه ووقوعه أيضًا فإن رضا المرأة بالطلاق غير معتبر لوقوعه عند جميع المسلمين لم يخالف فيه سوى شرذمة يسيرة من الروافض ونحوهم كما أن رضا الرقيق بالعتق غير معتبر ولو تضرر به ولكن إذا تضررت المرأة بذلك، وكان قد بقي شيء من طلاقها أمر الزوج بارتجاعها كما أمر النبي ﷺ ابن عمر بارتجاع زوجته تلافيا منه لضررها وتلافيا منه لما وقع منه من الطلاق المحرم حتى لا تصير بينونتها منه ناشئة عن طلاق محرم وليتمكن من طلاقها على وجه مباح فتحصل إبانتها على هذا الوجه وقد روي عن أبي الزبير عن ابن عمر رضي الله عنهم أن النبي ﷺ ردها عليه ولم يرها شيئًا وهذا مما تفرد به أبو الزبير عن أصحاب ابن عمر كلهم مثل ابنه سالم ومولاه نافع وأنس وابن سيرين وطاوس ويونس بن جبير وعبد الله بن دينار وسعيد بن جبير وميمون بن مهران وغيرهم وقد أنكر أئمة العلماء هذه اللفظة على أبي الزبير من المحدثين والفقهاء وقالوا إنه تفرد بما خالف الثقات فلا يقبل تفرده فإن في رواية الجماعة عن ابن عمر ما يدل على أن النبي ﷺ حسب عليه الطلقة من وجوه كثيرة، وكان ابن عمر يقول لمن سأله عن طلاق المرأة في الحيض إن كنت طلقت واحدة أو اثنتين فإن رسول الله ﷺ أمرني بذلك يعني بارتجاع المرأة وإن كنت طلقتها ثلاثًا فقد عصيت ربك وبانت منك امرأتك وفي رواية أبي الزبير زيادة أخرى لم يتابع عليها وهو قوله ثم تلا رسول الله ﷺ {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ} الطلاق.

ولم يذكر ذلك أحد من الرواة عن ابن عمر وإنما روى عبدالله بن دينار عن ابن عمر أنه كان يتلو هذه الآية عند روايته للحديث وهذا هو الصحيح.

وقد كان طوائف من الناس يعتقدون أن طلاق ابن عمر كان ثلاثًا وأن النبي ﷺ إنما ردها عليه لأنه لم يوقع الطلاق في الحيض وقد روي ذلك عن أبي الزبير أيضًا من رواية معاوية بن عمار الدهني عنه فلعل أبا الزبير اعتقد هذا حقا فروى تلك اللفظة بالمعنى الذي فهمه وروى ابن لهيعة هذا الحديث عن أبي الزبير فقال عن جابر أن ابن عمر طلق امرأته وهي حائض فقال النبي ﷺ ليراجعها فإنها امرأته وأخطأ في ذكر جابر في هذا الإسناد وتفرد بقوله فإنها امرأته ولا يدل على عدم وقوع الطلاق إلا على تقدير أن يكون ثلاثًا فقد اختلف في هذا الحديث على أبي الزبير وأصحاب ابن عمر الثقات الحفاظ العارفون به الملازمون له لم يختلف عليهم فيه فروى أيوب عن ابن سيرين قال مكثت عشرين سنة يحدثني من لا أتهمهم أن ابن عمر طلق امرأته ثلاثًا وهي حائض فأمره النبي ﷺ أن يراجعها فجعلت لا أتهمهم ولا أعرف الحديث حتى لقيت أبا غلاب يونس بن جبير، وكان ذا ثبت فحدثني أنه سأل ابن عمر فحدثه أنه طلقها واحدة خرجه مسلم وفي رواية قال له ابن سيرين فجعلت لا أعرف للحديث وجها ولا أفهمه وهذا يدل على أنه كان قد شاع بين الثقات من غير أهل الفقه والعلم أن طلاق ابن عمر كان ثلاثًا ولعل أبا الزبير من هذا القبيل ولذلك كان نافع يسئل كثيرًا عن طلاق ابن عمر هل كان ثلاثًا أو واحدة ولما قدم نافع مكة أرسلوا إليه من مجلس عطاء يسئلونه عن ذلك لهذه الشبهة واستنكار ابن سيرين لرواية الثلاث يدل على أنه لم يعرف قائلا معتبرا يقول إن الطلاق المحرم غير واقع وأن هذا القول لا وجه له قال الإمام أحمد في رواية أبي الحارث وسئل عمن قال لا يقع الطلاق المحرم لأنه يخالف ما أمر به فقال هذا قول سوء رديء ثم ذكر قصة ابن عمر وأنه احتسب بطلاقه في الحيض وقال أبو عبيدة الوقوع هو الذي عليه العلماء مجمعون في جميع الأمصار حجازهم وتهامهم ويمنهم وشأمهم وعراقهم ومصرهم وحكى ابن المنذر ذلك عن كل من يحفظ قوله من أهل العلم إلا ناسا من أهل البدع لا يعتد بهم وأما ما حكاه ابن حزم عن ابن عمر أنه لا يقع الطلاق في الحيض مستندا إلى ما رواه من طريق محمد بن عبد السلام الخشني الأندلسي حدثنا محمد بن بشار حدثنا عبد الوهاب الثقفي عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر في الرجل يطلق امرأته وهي حائض قال لا تعتد بها وبإسناده عن خلاس نحوه فإن هذا الأثر قد سقط عن آخر لفظه وهي قال لا يعتد بتلك الحيضة كذلك رواه أبو بكر بن أبي شيبة في كتابه عن عبد الوهاب الثقفي وكذا رواه يحيى بن معين عن عبد الوهاب أيضًا قال هو غريب لا يحدث به إلا عبد الوهاب ومراد ابن عمر أن الحيضة التي تطلق فيها المرأة لا تعتد بها المرأة قرأ وهذا هو مراد خلاس وغيره وقد روي ذلك أيضًا عن جماعة من السلف منهم زيد بن ثابت وسعيد بن المسيب فوهم جماعة من المفسرين وغيرهم كما وهم ابن حزم فحكوا عن بعض من سمينا أن الطلاق في الحيض لا يقع وهذا سبب وهمهم والله أعلم.

وهذا الحديث إنما رواه القاسم بن محمد لما سئل عن رجل له مساكن فأوصى بثلث ثلاث مساكن هل يجمع له في مسكن واحد فقال يجمع ذلك له في مسكن واحد حدثتني عائشة أن النبي ﷺ قال من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد خرجه مسلم ومراده أن تغيير وصية الموصي إلى ما هو أحب إلى الله وأنفع جائز وقد حكى هذا عن عطاء وابن جريج وربما يستدل بعض من ذهب إلى هذا بقوله تعالى {فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ} البقرة.

ولعله أخذ هذا من جمع العتق فإنه أعتق ستة مماليك عند موته فدعاهم النبي ﷺ فجزأهم ثلاثة أجزاء فأعتق اثنين وأرق أربعة خرجه مسلم.

وذهب فقهاء الحديث إلى هذا الحديث لأن تكميل عتق العبد مهما أمكن فهو أولى من تشقيصه ولهذا شرعت السراية والسعاية إذا أعتق أحد الشريكين نصيبه من عبد وقال ﷺ فيمن أعتق بعض عبده هذا هو عتيق كله ليس لله شريك وأكثر العلماء على خلاف قول القاسم وإن وصية الموصي لا تجمع ويتبع لفظه إلا في العتق خاصة لأن المعنى الذي جمع له فيه العتق موجود في بقية الأموال فيعمل فيها المقتضى وصية الموصي وذهب طائفة من الفقهاء في العتق على أنه يعتق من كل عبد ثلثه ويستسعون في الباقي واتباع قضاء النبي ﷺ أحق وأولي والقاسم نظر إلى أن في مشاركة الموصي له للورثة في المساكن كلها ضررا عليهم فيدفع عنهم هذا الضرر ويجمع الوصية في مسكن واحد فإن الله شرط في الوصية عدم المضارة لقوله غير مضار وصية من الله النساء فمن ضار في وصيته كان عمله مردودًا عليه لمخالفته ما شرط الله تعالى في الوصية وقد ذهب طائفة من الفقهاء إلى أنه لو أوصى بثلث مساكنه ثم ثلثي المساكن كلها ثم تلف ثلث المساكن وبقي منها ثلث أنه يعطي كلها للموصى له وهذا قول طائفة من أصحاب أبي حنيفة وحكي عن أبي يوسف ومحمد ووافقهم القاضي أبو يعلى من أصحابنا في خلافه وبنوا ذلك على أن المساكن المشتركة تقسم بين المشتركين فيها قسمة إجبار كما هو قول مالك وظاهر كلام ابن أبي موسى من أصحابنا والمشهور عند أصحابنا أن المساكن المتعددة لا تقسم قسمة إجبار وهو قول أبي حنيفة والشافعي رحمهما الله وقد تأول بعض المالكية فتيا القاسم المذكورة في هذا الحديث على أن أحد الفريقين من الورثة والموصى لهم طلب قسمة المساكن فكانت متقاربة بحيث يضم بعضها إلى بعض في القسمة فإنه يجاب إلى قسمتها على قولهم وهذا التأويل بعيد مخالف للظاهر والله أعلم. ========

الحديث السادس

عن أبي عبدالله النعمان بن بشير رضي الله تعالى عنهما قال سمعت رسول الله ﷺ يقول إن الحلال بين وإن الحرام بين وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه ألا وإن لكل ملك حمي ألا وإن حمى الله محارمه ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب . رواه البخاري ومسلم.

هذا الحديث صحيح متفق على صحته من رواية الشعبي عن النعمان بن بشير وفي ألفاظه بعض الزيادة والنقص والمعنى واحد متقارب وقد روي عن النبي ﷺ من حديث ابن عمر وعمار بن ياسر وجابر وابن مسعود وابن عباس، وحديث النعمان أصح أحاديث الباب فقوله ﷺ الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس معناه أن الحلال المحض بين لا اشتباه فيه، وكذلك الحرام المحض ولكن بين الأمرين أمور تشتبه على كثير من الناس هل هي من الحلال أم من الحرام وأما الراسخون في العلم فلا يشتبه عليهم ذلك ويعلمون من أي القسمين هي فأما الحلال المحض فمثل أكل الطيبات من الزروع والثمار وبهيمة الأنعام وشرب الأشربة الطيبة ولباس ما يحتاج إليه من القطن والكتان والصوف والشعر وكالنكاح والتسري وغير ذلك إذا كان اكتسابه بعقد صحيح كالبيع أو بميراث أو هبة أو غنيمة والحرام المحض مثل أكل الميتة والدم ولحم الخنزير وشرب الخمر ونكاح المحارم ولباس الحرير للرجال ومثل الاكتساب المحرم كالربا والميسر وثمن مالًا يحل بيعه وأخذ الأموال المغصوبة بسرقة أو غصب ونحو ذلك وأما المشتبه فمثل بعض ما اختلف في حله أو تحريمه إما من الأعيان كالخيل والبغال والحمير والضب وشرب ما اختلف في تحريمه من الأنبذة التي يسكر كثيرها ولبس ما اختلف في إباحة لبسه من جلود السباع ونحوها وإما من المكاسب المختلف فيها كمسائل العينة والتورق ونحو ذلك وبنحو هذا المعنى فسر المشتبهات أحمد وإسحاق وغيرهما من الأئمة وحاصل الأمر أن الله تعالى أنزل على نبيه الكتاب وبين فيه للأمة ما يحتاج إليه من حلال وحرام كما قال تعالى {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ} النحل قال مجاهد وغيره كل شيء أمروا به ونهوا عنه وقال تعالى في آخر سورة النساء التي بين فيها كثيرًا من أحكام الأموال والأبضاع {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} النساء وقال تعالى {وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} الأنعام الآية وقال تعالى {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ} التوبة ووكل بيان ما أشكل من التنزيل إلى الرسول كما قال تعالى {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} النحل.

وما قبض رسول الله ﷺ حتى أكمل له ولأمته الدين ولهذا أنزل عليه بعرفة قبل موته بمدة يسيرة {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا} المائدة.

وقال ﷺ تركتكم على بيضاء نقية ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك.

وقال أبو ذر رضي الله عنه توفي رسول الله ﷺ وما طائر يحرك جناحيه في السماء إلا وقد ذكر لنا منه علمًا ولما شك ناس في موته ﷺ قال عمه العباس رضي الله عنه والله ما مات رسول الله ﷺ حتى ترك السبيل نهجا واضحا وأحل الحلال وحرم الحرام ونكح وطلق وحارب وسالم وما كان راعي غنم يتبع بها رؤوس الجبال يخبط عليها العضاه بمخبطته ويمدرحوضها بيده أنصب ولا أدأب من رسول الله ﷺ كان فيكم وفي الجملة فما ترك الله ورسوله حلالًا إلا مبينًا ولا حرامًا إلا مبينًا لكن بعضه كان أظهر بيانًا من بعض فما ظهر بيانه واشتهر وعلم من الدين بالضرورة من ذلك لم يبق فيه شك ولا يعذر أحد بجهله في بلد يظهر فيها الإسلام وما كان بيانه دون ذلك فمنه ما يشتهر بين حملة الشريعة خاصة فأجمع العلماء على حله أو حرمته وقد يخفى على بعض من ليس منهم ومنه ما لم يشتهر بين حملة الشريعة أيضًا فاختلفوا في تحليله وتحريمه وذلك لأسباب منها أنه قد يكون النص عليه خفيًا لم ينقله إلا قليل من الناس فلم يبلغ جميع حملة العلم ومنها أنه قد ينقل فيه نصان أحدهما بالتحليل والآخر بالتحريم فيبلغ طائفة منهم أحد النصين دون الآخر فيتمسكون بما بلغهم أو يبلغ النصان معا من لا يبلغه التاريخ فيقف لعدم معرفته بالناسخ والمنسوخ.

ومنها ما ليس فيه نص صريح وإنما يؤخذ من عموم أو مفهوم أو قياس فتختلف أفهام العلماء في هذا كثيرًا ومنها ما يكون فيه أمر أو نهي فتختلف العلماء في حمل الأمر على الوجوب أو الندب وفي حمل النهي على التحريم أو التنزيه وأسباب الاختلاف أكثر مما ذكرنا ومع هذا فلابد في الأمة من عالم يوافق الحق فيكون هو العالم بهذا الحكم وغيره يكون الأمر مشتبها عليه ولا يكون ععالمًا بهذا فإن هذه الأمة لا تجتمع على ضلالة ولا يظهر أهل باطلها على أهل حقها فلا يكون الحق مهجورا غير معمول به في جميع الأمصار والأعصار ولهذا قال ﷺ في المشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس فدل على أن من الناس من يعلمها وإنما هي مشتبهة على من لم يعلمها وليست مشتبهة في نفس الأمر فهذا هو السبب المقتضي لاشتباه بعض الأشياء على كثير من العلماء وقد يقع الاشتباه في الحلال والحرام بالنسبة إلى العلماء وغيرهم من وجه آخر وهو أن من الأشياء ما يعلم سبب حله وهو الملك المتيقن ومنها ما يعلم سبب تحريمه وهو ثبوت ملك الغير عليه فالأول لا تزول إباحته إلا بيقين زوال الملك عنه اللهم إلا في الأبضاع عند من يوقع الطلاق بالشك فيه كمالك أو إذا غلب على الظن وقوعه كإسحاق بن راهويه والثاني لا يزول تحريمه إلا بيقين العلم بانتقال الملك فيه وأما ما لا يعلم له أصل ملك كما يجده الإنسان في بيته ولا يدري هل هو له أو لغيره فهذا مشتبه ولا يحرم عليه تناوله لأن الظاهر إنما في ملكه لثبوت يده عليه والورع اجتنابه فقد قال ﷺ إنى لأنقلب إلى أهلي فأجد التمرة ساقطة على فراشي فأرفعها لآكلها ثم أخشى أن تكون من الصدقة فألقيها خرجاه في الصحيحين فإن كان هناك من جنس المحظور وشك هل هو منه أم لا قويت الشبهة وفي حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه أن النبي ﷺ أصابه أرق من الليل فقال له بعض نسائه يا رسول الله أرقت الليلة فقال إني كنت أصبت تمرة تحت جنبي فأكلتها، وكان عندنا تمر من تمر الصدقة فخشيت أن تكون منه ومن هذا أيضًا ما أصله الإباحة كطهارة الماء والثوب والأرض إذا لم يتيقن زوال أصله فيجوز استعماله وما أصله الحظر كالأبضاع ولحوم الحيوان فلا تحل إلا بيقين حله من التذكية والعقد فإن تردد في شيء من ذلك لظهور سبب آخر رجع إلى الأصل فيبنى عليه فيتبين فيما أصله الحرمة على التحريم ولهذا نهى النبي ﷺ عن أكل الصيد الذي يجد فيه الصائد أثر سهم غير سهمه أو كلب غير كلبه أو يجده قد وقع في ماء وعلل بأنه لا يدري هل مات من السبب المبيح له أو من غيره فيرجع فيما أصله الحل إلى الحل فلا ينجس الماء والأرض والثوب بمجرد ظن النجاسة، وكذلك البدن إذا تحقق طهارته وشك هل انتقضت بالحدث عند جمهور العلماء خلافًا لمالك رحمه الله إذا لم يكن قد دخل في الصلاة وقد صح عن النبي ﷺ أنه شكا إليه الرجل يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة فقال لا تنصرف حتى تسمع صوتا أو تجد ريحا وفي بعض الروايات في المسجد بدل الصلاة وهذا يعم حال الصلاة وغيرهما فإن وجد سببًا قويا يغلب معه على الظن نجاسة ما أصله الطهارة مثل أن يكون الثوب يلبسه كافر لا يتحرز من النجاسات فهذا محل اشتباه فمن العلماء من رخص فيه آخذا بالأصل ومنهم من كرهه تنزيها ومنهم من حرمه إذا قوي ظن النجاسة مثل أن يكون الكافر ممن لا تباح ذبيحته أو يكون ملاقيا لعورته كالسراويل والقميص وترجع هذه المسائل وأشباهها على قاعدة تعارض الأصل والظاهر فإن الأصل الطهارة والظاهر النجاسة وقد تعارضت الأدلة في ذلك فالقائلون بالطهارة يستدلون بأن الله تعالى أحل طعام أهل الكتاب وطعامهم إنما يصنعونه بأيديهم في أوانيهم وقد أجاب النبي ﷺ دعوة يهودي، وكان هو وأصحابه يلبسون ويستعملون ما يجلب إليهم مما ينسجه الكفار بأيديهم من الثياب والأواني وكانوا في المغازي يقتسمون ما وقع لهم من الأوعية والثياب ويستعملونها وصح عنهم أنهم يستعملون الماء من مزادة مشركة والقائلون بالنجاسة يستدلون بأنه صح عن النبي ﷺ أنه سئل عن آنية أهل الكتاب الذين يأكلون الخنزير ويشربون الخمر فقال إن لم تجدوا غيرها فاغسلوها بالماء ثم كلوا فيها وقد فسر الإمام أحمد الشبهة بأنها منزلة بين الحلال والحرام يعني الحلال المحض والحرام المحض وقال من اتقاها فقد استبرأ لدينه وفسرها تارة باختلاط الحلال والحرام وبتفرع على هذا معاملة من في ماله حلال وحرام مختلط فإن كان أكثر ماله الحرام فقال أحمد ينبغي أن يتجنبه إلا أن يكون شيئًا يسيرا أو شيئًا لا يعرف واختلف أصحابنا هل هو مكروه أو محرم على وجهين وإن كان أكثر ماله الحلال جازت معاملته والأكل من ماله.

وقد روى الحارث عن علي رضي الله عنه أنه قال في جوائز السلطان لا بأس بها ما يعطيكم من الحلال أكثر مما يعطيكم من الحرام، وكان النبي ﷺ وأصحابه يعاملون المشركين وأهل الكتاب مع علمهم بأنهم لا يجتنبون الحرام كله وإن اشتبه الأمر فهو شبهة والورع تركه.

قال سفيان لا يعجبني ذلك وتركه أعجب إلي.

وقال الزهري ومكحول لا بأس أن يؤكل منه ما لم يعرف أنه حرام بعينه فإن لم يعرف في ماله حرام بعينه ولكن علم أن فيه شبهة فلا بأس بالأكل منه نص عليه أحمد في رواية حنبل وذهب إسحق بن راهويه إلى ما روي عن ابن مسعود وسلمان وغيرهما من الرخصة وإلى ما روي عن الحسن وابن سيرين في إباحة الأخذ بما يقضي من الربا والقمار ونقله عن ابن منصور.

وقال الإمام أحمد في المال المشتبه حلاله بحرامه إن كان المال كثيرًا أخرج منه قدر الحرام وتصرف في الباقي وإن كان المال قليلًا اجتنبه كله وهذا لأن القليل إذا تناول منه شيئًا فإنه يتعذر معه السلامة من الحرام بخلاف الكثير ومن أصحابنا من حمل ذلك على الورع دون التحريم وأباح التصرف في القليل والكثير بعد إخراج قدر الحرام منه وهو قول الحنفية وغيرهم وأخذ به قوم من أهل الورع منهم بشر الحافي.

ورخص قوم من السلف في الأكل ممن يعلم في ماله حرام ما لم يعلم أنه من الحرام بعينه فصح كما تقدم عن مكحول والزهري وروي مثله عن الفضيل بن عياض وروى في ذلك آثار عن السلف فصح عن ابن مسعود أنه سئل عمن له جار يأكل الربا علانية ولا يتحرج من مال خبيث يأخذه يدعوه إلى طعام قال أجيبوه فإنما المهنأ لكم والوزر عليه وفي رواية أنه قال لا أعلم له شيئًا إلا خبيثا أو حرامًا فقال أجيبوه وقد صحح الإمام أحمد هذا عن ابن مسعود ولكنه عارضه عارض بما روي عنه أنه قال الإثم حزاز القلوب وروى عن سلمان مثل قول ابن مسعود الأول وعن سعيد ابن جبير والحسن البصري ومورق العجلي وإبراهيم النخعي وابن سيرين وغيرهم والآثار بذلك موجودة في كتب الأدب لحميد بن زنجويه وبعضها في كتاب الجامع للخلال وفي مصنف عبدالرزاق وابن أبي شيبة وغيرهم ومتى علم أن عين الشيء حرام أخذ بوجه محرم فإنه يحرم تناوله وقد حكي الإجماع على ذلك ابن عبد البر وغيره وقد روي عن ابن سيرين في الرجل يقضي من الربا قال لا بأس به وعن الرجل يقضي من القمار قال لا بأس به خرجه الخلال بإسناد صحيح وروى عن الحسن خلاف هذا وأنه قال إن هذه المكاسب قد فسدت فخذوا منها ما أشبه المضطر وعارض المروزي عن ابن مسعود وسلمان ما روي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أكل طعامًا ثم أخبر أنه من حرام فاستقاءه وقد يقع الاشتباه في الحكم لكون الفرع مترددا بين أصول تجتذبه كتحريم الرجل زوجته فإن هذا متردد بين تحريم الظهار الذي ترفعه الكفارة الكبرى وبين تحريم الطلقة الواحدة بانقضاء عدتها الذي تباح معه الزوجة بعقد جديد وبين تحريم الطلاق الثلاث الذي لا تباح معه الزوجة بدون زوج وإصابة وبين تحريم الرجل عليه ما أحله الله له من الطعام والشراب الذي لا يحرمه وإنما يوجب الكفارة الصغرى أو لا يوجب شيئًا على الاختلاف في ذلك فمن ههنا كثر الاختلاف في هذه المسئلة في زمن الصحابة ومن بعدهم وبكل حال فالأمور المشتبهة التي لا تتبين أنها حلال ولا حرام لكثير من الناس كما أخبر به النبي ﷺ قد يتبين لبعض الناس أنها حلال أو حرام لما عنده من ذلك من مزيد علم.

وكلام النبي ﷺ يدل على أن هذه المشتبهات من الناس من يعلمها وكثير منهم لا يعلمها فدخل فيمن لا يعلمها نوعان:

أحدهما: من يتوقف فيها لاشتباهها عليه.

والثاني: من يعتقدها على غير ما هي عليه.

ودل الكلام على أن غير هؤلاء يعلمها ومراده أنه يعلمها على ما هي عليه في نفس الأمر من تحليل أو تحريم وهذا من أظهر الأدلة على أن المصيب عند الله في مسائل الحلال والحرام المشتبهة المختلف فيها واحد عند الله عز وجل وغيره ليس بعالم بها بمعنى أنه غير مصيب لحكم الله فيها في نفس الأمر وإن كان يعتقد فيها اعتقادا يستند فيه إلى شبهة يظنها دليلًا ويكون مأجورا على اجتهاده ومغفورا له خطؤه لعدم اعتماده، وقوله ﷺ فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام قسم الناس في الأمور المشتبهة إلى قسمين وهذا إنما هو بالنسبة إلى من هي مشتبهة عليه وهو ممن لا يعلمها فأما من كان ععالمًا بها واتبع ما دله علمه عليها فلذلك قسم ثالث لم نذكره لظهور حكمه فإن هذا القسم أفضل الأقسام الثلاثة لأنه علم حكم الله في هذه الأمور المشتبهة على الناس واتبع علمه في ذلك وأما من لم يعلمه حكم الله فيها فهم قسمان أحدهما من يتقي هذه الشبهات لاشتباهها عليه فهذا قد استبرأ لدينه وعرضه ومعنى استبرأ طلب البراءة لدينه وعرضه من النقص والشين والعرض هو موضع المدح والذم من الإنسان وما يحصل له بذكره بالجميل مدح وبذكره بالقبيح قدح وقد يكون ذلك تارة في نفس الإنسان وتارة في سلفه أو في أهله فمن اتقى الأمور المشتبهة واجتنبها فقد حصن عرضه من القدح والشين الداخل على من لا يجتنبها وفي هذا دليل على أن من ارتكب الشبهات فقد عرض نفسه للقدح فيه والطعن كما قال بعض السلف من عرض نفسه للتهم فلا يلومن من أساء الظن به وفي رواية للترمذي في هذا الحديث فمن تركها استبراء لدينه وعرضه فقد سلم والمعني أن من تركها بهذا القصد وهو براءة دينه وعرضه عن النقص لا لغرض آخر فاسد من رياء ونحوه وفيه دليل على أن طلب البراءة للعرض ممدوح كطلب البراءة للدين ولهذا ورد كل ما وقي به المرء عرضه فهو صدقة وفي رواية في الصحيحين في هذا الحديث فمن ترك ما يشتبه عليه من الإثم كان لما استبان أترك يعني أن من ترك الإثم مع اشتباهه عليه وعدم تحققه فهو أولى بتركه إذا استبان له أنه إثم وهذا إذا كان تركه تحرزا من الإثم فأما من يقصد التصنع للناس فإنه لا يترك إلا ما يظن أنه ممدوح عندهم القسم الثاني من يقع في الشبهات مع كونها مشتبهة عنده فأما من أتى شيئًا مما يظنه الناس شبهة لعلمه بأنه حلال في نفس الأمر فلا حرج عليه من الله في ذلك لكن إذا خشي من طعن الناس عليه بذلك كان تركها حينئذ استبراء لعرضه فيكون حسنا وهذا كما قال النبي ﷺ لمن رآه واقفا مع صفية إنها صفية بنت حيي.

وخرج أنس إلى الجمعة فرأى الناس قد صلوا ورجعوا فاستحيا ودخل موضعا لا يراه الناس فيه وقال من لا يستحيي من الناس لا يستحيي من الله وخرجه الطبراني مرفوعًا ولا يصح وإن أتى ذلك لاعتقاده أنه حلال إما باجتهاد سائغ أو تقليد سائغ، وكان مخطئا في اعتقاده فحكمه حكم الذي قبله فإن كان الاجتهاد ضعيفا أو التقليد غير سائغ وإنما حمل عليه مجرد اتباع الهوى فحكمه حكم من أتاه مع اشتباهه عليه والذي يأتي الشبهات مع اشتباهها عليه قد أخبر عنه النبي ﷺ أنه وقع في الحرام فهذا يفسر بمعنيين أحدهما أن يكون ارتكابه للشبهة مع اعتقاده أنها شبهة ذريعة إلى ارتكابه الحرام الذي يعتقد أنه حرام بالتدريج والتسامح وفي رواية في الصحيحين لهذا الحديث ومن اجترأ على ما يشك فيه من الإثم أوشك أن يواقع ما استبان وفي رواية من يخالط الريبة يوشك أن يجسر أي يقرب أن يقدم على الحرام المحض والجسور المقدام الذي لا يهاب شيئًا ولا يراقب أحدًا ورواه بعضهم يجشر بالشين المعجمة أي يرتع والجشر الرعي وجشرت الدابة إذا رعيتها وفي مراسيل أبي المتوكل الناجي عن النبي ﷺ من يرعى بجنبات الحرام يوشك أن يخالطه ومن تهاون بالمحقرات يوشك أن يخالط الكبائر والمعنى الثاني أن من أقدم على ما هو مشتبه عنده لا يدري أهو حلال أو حرام فإنه لا يأمن أن يكون حرامًا في نفس الأمر فيصادف الحرام وهو لا يدري أنه حرام وقد روي من حديث ابن عمر رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال الحلال بين والحرام بين وبينهما مشتبهات فمن اتقاها كان أنزه لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات أوشك أن يقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يواقع الحمى وهو لا يشعر خرجه الطبراني وغيره واختلف العلماء هل يطيع والديه في الدخول في شيء من الشبهة أم لا يطيعهما فروى عن بشير بن الحارث قال لا طاعة لهما في الشبهة وعن محمد بن مقاتل العباداني قال يطيعهما وتوقف أحمد في هذه المسئلة وقال يداريهما وأبى أن يجيب فيها وقال أحمد لا يبيع الرجل من الشبهة ولا يشتري الثوب للتجمل من الشبهة وتوقف في حل ما يؤكل وما يلبس منها وقال في التمرة يلقيها الطير لا يأكلها ولا يأخذها ولا يتعرض لها وقال الثوري في الرجل يجد في بيته الأفلس أو الدراهم أحب إلى أن ينتنزه عنها يعني إذا لم يدر من أين هي، وكان بعض السلف لا يأكل إلا شيئًا يعلم من أين هو ويسأل عنه حتى يقف على أصله وقد روي في ذلك حديث مرفوع إلا أن فيه ضعفا، وقوله ﷺ كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه ألا وإن لكل ملك حمي ألا وإن حمى الله محارمه هذا مثل ضربه النبي ﷺ لمن وقع في الشبهات وأنه يقرب وقوعه في الحرام المحض وفي بعض الروايات أن النبي ﷺ قال سأضرب لكم مثلًا ثم ذكر هذا الكلام فجعل النبي ﷺ مثل المحرمات كالحمى الذي يحميه الملوك ويمنعون غيرهم من قربانه وقد جعل النبي ﷺ حول مدينته اثني عشر ميلا حمى محرما لا يقطع شجره ولا يصاد صيده وحمى عمر وعثمان أماكن ينبت فيها الكلأ لأجل إبل الصدقة والله سبحانه وتعالى حمى هذه المحرمات ومنع عباده من قربانها وسماها حدوده فقال تلك حدود الله فلا تقربوها وهذا فيه بيان أنه حد لهم ما أحل لهم وما حرم عليهم فلا يقربوا الحرام ولا يعتدوا الحلال، وكذلك قال في آية أخرى تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون البقرة وجعل من يرعى حول الحمى أو قريبًا منه جديرا بأن يدخل الحمى فيرتع فيه فلذلك من تعدى الحلال ووقع في الشبهات فإنه قد قارب الحرام غاية المقاربة فما أخلقه بأن يخالط الحرام المحض ويقع فيه وفي هذا إشارة إلى أنه ينبغي التباعد عن المحرمات وأن يجعل الإنسان بينه وبينها حاجزًا.

وقد خرج الترمذي وابن ماجه من حديث عبدالله بن يزيد عن النبي ﷺ قال لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرًا مما به بأس.

وقال أبو الدرداء رضي الله عنه تمام التقوى أن يتقي الله العبد حتى يتقيه من مثقال ذرة وحتى يترك بعض ما يرى أنه حلال خشية أن يكون حرامًا حجابا بينه وبين الحرام.

وقال الحسن ما زالت التقوى بالمتقين حتى تركوا كثيرًا من الحلال مخافة الحرام وقال الثوري إنما سموا المتقين لأنهم اتقوا مالًا يتقي وروي عن ابن عمر قال إنى لأحب أن أدع بيني وبين الحرام سترة من الحلال لا أخرقها وقال ميمون بن مهران لا يسلم للرجل الحلال حتى يجعل بينه وبين الحرام حاجزا من الحلال وقال سفيان بن عيينة لا يصيب عبد حقيقة الإيمان حتى يجعل بينه وبين الحرام حاجزا من الحلال وحتى يدع الإثم وما تشابه منه ويستدل بهذا الحديث من يذهب إلى سد الذرائع إلى المحرمات وتحريم الوسائل إليها ويدل على ذلك أيضًا من قواعد الشريعة تحريم قليل ما يسكر كثيرة وتحريم الخلوة بالأجنبية وتحريم الصلاة بعد الصبح وبعد العصر سدا لذريعة الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها ومنع الصائم من المباشرة إذا كانت تتحرك شهوته ومنع كثير من العلماء مباشرة الحائض فيما بين سرتها وركبتها إلا من وراء حائل كما كان ﷺ يأمر امرأته إذا كانت حائضا أن تتزر فيباشرها من فوق الإزار ومن أمثلة ذلك وهو شبيه بالمثل الذي ضربه النبي ﷺ من سيب دابته ترعى بقرب زرع غيره فإنه ضامن لما أفسدته من الزرع ولو كان ذلك نهارًا وهذا هو الصحيح لأنه مفرط بإرسالها في هذه الحال وكذا الخلاف لو أرسل كلب الصيد قريبًا من الحرم فدخل فصاد فيه ففي ضمانه روايتان عن أحمد وقيل يضمنه بكل حال، وقوله ﷺ ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب فيه إشارة إلى أن صلاح حركات العبد بجوارحه واجتنابه المحرمات واتقاءه للشبهات بحسب صلاح حركة قلبه فإذا كان قلبه سليما ليس فيه إلا محبة الله ومحبة ما يحبه الله وخشية الوقوع فيما يكرهه صلحت حركات الجوارح كلها ونشأ عن ذلك اجتناب المحرمات كلها وتوفي للشبهات حذرا من الوقوع في المحرمات وإن كان القلب فاسدًا قد استولى عليه اتباع الهوى وطلب ما يحبه ولو كرهه الله فسدت حركات الجوارح كلها وانبعثت إلى كل المعاصي والمشتبهات بحسب اتباع هوى القلب ولهذا يقال القلب ملك الأعضاء وبقية الأعضاء جنوده وهم مع هذا جنود طائعون له منبعثون في طاعته وتنفيذ أوامره لا يخالفونه في شيء من ذلك فإن كان الملك صالحًا كانت هذه الجنود صالحة وإن كان فاسدًا كانت جنوده بهذه المشابهة فاسدة ولا ينفع عند الله إلا القلب السليم كما قال تعالى {يَوْمَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ. إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} الشعراء.

وكان النبي ﷺ يقول في دعائه اللهم إنى أسألك قلبًا سليما فالقلب السليم هو السالم من الآفات والمكروهات كلها وهو القلب الذي ليس فيه سوى محبة الله وخشيته وخشية ما يباعد منه.

وفي مسند الإمام أحمد رضي الله عنه عن أنس عن النبي ﷺ قال لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه.

والمراد باستقامة إيمانه استقامة أعمال جوارحه فإن أعمال جوارحه لا تستقيم إلا باستقامة القلب ومعني استقامة القلب أن يكون ممتلئًا من محبة الله تعالى ومحبة طاعته وكراهة معصيته.

وقال الحسن لرجل داو قلبك فإن حاجة الله إلى العباد صلاح قلوبهم.

يعني أن مراده منهم ومطلوبه صلاح قلوبهم فلا صلاح للقلوب حتى يستقر فيها معرفة الله وعظمته ومحبته وخشيته ومهابته ورجاؤه والتوكل عليه ويمتلئ من ذلك وهذا هو حقيقة التوحيد وهو معنى قول لا إله إلا الله فلا صلاح للقلوب حتى يكون إلهها الذي تألهه وتعرفه وتحبه وتخشاه هو إله واحد لا شريك له ولو كان في السموات والأرض إله يؤله سوى الله لفسدت بذلك السموات والأرض كما قال تعالى {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا} الأنبياء فعلم بذلك أنه لا صلاح للعالم العلوي والسفلي معا حتى تكون حركات أهلها كلها لله وحركات الجسد تابعة لحركات القلب وإرادته فإن كانت حركته وإرادته لله وحده فقد صلح وصلحت حركات الجسد كله وإن كانت حركة القلب وإراداته لغير الله فسد وفسدت حركات الجسد بحسب فساد حركة القلب وروى الليث عن مجاهد في قوله تعالى {وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا} النساء قال لا تحبوا غيري وفي صحيح الحاكم عن عائشة رضي الله عنها عن النبي ﷺ قال الشرك أخفى من دبيب الذر على الصفا في الليلة الظلماء وأدناه أن تحب على شيء من الجور وأن تبغض على شيء من العدل وهل الدين إلا الحب والبغض قال تعالى {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} آل عمران.

فهذا يدل على أن محبة ما يكرهه الله وبغض ما يحبه متابعة للهوى والموالاة على ذلك والمعاداة عليه من الشرك الخفي ويدل على ذلك قوله {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} آل عمران فجعل الله علامة الصدق في محبته اتباع رسوله فدل على أن المحبة لا تتم بدون الطاعة والموافقة.

قال الحسن رحمه الله قال أصحاب رسول الله ﷺ يا رسول الله إنا نحب ربنا حبا شديدًا فأحب الله أن يجعل لحبه علمًا فأنزل الله هذه الآية {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} آل عمران.

ومن هنا قال الحسن أعلم أنك لن تحب الله حتى تحب طاعته.

وسئل ذو النون المصري متى أحب ربي قال إذا كان ما يبغضه عندك أمر من الصبر.

وقال بشر بن السري ليس من أعلام الحب أن تحب ما يبغضه حبيبك.

قال أبو يعقوب النهرجوري كل من ادعى محبة الله عز وجل ولم يوافق الله في أمره فدعواه باطل.

وقال رويم: المحبة الموافقة في كل الأحوال.

وقال يحيى بن معاذ ليس بصادق من ادعى محبة الله ولم يحفظ حدوده.

وعن بعض السلف قال قرأت في بعض الكتب السالفة من أحب الله لم يكن عنده شيء آثر من مرضاته ومن أحب الدنيا لم يكن عنده شيء آثر من هوى نفسه.

وفي السنن عن النبي ﷺ قال من أعطى لله ومنع لله وأحب لله وأبغض لله فقد استكمل الإيمان.

ومعني هذا أن كل حركات القلب والجوارح إذا كانت كلها لله فقد كمل إيمان العبد بذلك باطنًا وظاهرًا ويلزم من صلاح حركات القلب صلاح حركات الجوارح فإذا كان القلب صالحًا ليس فيه إلا إرادة الله وإرادة ما يريده لم تنبعث الجوارح إلا فيما يريده الله فسارعت إلى ما فيه رضاه وكفت عما يكرهه وعما يخشى أن يكون مما يكرهه وإن لم يتيقن ذلك.

قال الحسن رضي الله عنه ما ضربت ببصري ولا نطقت بلساني ولا بطشت بيدي ولا نهضت على قدمي حتى أنظر أعلى طاعة أو على معصية فإن كانت طاعته تقدمت وإن كانت معصية تأخرت.

وقال محمد بن الفضل البلخي ما خطوت منذ أربعين سنة خطوة لغير الله عز وجل.

وقيل لداود الطائي لو تنحيت من الظل إلى الشمس فقال هذه خطي لا أدري كيف تكتب فهؤلاء القوم لما صلحت قلوبهم فلم يبق فيها إرادة لغير الله صلحت جوارحهم فلم تتحرك إلا لله عز وجل وبما فيه مرضاته والله أعلم. ======

الحديث السابع

عن أبي رقية تميم بن أوس الداري رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال الدين النصيحة قلنا لمن قال لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم . رواه مسلم.

هذا الحديث خرجه مسلم من رواية سهيل بن أبي صالح عن عطاء بن يزيد الليثي عن تميم الداري وقد روي عن سهيل وغيره عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي ﷺ وخرجه الترمذي من هذا الوجه فمن العلماء من صححه من الطريقين جميعا ومنهم من قال إن الصحيح حديث تميم والإسناد الآخر وهم وقد روي هذا الحديث عن النبي ﷺ من حديث ابن عمر وثوبان وابن عباس وغيرهم وقد ذكرنا في أول الكتاب عن أبي داود أن هذا الحديث أحد الأحاديث التي يدور عليها الفقه وقال الحافظ أبو نعيم هذا الحديث له شأن عظيم وذكر محمد بن أسلم الطوسي أنه أحد أرباع الدين وخرجه الطبراني من حديث حذيفة بن اليمان عن النبي ﷺ قال من لا يهتم بأمر المسلمين فليس منهم ومن لم يمس ويصبح ناصحا لله ولرسوله ولكتابه ولإمامه ولعامة المسلمين فليس منهم.

وخرج الإمام أحمد من حديث أبي أمامة عن النبي ﷺ قال قال الله عز وجل أحب ما تعبدني به عبدي النصح لي وقد ورد في أحاديث كثيرة النصح للمسلمين عموما وفي بعضها النصح لولاة أمورهم وفي بعضها نصح ولاة الأمور لرعاياهم فأما الأول وهو النصح للمسلمين عموما.

ففي الصحيحين عن جرير بن عبدالله قال بايعت النبي ﷺ على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم.

وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال حق المؤمن على المؤمن ست فذكر منها وإذا استنصحك فانصح له وروي هذا الحديث من وجوه أخر عن النبي ﷺ قال إذا استنصح أحدكم أخاه فلينصح له وأما الثاني وهو النصح لولاة الأمور ونصحهم لرعاياهم.

ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال إن الله يرضى لكم ثلاثًا يرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئًا وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم.

وفي المسند وغيره عن جبير بن مطعم رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال في خطبته بالخيف من منى ثلاث لا يغل عليهن قلب امرئ مسلم إخلاص العمل لله ومناصحة ولاة الأمر ولزوم جماعة المسلمين وقد روى هذه الخطبة عن النبي ﷺ جماعة منهم أبو سعيد الخدري وقد روي من حديث أبي سعيد بلفظ آخر خرجه الدارقطني في الأفراد بإسناد جيد ولفظه أن النبي ﷺ قال ثلاث لا يغل عليهن قلب امرئ مسلم النصيحة لله ولرسوله ولكتابه ولعامة المسلمين.

وفي الصحيحين عن معقل بن يسار عن النبي ﷺ قال ما من عبد يسترعيه الله رعية ثم لم يحطها بنصحه إلا لم يدخل الجنة وقد ذكر الله في كتابه عن الأنبياء عليهم السلام أنهم نصحوا لأممهم كما أخبر الله بذلك عن نوح عليه السلام وعن صالح عليه السلام وقال ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله التوبة يعني أن من تخلف عن الجهاد لعذر فلا حرج عليه بشرط أن يكون ناصحا لله ورسوله في تخلفه فإن المنافقين كانوا يظهرون الأعذار كاذبين ويتخلفون عن الجهاد من غير نصح لله ورسوله وقد أخبر النبي ﷺ أن الدين النصيحة فهذا يدل على أن النصيحة تشمل خصال الإسلام والإيمان والإحسان التي ذكرت في حديث جبريل عليه السلام وسمى ذلك كله دينا فإن النصح لله يقتضي القيام بأداء واجباته على أكمل وجوهها وهو مقام الإحسان فلا يكمل النصح لله بدون ذلك ولا يتأتى ذلك بدون كمال المحبة الواجبة والمستحبة ويستلزم ذلك الاجتهاد في التقرب إليه بنوافل الطاعات على هذا الوجه وترك المحرمات والمكروهات على هذا الوجه أيضًا وفي مراسيل الحسن رحمه الله عن النبي ﷺ قال أرأيتم لو كان لأحدكم عبدان فكان أحدهما يطيعه إذا أمره ويؤدى إليه إذا ائتمنه وينصح له إذا غاب عنه، وكان الآخر يعصيه إذا أمره ويخونه إذا ائتمنه ويغشه إذا غاب عنه كانا سواء قالوا لا قال فكذا أنتم عند الله عز وجل خرجه ابن أبي الدنيا.

وخرج الإمام أحمد معناه من حديث أبي الأحوص عن أبيه عن النبي ﷺ.

وقال الفضيل بن عياض الحب أفضل من الخوف ألا ترى إذا كان لك عبدان أحدهما يحبك والآخر يخافك فالذي يحبك منهما ينصحك شاهدا كنت أو غائبًا لحبه إياك والذي يخافك عسى أن ينصحك إذا شهدت لما يخافك ويغشك إذا غبت ولا ينصحك.

قال عبد العزيز بن رفيع قال الحواريون لعيسى عليه الصلاة والسلام ما الخالص من العمل قال مالًا تحب أن يحمدك الناس عليه قالوا فما النصح لله قال أن تبدأ بحق الله قبل حق الناس وإن عرض لك أمران أحدهما لله تعالى والآخر للدنيا بدأت بحق الله تعالى.

وقال الخطابي النصيحة كلمة يعبر بها عن جملة هي إرادة الخير للمنصوح له قال وأصل النصح في اللغة الخلوص يقال نصحت العسل إذا خلصته من الشمع فمعنى النصيحة لله سبحانه صحة الاعتقاد في وحدانيته وإخلاص النية في عبادته والنصيحة لكتابه الإيمان به والعمل بما فيه والنصيحة لرسوله التصديق بنبوته وبذل الطاعة له فيما أمر به ونهي عنه والنصيحة لعامة المسلمين إرشادهم إلى مصالحهم انتهي.

وقد حكى الإمام أبو عبدالله محمد بن نصر المروزي في كتابه تعظيم قدر الصلاة عن بعض أهل العلم أنه فسر هذا الحديث بما لا مزيد على حسنه ونحن نحكيه هاهنا بلفظه إن شاء الله تعالى قال محمد بن نصر قال بعض أهل العلم جماع تفسير النصيحة هي عناية القلب للمنصوح له كائنا من كان وهي على وجهين أحدهما فرض والآخر نافلة فالنصيحة المفترضة لله هي شدة العناية من الناصح باتباع محبة الله في أداء ما فرض ومجانبة ما حرم وأما النصيحة التي هي نافلة فهي إيثار محبته على محبة نفسه وذلك أن يعرض له أمران أحدهما لنفسه والآخر لربه فيبدأ بما كان لربه ويؤخر ما كان لنفسه فهذه جملة تفسير النصيحة لله الفرض منه، وكذلك تفسير النافلة وسنذكر بعضه ليفهم بالتفسير من لا يفهم بالجملة فالفرض منها مجانبة نهيه وإقامة فرضه بجميع جوارحه ما كان مطيقا له فإن عجر عن الإقامة بفرضه لآفة حلت به من مرض أو حبس أو غير ذلك عزم على أداء ما افترض عليه متى زالت عنه العلة المانعة له قال الله عز وجل {لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاء وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى} التوبة فسماهم محسنين لنصيحتهم لله بقلوبهم لما منعوا من الجهاد بأنفسهم وقد ترفع الأعمال كلها عن العبد في بعض الحالات ولا يرفع عنهم النصح لله فلو كان من مرض بحال لا يمكنه عمل شيء من جوارحه بلسان ولا غيره غير أن عقله ثابت لم يسقط عنه النصح لله بقلبه وهو أن يندم على ذنوبه وينوي إن صح أن يقوم بما افترض الله عليه ويجتنب ما نهاه عنه وإلا كان غير ناصح لله بقلبه، وكذلك النصح لله ولرسوله ﷺ فيما أوجبه على الناس عن أمر ربه ومن النصح الواجب لله أن لا يرضى بمعصية العاصي ويحب طاعة من أطاع الله ورسوله وأما النصيحة التي هي نافلة لا فرض فبذل المجهود بإيثار الله تعالى على كل محبوب بالقلب وسائر الجوارح حتى لا يكون في الناصح فضلًا عن غيره لأن الناصح إذا اجتهد لم يؤثر نفسه عليه وقام بكل ما كان في القيام به سروره ومحبته فكذلك الناصح لربه ومن تنفل لله بدون الاجتهاد فهو ناصح على قدر عمله غير مستحق للنصح بكماله وأما النصيحة لكتابه فشدة حبه وتعظيم قدره إذ هو كلام الخالق وشدة الرغبة في فهمه وشدة العناية في تدبره والوقوف عند تلاوته لطلب معاني ما أحب مولاه أن يفهمه عنه أو يقوم به له بعد ما يفهمه، وكذلك الناصح من العباد يفهم وصية من ينصحه إن ورد عليه كتاب من غني يفهمه ليقوم عليه بما كتب فيه إليه فكذلك الناصح لكتاب ربه يعني يفهمه ليقوم لله بما أمره به كما يحب ربنا ويرضي ثم ينشر ما فهم في العباد ويديم دراسته بالمحبة له والتخلق بأخلاقه والتأدب بآدابه.

وأما النصيحة للرسول ﷺ في حياته فبذل المجهود في طاعته ونصرته ومعاونته وبذل المال إذا أراده والمسارعة إلى محبته وأما بعد وفاته فالعناية بطلب سنته والبحث عن أخلاقه وآدابه وتعظيم أمره ولزوم القيام به وشدة الغضب والإعراض عمن يدين بخلاف سنته والغضب على من صنعها لأثرة دنيا وإن كان متدينا بها وحب من كان منه بسبيل من قرابة أو صهر أو هجرة أو نصرة أو صحبة ساعة من ليل أو نهار على الإسلام والتشبه به في زيه ولباسه وأما النصيحة لأئمة المسلمين فحب صلاحهم ورشدهم وعدلهم وحب اجتماع الأمة عليهم وكراهة افتراق الأمة عليهم والتدين بطاعتهم في طاعة الله عز وجل والبغض لمن رأى الخروج عليهم وحب إعزازهم في طاعة الله عز وجل وأما النصيحة للمسلمين فأن يحب لهم ما يحب لنفسه ويكره لهم ما يكره لنفسه ويشفق عليهم ويرحم صغيرهم ويوقر كبيرهم ويحزن لحزنهم ويفرح لفرحهم وإن ضره ذلك في دنياه كرخص أسعارهم وإن كان في ذلك فوات ربح ما يبيع في تجارته، وكذلك جميع ما يضرهم عامة ويحب ما يصلحهم وألفتهم ودوام النعم عليهم ونصرهم على عدوهم ودفع كل أذى ومكروه عنهم.

وقال أبو عمرو بن الصلاح النصيحة كلمة جامعة تتضمن قيام الناصح للمنصوح له بوجوه الخير إرادة وفعلا فالنصيحة لله تعالى توحيده ووصفه بصفات الكمال والجلال وتنزيه عما يضادها ويخالفها وتجنب معاصيه والقيام بطاعته ومحابه بوصف الإخلاص والحب فيه والبغض فيه وجهاد من كفر به تعالى وما ضاهى ذلك والدعاء إلى ذلك والحث عليه والنصيحة لكتابه الإيمان به وتعظيمه وتنزيهه وتلاوته حق تلاوته والوقوف مع أوامره ونواهيه وتفهم علومه وأمثاله وتدبر آياته والدعاء إليه وذب تحريف الغالين وطعن الملحدين عنه والنصيحة لرسوله ﷺ قريب من ذلك الإيمان به وبما جاء به وتوقيره وتبجيله والتمسك بطاعته وإحياء سنته واستنشار علومه ونشرها ومعاداة من عاداه وموالاة من والاه ووالاها والتخلق بأخلاقه والتأدب بآدابه ومحبة آله وأصحابه ونحو ذلك والنصيحة لأئمة المسلمين معاونتهم على الحق وطاعتهم فيه وتذكيرهم به وتنبيههم في رفق ولطف ومجانبة الوثوب عليهم والدعاء لهم بالتوفيق وحث الأغيار على ذلك والنصيحة لعامة المسلمين إرشادهم إلى مصالحهم وتعليمهم أمور دينهم ودنياهم وستر عوراتهم وسد خلاتهم ونصرتهم على أعدائهم والذب عنهم ومجانبة الغش والحسد لهم وأن يحب لهم ما يحب لنفسه ويكره لهم ما يكره لنفسه وما شابه ذلك انتهى ما ذكره ومن أنواع نصحهم دفع الأذى والمكروه عنهم وإيثار فقيرهم وتعليم جاهلهم ورد من زاغ منهم عن الحق في قول أو عمل بالتلطف في ردهم إلى الحق والرفق بهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومحبة إزالة فسادهم ولو بحصول ضرر له في دنياه كما قال بعض السلف وددت أن هذا الخلق أطاعوا الله وأن لحمي قرض بالمقاريض، وكان عمر بن عبد العزيز يقول ياليتني عملت فيكم بكتاب الله وعملتم به فكلما عملت فيكم بسنة وقع منى عضو حتى يكون آخر شيء منها خروج نفسي ومن أنواع النصح لله تعالى وكتابه ورسوله وهو مما يختص به العلماء رد الأهواء المضلة بالكتاب والسنة على موردها وبيان دلالتهما على ما يخالف الأهواء كلها، وكذلك رد الأقوال الضعيفة من زلات العلماء وبيان دلالة الكتاب والسنة على ردها ومن ذلك بيان ما صح من حديث النبي ﷺ ولم يصح منه بتبيين حال رواته ومن تقبل رواياته منهم ومن لا تقبل وبيان غلط من غلط من ثقاتهم الذين تقبل روايتهم ومن أعظم أنواع النصح أن ينصح لمن استشاره في أمره كما قال ﷺ إذا استنصح أحدكم أخاه فلينصح له وفي بعض الأحاديث إن من حق المسلم على المسلم أن ينصح له إذا غاب ومعنى ذلك أنه إذا ذكر في غيبة بالسوء أن ينصره ويرد عنه وإذا رأى من يريد أذاه في غيبته كفه عن ذلك فإن النصح في الغيب يدل على صدق الناصح فإنه قد يظهر النصح في حضوره تملقا ويغشه في غيبته وقال الحسن إنك لن تبلغ حق نصيحتك لأخيك حتى تأمره بما يعجز عنه قال الحسن وقال بعض أصحاب النبي ﷺ والذي نفسي بيده إن شئتم لأقسمن لكم بالله إن أحب عباد الله إلى الله الذين يحببون الله إلى عباده ويحببون عباد الله إلى الله ويسعون في الأرض بالنصيحة وقال فرقد السبخي قرأت في بعض الكتب المحب لله عز وجل أمير مؤمر على الأمراء زمرته أول الزمر يوم القيامة ومجلسه أقرب المجالس فيما هناك والمحبة فيما هناك والمحبة منتهى القربة والاجتهاد ولن يسأم المحبون من طول اجتهادهم لله عز وجل ويحبونه ويحبون ذكره ويحببون إلى خلقه يمشون بين خلقه بالنصائح ويخافون عليهم من أعمالهم يوم تبدو الفضائح أولئك أولياء الله وأحباؤه وصفوته أولئك الذين لا راحة لهم دون لقائه وقال ابن علية في قول أبي بكر المزني ما فاق أبو بكر رضي الله عنه أصحاب محمد ﷺ بصوم ولا صلاة ولكن بشيء كان في قلبه قال الذي كان في قلبه الحب لله عز وجل والنصيحة في خلقه.

وقال الفضيل بن عياض رحمه الله ما أدرك عندنا من أدرك بكثرة الصلاة والصيام وإنما أدرك عندنا بسخاء الأنفس وسلامة الصدور والنصح للأمة وسئل ابن المبارك أي الأعمال أفضل قال النصح لله.

وقال معمر كان يقال أنصح الناس لك من خاف الله فيك، وكان السلف إذا أرادوا نصيحة أحد وعظوه سرا حتى قال بعضهم من وعظ أخاه فيما بينه وبينه فهي نصيحة ومن وعظه على رؤوس الناس فإنما وبخه وقال الفضيل بن عياض رحمه الله المؤمن يستر وينصح والفاجر يهتك ويعير.

وقال عبد العزيز بن أبي رواد كان من كان قبلكم إذا رأى الرجل من أخيه شيئًا يأمره في رفق فيؤجر في أمره ونهيه وإن أحد هؤلاء يخرق بصاحبه فيستغضب أخاه ويهتك ستره. وسئل ابن عباس رضي الله عنهما عن أمر السلطان بالمعروف ونهيه عن المنكر فقال إن كنت فاعلا ولابد ففيما بينك وبينه وقال الإمام أحمد رحمه الله ليس على المسلم نصح الذمي وعليه نصح المسلم وقال النبي ﷺ والنصح لكل مسلم وأن تنصح لجماعة المسلمين وعامتهم.

==========

الحديث الثامن

عن عبدالله بن عمر رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله ﷺ قال أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله تعالى . ررواه البخاري ومسلم.

هذا الحديث خرجاه في الصحيحين من رواية واقد بن محمد بن زيد بن عبدالله بن عمر عن أبيه عن جده عبدالله بن عمر، وقوله إلا بحق الإسلام هذه اللفظة تفرد بها البخاري دون مسلم وقد روى معنى هذا الحديث عن النبي ﷺ من وجوه متعددة ففي صحيح البخاري عن أنس رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال أمرت أن أقاتل الناس يعني المشركين حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله فإذا شهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله وصلوا صلاتنا واستقبلوا قبلتنا وأكلوا ذبيحتنا فقد حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقها.

وخرج الإمام أحمد من حديث معاذ بن جبل عن النبي ﷺ قال إنما أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدًا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك فقد اعتصموا أو عصموا دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله عز وجل وخرجه ابن ماجه مختصرًا.

وخرج نحوه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أيضًا ولكن المشهور من رواية أبي هريرة ليس فيه ذكر إقام الصلاة ولا إيتاء الزكاة ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فمن قال لا إله إلا الله عصم منى ماله ونفسه إلا بحقها وحسابه على الله عز وجل.

وفي رواية لمسلم حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ويؤمنوا بي وبما جئت به وخرجه مسلم أيضًا من حديث جابر رضي الله عنه عن النبي ﷺ بلفظ حديث أبي هريرة الأول وزاد في آخره ثم قرأ {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ} الآية الغاشية وخرجه أيضًا من حديث أبي مالك الأشجعي عن أبيه قال سمعت رسول الله ﷺ يقول من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم الله دمه وماله وحسابه على الله عز وجل.

وقد روي عن سفيان بن عيينة أنه قال كان هذا في أول الإسلام قبل فرض الصلاة والصيام والزكاة والهجرة وهذا ضعيف جدًا وفي صحته عن سفيان نظر فإن رواة هذه الأحاديث إنما صحبوا رسول الله ﷺ في المدينة وبعضهم تأخر إسلامه.

ثم قوله عصموا منى دماءهم وأموالهم يدل على أنه كان عند هذا القول مأمورًا بالقتال ويقتل من أبي الإسلام وهذا كله بعد هجرته إلى المدينة ومن المعلوم بالضرورة أن النبي ﷺ كان يقبل من كل من جاءه يريد الدخول في الإسلام الشهادتين فقط ويعصم دمه بذلك ويجعله مسلمًا فقد أنكر على أسامة ابن زيد قتله لمن قال لا إله إلا الله لما رفع عليه السيف واشتد نكيره عليه ولم يكن النبي ﷺ يشترط على من جاءه يريد الإسلام أن يلتزم الصلاة والزكاة بل قد روي أنه قبل من قوم الإسلام واشترطوا أن لا يزكوا.

ففي مسند الإمام أحمد عن جابر رضي الله عنه قال اشترطت ثقيف على رسول الله ﷺ أن لا صدقة عليهم ولاجهاد وأن رسول الله ﷺ قال سيتصدقون ويجاهدون.

وفيه أيضًا عن نصر بن أيضًا عن نصر بن عاصم الليثي عن رجل منهم أنه أتى النبي ﷺ فأسلم على أن لا يصلي إلا صلاتين فقبل منه وأخذ الإمام أحمد بهذه الأحاديث وقال يصح الإسلام على الشرط الفاسد ثم يلزم بشرائع الإسلام كلها واستدل أيضًا بأن حكيم بن حزام قال بايعت النبي ﷺ على أن لا أخر إلا قائمًا قال أحمد معناه أن يسجد من غير ركوع.

وخرج محمد بن نصر المروزي بإسناد ضعيف جدًا عن أنس رضي الله عنه قال لم يكن النبي ﷺ يقبل من أجابه إلى الإسلام إلا بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانتا فريضتين على من أقر بمحمد ﷺ وبالإسلام وذلك قول الله عز وجل {فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} المجادلة.

وهذا لا يثبت وعلى تقدير ثبوته فالمراد منه أنه لم يكن يقر أحدًا دخل في الإسلام على ترك الصلاة والزكاة وهذا حق فإنه ﷺ أمر معاذا لما بعثه إلى اليمن أن يدعوهم أولا إلى الشهادتين وقال إن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم بالصلاة ثم بالزكاة ومراده أن من صار مسلمًا بدخوله في الإسلام أمر بعد ذلك بإقام الصلاة ثم بإيتاء الزكاة، وكان من سأله عن الإسلام يذكر له مع الشهادتين بقية أركان الإسلام كما قال جبريل عليه الصلاة والسلام لما سأله عن الإسلام وكما قال للأعرابي الذي جاءه ثائر الرأس يسأله عن الإسلام وبهذا الذي قررناه يظهر الجمع بين ألفاظ أحاديث هذا الباب ويتبين أن كلها حق فإن كلمتي الشهادتين بمجردهما تعصم من أتى بهما ويصير بذلك مسلمًا فإذا دخل في الإسلام فإن أقام الصلاة وآتى الزكاة وقام بشرائع الإسلام فله ما للمسلمين وعليه ما على المسلمين وإن أخل بشيء من هذه الأركان فإن كانوا جماعة لهم منعة قوتلوا وقد ظن بعضهم أن معنى الحديث أن الكافر يقاتل حتى يأتي بالشهادتين ويقيم الصلاة ويؤتي الزكاة وجعلوا ذلك حجة على خطاب الكفار بالفروع وفي هذا نظر وسيرة النبي ﷺ في قتال الكفار تدل على خلاف هذا.

وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي ﷺ دعا عليا يوم خيبر فأعطاه الراية وقال امش ولا تلتفت حتى يفتح الله عليك فسار على شيئًا ثم وقف فصرخ يا رسول الله على ماذا أقاتل الناس فقال قاتلهم على أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله فإذا فعلوا ذلك فقد عصموا منك دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله عز وجل فجعل مجرد الإجابة إلى الشهادتين عصمة للنفوس والأموال إلا بحقها ومن حقها الامتناع عن الصلاة والزكاة بعد الدخول في الإسلام كما فهمه الصحابة رضي الله عنهم ومما يدل على قتال الجماعة الممتنعين من إقام الصلاة وإيتاء الزكاة من القرآن قوله تعالى {فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ} التوبة، وقوله تعالى {فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} التوبة، وقوله {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه} البقرة مع قوله تعالى {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} البينة وثبت أن النبي ﷺ إذا غزا قومًا لم يغر عليهم حتى يصبح فإن سمع أذانا وإلا أغار عليهم مع احتمال أن يكونوا قد دخلوا في الإسلام، وكان يوصي سراياه إن سمعتم مؤذنا أو رأيتم مسجدا فلا تقتلوا أحدًا وقد بعث عيينة بن حصن إلى قوم من بني العنبر فأغار عليهم ولم يسمع أذانا ثم ادعوا أنهم قد أسلموا قبل ذلك وبعث النبي ﷺ إلى أهل عمان كتابًا فيه من محمد النبي إلى أهل عمان سلام عليكم أما بعد فأقروا بشهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله وأدوا الزكاة وخطوا المساجد وإلا غزوتكم خرجه البزار والطبراني وغيرهما فهذا كله يدل على أنه كان يعتبر حال الداخلين في الإسلام فإن أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وإلا لم يمتنع عن قتالهم وفي هذا وقع تناظر أبي بكر وعمر رضي الله عنهما كما في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال لما توفى رسول الله ﷺ واستخلف أبو بكر الصديق رضي الله عنه بعده وكفر من كفر من العرب قال عمر رضي الله عنه لأبي بكر كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله ﷺ أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فمن قال لا إله إلا الله فقد عصم منى ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله عز وجل فقال أبو بكر رضي الله عنه والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة فإن الزكاة حق المال ولو منعوني عقالا كانوا يؤدونه إلى رسول الله ﷺ لقاتلتهم على منعه فقال عمر فو الله ما هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق.

فأبو بكر رضي الله عنه أخذ قتالهم من قوله إلا بحقه فدل على أن قتال من أتى بالشهادتين جائز ومن حقه أداء حق المال الواجب وعمر رضي الله عنه ظن أن مجرد الإتيان بالشهادتين يعصم الدم في الدنيا تمسكا بعموم أول الحديث كما ظن طائفة من الناس أن من أتى بالشهادتين امتنع من دخول النار في الآخرة تمسكا بعموم ألفاظ وردت وليس الأمر على ذلك ثم إن عمر رجع إلى موافقة الإمام أبي بكر رضي الله عنه.

وقد خرج النسائي قصة تناظر أبي بكر وعمر رضي الله عنهما بزيادة وهي أن أبا بكر قال لعمر إنما قال رسول الله ﷺ أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ﷺ ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة.

وخرجه ابن خزيمة في صحيحه ولكن هذه الرواية خطأ أخطأ فيها عمران القطان إسنادا ومتنا قاله أئمة الحفاظ منهم علي بن المديني وأبو زرعة وأبو حاتم والترمذي والنسائي ولم يكن هذا الحديث عن النبي ﷺ بهذا اللفظ عند أبي بكر ولا عمر وإنما قال أبو بكر والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة فإن الزكاة حق المال وهذا أخذه والله أعلم من قوله في الحديث إلا بحقها وفي رواية إلا بحق الإسلام فجعل من حق الإسلام إقام الصلاة وإيتاء الزكاة كما أن من حقه أن لا ترتكب الحدود وجعل كل ذلك مما استثني بقوله إلا بحقها.

وقوله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة فإن الزكاة حق المال يدل على أن من ترك الصلاة فإنه يقاتل لأنها حق البدن فكذلك من ترك الزكاة التي هي حق المال وفي هذا إشارة إلى أن قتال تارك الصلاة أمر مجمع عليه لأنه جعله أصلًا مقيسًا عليه وليس هو مذكورًا في الحديث الذي احتج به عمر رضي الله عنه وأنه أخذ من قوله إلا بحقها فكذلك الزكاة لأنها من حقها وكل ذلك من حقوق الإسلام ويستدل أيضًا على القتال على ترك الصلاة بما في صحيح مسلم عن أم سلمة عن النبي ﷺ قال يستعمل عليكم أمراء فتعرفون وتنكرون فمن أنكر فقد برئ ومن كره فقد سلم ولكن من رضي وتابع فقالوا يا رسول الله ألا نقاتلهم قال لا ما صلوا وحكم من ترك سائر أركان الإسلام أن يقاتلوا عليها كما يقاتلوا على ترك الصلاة والزكاة.

وروى ابن شهاب عن حنظلة بن علي الأسقع أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه بعث خالد بن الوليد رضي الله عنه وأمره أن يقاتل الناس على خمس فمن ترك واحدة من الخمس فقاتلهم عليها كما تقاتل على الخمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وقال سعيد بن جبير قال عمر بن الخطاب لو أن الناس تركوا الحج لقاتلناهم عليه كما نقاتلهم على الصلاة والزكاة فهذا الكلام في قتال الطائفة الممتنعة عن شيء من هذه الواجبات وأما قتل الواحد الممتنع عنها فأكثر العلماء على أنه يقتل الممتنع عن الصلاة وهو قول مالك والشافعي وأحمد وأبي عبيد وغيرهم؟

ويدل على ذلك ما في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري أن خالد بن الوليد استأذن النبي ﷺ في قتل رجل فقال لا لعله أن يكون يصلي فقال خالد وكم من مصل يقول بلسانه ما ليس في قلبه فقال رسول الله ﷺ إنى لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس ولا أشق بطونهم.

وفي المسند للإمام أحمد رحمه الله عن عبيد الله بن عدي ابن الخيار أن رجلًا من الأنصار حدثه أنه أتى النبي ﷺ فاستأذنه في قتل رجل من المنافقين فقال النبي ﷺ أليس يشهد أن لا إله إلا الله قال بلى ولا شهادة له قال أليس يصلي قال بلى ولا صلاة قال أولئك الذين نهانا الله عن قتلهم وأما قتل الممتنع عن أداء الزكاة ففيه قولان لمن قال يقتل الممتنع من فعل الصلاة أحدهما يقتل أيضًا وهو المشهور عن أحمد رحمه الله ويستدل له بحديث بن عمر هذا والثاني لا يقتل وهو قول مالك والشافعي وأحمد في رواية وأما الصوم فقال مالك وأحمد في رواية عنه يقتل بتركه وقال الشافعي وأحمد في رواية لا يقتل بذلك ويستدل له بحديث ابن عمر وغيره مما في معناه فإنه ليس في شيء منها ذكر الصوم ولهذا قال أحمد في رواية أبي طالب الصوم ولم يجئ فيه شيء قلت وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعًا وموقوفا أن من ترك الشهادتين أو الصلاة أو الصيام فهو كافر حلال الدم بخلاف الزكاة والحج وقد سبق ذكر شرحه في حديث بني الإسلام على خمس وأما الحج فعن أحمد رحمه الله في القتل بتركه روايتان وحمل بعض أصحابنا رواية قتله على من أخره عازما على تركه بالكلية أو أخره وغلب على ظنه الموت في عامه وأما إن أخره معتقدا أنه على التراخي كما يقوله كثير من العلماء فلا قتل بذلك، وقوله ﷺ إلا بحقها وفي رواية إلا بحق الإسلام قد سبق أن أبا بكر أدخل في هذا الحق فعل الصلاة والزكاة وأن من العلماء من أدخل فيه فعل الصيام والحج أيضًا ومن حقها ارتكاب ما يبيح دم المسلم من المحرمات وقد ورد تفسير حقها بذلك خرجه الطبراني وابن جرير الطبري من حديث أنس عن النبي ﷺ قال أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله عز وجل قيل وما حقها قال زنا بعد إحصان وكفر بعد إيمان وقتل نفس فيقتل بها ولعل آخره من قول أنس وقد قيل إن الصواب وقف الحديث كله عليه ويشهد لهذا ما في الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث الثيب الزاني والنفس بالنفس والتارك لدينه المفارق للجماعة وسيأتي الكلام على هذا الحديث مستوفي عند ذكره في موضعه من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى.

وقوله ﷺ وحسابهم على الله عز وجل يعني أن الشهادتين مع إقام الصلاة وإيتاء الزكاة تعصم دم صاحبها وماله في الدنيا إلا أن يأتي ما يبيح دمه وأما في الآخرة فحسابه على الله عز وجل فإن كان صادقا أدخله الله بذلك الجنة وإن كان كاذبا فإنه من جملة المنافقين في الدرك الأسفل من النار وقد تقدم أن في بعض الروايات في صحيح مسلم ثم تلا {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ * لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ * إِلاَّ مَن تَوَلَّى وَكَفَرَ * فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الأَكْبَرَ * إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} والمعنى إنما عليك أن تذكرهم بالله وتدعوهم إليه ولست مسلطا على إدخال الإيمان في قلوبهم قهرا ولا مكلفا بذلك ثم أخبر أن مرجع العباد كلهم إليه وحسابهم عليه. وفي مسند البزار عن عياض الأنصاري عن النبي ﷺ قال إن لا إله إلا الله كلمة على الله كريمة لها عند الله مكان وهي كلمة من قالها صادقا أدخله الله بها الجنة ومن قالها كاذبا حقنت ماله ودمه ولقي الله غدا فحاسبهوقد استدل بهذا من يرى قبول توبة الزنديق وهو المنافق إذا أظهر العود إلى الإسلام ولم ير قتله بمجرد ظهور نفاقه كما كان النبي ﷺ يعامل المنافقين ويجريهم على أحكام المسلمين في الظاهر مع علمه بنفاق بعضهم في الباطن وهذا قول الشافعي وأحمد في رواية عنه وحكاه الخطابي عن أكثر العلماء والله أعلم.

=============

الحديث التاسع

عن أبي هريرة عبد الرحمن بن صخر رضي الله عنه قال سمعت رسول الله ﷺ يقول ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم . رواه البخاري ومسلم.

هذا الحديث بهذا اللفظ خرجه مسلم وحده من رواية الزهري عن سعيد ابن المسيب وأبي سلمة كلاهما عن أبي هريرة وخرجاه من رواية أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال دعوني ما تركتكم إنما أهلك من كان قبلكم سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم.

وخرجه مسلم من طريقين آخرين عن أبي هريرة بمعناه وفي رواية له ذكر سبب هذا الحديث من رواية محمد بن زياد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال خطبنا رسول الله ﷺ فقال يأيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا فقال رجل أكل عام يا رسول الله فسكت حتى قالها ثلاثًا فقال رسول الله ﷺ لوقلت نعم لوجبت ولما استطعتم ثم قال ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بسؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه وخرجه الدارقطني من وجه آخر مختصرًا وقال فيه فنزل قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} المائدة.

وقد روي من غير وجه أن هذه الآية نزلت لما سألوا النبي ﷺ عن الحج وقالوا أفي كل عام.

وفي الصحيحين عن أنس رضي الله عنه قال خطبنا رسول الله ﷺ فقال رجل من أبي فقال فلان فنزلت هذه الآية {لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء} المائدة.

وفيهما أيضًا عن قتادة عن أنس قال سألوا رسول الله ﷺ حتى أحفوه في المسألة فغضب فصعد المنبر فقال لا تسألوني اليوم عن شيء إلا بينته فقام رجل كان إذا لاحى الرجل دعي إلى غير أبيه فقال يا رسول الله من أبي قال أبوك حذافة ثم أنشأ عمر فقال رضينا بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولًا نعوذ بالله من الفتن.

وكان قتادة يذكر عند هذا الحديث هذه الآية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء} المائدة.

وفي صحيح البخاري عن ابن عباس قال كان قوم يسألون رسول الله ﷺ استهزاء فيقول الرجل من أبي ويقول الرجل تضل ناقته أين ناقتي فأنزل الله هذه الآية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء} المائدة.

وخرج ابن جرير الطبري في تفسيره من حديث أبي هريرة قال خرج رسول الله ﷺ وهو غضبان محمار وجهه حتى جلس على المنبر فقام إليه رجل فقال أين أنا فقال في النار فقام إليه آخر فقال من أبي قال أبوك حذافة فقام عمر رضي الله عنه فقال رضينا بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيًا وبالقرآن إماما إنا يا رسول الله حديثو عهد بجاهلية وشرك والله أعلم بآبائنا قال فسكن غضبه ونزلت هذه الآية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} المائدة.

وروي أيضًا من طريق العوفي عن ابن عباس في قوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} المائدة قال رسول الله ﷺ أذن في الناس فقال يا قوم كتب عليكم الحج فقام رجل فقال يا رسول الله أفي كل عام فأغضب رسول الله ﷺ غضبًا شديدًا فقال والذي نفسي بيده لوقلت نعم لوجبت ولو وجبت ما استطعتم وإذن لكفرتم فاتركوني ما تركتم فإذا أمرتكم بشيء فافعلوا وإذا نهيتكم عن شيء فانتهوا عنه فأنزل الله عز وجل {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} المائدة نهاهم أن يسألوا مثل الذي سألت النصارى في المائدة فأصبحوا بها كافرين فنهى الله تعالى عن ذلك ولكن انظروا فإذا نزل القرآن فإنكم لا تسألون عن شيء إلا وجدتم تبيانه فدلت هذه الأحاديث على النهي عن السؤال عما لا يحتاج إليه ما يسوء السائل جوابه مثل سؤال السائل هل هو في النار أو في الجنة وهل أبو ما ينسب إليه أو غيره وعلى النهي عن السؤال على وجه التعنت والعبث والاستهزاء كما كان يفعله كثير من المنافقين وغيرهم وقريب من ذلك سؤال الآيات واقتراحها على وجه التعنت كما كان يسأله المشركون وأهل الكتاب.

وقال عكرمة وغيره إن الآية نزلت في ذلك ويقرب من ذلك السؤال عما أخفاه الله عن عباده ولم يطلعهم عليه كالسؤال عن وقت الساعة وعن الروح ودلت أيضًا على نهى المسلمين عن السؤال عن كثير من الحلال والحرام مما يخشى أن يكون السؤال سببًا لنزول التشديد فيه كالسؤال عن الحج هل يجب كل عام أم لا.

عظم المسلمين في المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته ولما سئل النبي ﷺ عن اللعان كره المسائل وأعابها حتى ابتلي السائل به عينه قبل وقوعه بذلك في أهله، وكان النبي ﷺ ينهى عن قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال ولم يكن النبي ﷺ يرخص في المسائل إلا للأعراب ونحوهم من الوفود القادمين عليه يتألفهم بذلك فأما المهاجرون والأنصار المقيمون بالمدينة الذين رسخ الإيمان في قلوبهم نهوا عن المسئلة كما في صحيح مسلم عن النواس بن سمعان قال أقمت مع رسول الله ﷺ بالمدينة سنة ما يمنعني من الهجرة إلا المسئلة كان أحدنا إذا هاجر لم يسأل النبي ﷺ وفيه أيضًا عن أنس رضي الله عنه قال نهينا أن نسأل رسول الله ﷺ عن شيء فكان يعجبنا أن يجيء الرجل من أهل البادية العاقل فيسأله ونحن نسمع.

وفي المسند عن أبي أمامة قال كان الله قد أنزل {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} المائدة قال فكنا قد كرهنا كثيرًا من مسألته واتقينا ذلك حين أنزل الله على نبيه ﷺ قال فأتينا أعرابيًا فرشوناه بردا ثم قلنا له سل النبي ﷺ وذكر حديثًا.

وفي مسند أبي يعلى عن البراء بن عازب قال إن كان لتأتي على السنة أريد أن أسأل رسول الله ﷺ عن شيء فأتهيب منه وإن كنا لنتمنى الأعراب.

وفي مسند البزار عن ابن عباس رضي الله عنهما قال ما رأيت قومًا خيرًا من أصحاب محمد ﷺ ما سألوه إلا عن اثنتي عشرة مسألة كلها في القرآن {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} البقرة {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ} البقرة {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ} البقرة {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى} البقرة وذكر الحديث.

وقد كان أصحاب النبي ﷺ أحيانا يسألونه عن حكم حوادث قبل وقوعها لكن للعمل بها عند وقوعها كما قالوا له إنا لاقوا العدو غدًا وليس معنا مدى أفنذبح بالقصب وسألوه عن الأمراء الذين أخبر عنهم بعده وعن طاعتهم وقتالهم وسأله حذيفة عن الفتن وما يصنع فيها فبهذا الحديث وهو قوله ﷺ ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم وهو يدل على كراهة المسائل وذمها ولكن بعض الناس يزعم أن ذلك كان مختصا بزمن النبي ﷺ لما يخشى حينئذ من تحريم ما لم يحرم أو إيجاب ما يشق القيام به وهذا قد أمن بعد وفاته ﷺ ولكن ليس هذا وحده هو سبب كراهة المسائل بل له سبب آخر وهو الذي أشار إليه ابن عباس في كلامه الذي ذكرنا بقوله ولكن انتظروا فإذا نزل القرآن فإنكم لا تسألون عن شيء إلا وجدتم تبيانه ومعنى هذا أن جميع ما يحتاج إليه المسلمون في دينهم لا بد أن يبينه الله في كتابه العزيز ويبلغ ذلك رسوله ﷺ عنه فلا حاجة بعد هذا لأحد في السؤال فإن الله تعالى أعلم بمصالح عباده منهم فما كان فيه هدايتهم ونفعهم فإن الله تعالى لا بد أن يبينه لهم ابتداء من غير سؤال كما قال يبين الله لكم أن تضلوا وحينئذ فلا حاجة إلى السؤال عن شيء ولا سيما قبل وقوعه والحاجة إليه وإنما الحاجة المهمة إلى فهم ما أخبر الله به ورسوله ثم اتباع ذلك والعمل به وقد كان النبي ﷺ يسئل عن المسائل فيحيل على القرآن كما سأله عمر عن الكلالة فقال يكفيك آية الصيف وأشار رسول الله ﷺ في هذا الحديث إلى أن في الاشتغال بامتثال أمره واجتناب نهيه شغلا عن المسائل فقال إذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم فالذي يتعين على المسلم الاعتناء به والاهتمام أن يبحث عما جاء عن الله ورسوله ﷺ ثم يجتهد في فهم ذلك والوقوف على معانيه ثم يشتغل بالتصديق بذلك إن كان من الأمور العلمية وإن كان من الأمور العملية بذل وسعه في الاجتهاد في فعل ما يستطيعه من الأوامر واجتناب ما ينهى عنه فيكون همته مصروفة بالكلية إلى ذلك لا إلى غيره وهكذا كان حال أصحاب النبي ﷺ والتابعين لهم بإحسان في طلب العلم النافع من الكتاب والسنة فأما إن كانت همة السامع مصروفة عند سماع الأمر والنهي إلى فرض أمور قد تقع وقد لا تقع فإن هذا مما يدخل في النهي ويثبط عن الجد في متابعة الأمر وقد سأل رجل ابن عمر عن استلام الحجر فقال له رأيت النبي ﷺ يستلمه ويقبله فقال له الرجل أرأيت إن غلبت عنه أرأيت إن زوحمت فقال له ابن عمر اجعل أرأيت باليمن رأيت رسول الله يستلمه وقبله خرجه الترمذي ومراد ابن عمر أن لا يكون لك هم إلا في الاقتداء بالنبي ﷺ ولا حاجة إلا فرض العجز عن ذلك أو تعسره قبل وقوعه فإنه يفتر العزم على التصميم عن المتابعة فإن التفقه في الدين والسؤال عن العلم إنما يحمد إذا كان للعمل لا للمراء والجدال وقد روي عن علي رضي الله عنه أنه ذكر فتنا تكون في آخر الزمان فقال له عمر متى ذلك يا علي قال إذا تفقه لغير الدين وتعلم لغير العمل والتمست الدنيا بعمل الآخرة وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال كيف بكم إذا لبستم فتنة يربو فيها الصغير ويهرم فيها الكبير وتتخذ سنة فإن غيرت يومًا قيل هذا منكر قالوا ومتى ذلك قال إذا قلت أمناؤكم وكثرت أمراؤكم وقلت فقهاؤكم وكثرت قراؤكم وتفقه لغير الدين والتمست الدنيا بعمل الآخرة خرجها عبدالرازق في كتابه ولهذا المعنى كان كثير من الصحابة والتابعين يكرهون السؤال عن الحوادث قبل وقوعها ولا يجيبون عن ذلك قال عمرو بن مرة خرج عمر على الناس فقال أحرج عليكم أن تسألون عن ما لم يكن فإن لنا فيما كان شغلا وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال لا تسألوا عما لم يكن فإني سمعت عمر رضي الله عنه لعن السائل عما لم يكن، وكان زيد بن ثابت إذا سئل عن شيء يقول كان هذا فإن قالوا لا قال دعوه حتى يكون وقال مسروق سألت أبي بن كعب عن شيء فقال أكان بعد فقلت لا فقال أجمعنا يعني أرحنا حتى يكون فإذا كان اجتهدنا لك رأينا وقال الشعبي سئل عمار عن مسئلة فقال هل كان هذا بعد قالوا لا قال فدعونا حتى يكون فإذا كان تجشمناه لكم وعن الصلت بن راشد قال سألت طاوسا عن شيء فانتهرني فقال أكان هذا قلت نعم قال آلله قلت آلله أصحابنا أخبرونا عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أنه قال يأيها الناس لا تعجلوا بالبلاء قبل نزوله فيذهبكم هاهنا وهاهنا فإنكم إن لم تعجلوا بالبلاء قبل نزوله لم ينفك المسلمون أن يكون فيهم من إذا سئل سدد أو قال وفق وقد خرجه أبو داود في كتاب المراسيل مرفوعًا من طريق ابن عجلان عن طاوس عن معاذ بن جبل قال قال رسول الله ﷺ لا تعجلوا بالبلية قبل نزولها فإنكم إن لم تفعلوا لم ينفك المسلمون أن يكون منهم من إذا قال سدد ووفق وأنكم إن عجلتم تشتت بكم السبل هاهنا وهاهنا ومعنى إرساله أن طاوسا لم يسمع من معاذ وخرجه أيضًا من رواية يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن النبي مرسلًا وروى الحجاج بن منهال حدثنا جرير بن حازم سمعت الزبير بن سعيد رجلًا من بني هاشم قال سمعت أشياخنا يحدثون أن رسول الله ﷺ قال لا يزال في أمتي من إذا سئل سدد وأرشد حتى يسألوا عن ما لا ينزل تبيينه فإذا فعلوا ذلك ذهب بهم هاهنا وهاهنا وقد روى الصنابحي عن معاوية عن النبي ﷺ أنه نهى عن الأغلوطات خرجه الإمام أحمد رحمه الله وفسره الأوزاعي وقال هي شداد المسائل وقال عيسى بن يونس هي ما لا يحتاج إليه من كيف وكيف ويروي من حديث ثوبان عن النبي ﷺ قال سيكون قوم من أمتي يغلطون فقهاءهم بعضل المسائل أولئك شرار أمتي وقال الحسن شرار عباد الله الذين يتبعون شرار المسائل يعمون بها عباد الله وقال الأوزاعي إن الله إذا أراد أن يحرم عبده بركة العلم ألقي على لسانه المغاليط فلقد رأيتهم أقل الناس علمًا وقال ابن وهب عن ما لكم أدركت هذه البلدة وإنهم ليكرهون الإكثار الذي فيه الناس اليوم يريد المسائل وقال أيضًا سمعت مالكا وهو يعيب كثرة الكلام وكثرة الفتيا ثم قال يتكلم كأنه جمل مغتلم يقول هو كذا هو كذا يهدر في كلامه وقال سمعت مالكا يكره الجواب في كثرة المسائل وقال قال الله عز وجل {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} الإسراء فلم يأته في ذلك جواب فكان مالك يكره المجادلة عن السنن.

وقال أيضًا الهيثم بن جميل قلت لمالك يا أبا عبدالله الرجل يكون ععالمًا بالسنن يجادل عنها قال لا ولكن يخبر بالسنة فإن قبلت منه وإلا سكت.

قال إسحق بن عيسي كان مالك يقول المراء والجدال في العلم يذهب بنور العلم من قلب الرجل.

وقال وهب سمعت مالكًا يقول المراء في العلم يقسي القلب ويؤثر الضغن.

وكان أبو شريح الإسكندراني يومًا في مجلسه فكثرت المسائل فقال قد درنت قلوبكم منذ اليوم فقوموا إلى أبي حميد خالد ابن حميد صقلوا قلوبكم وتعلموا هذه الرغائب فإنها تجدد العبادة وتورث الزهادة وتجر الصداقة وأقلوا المسائل إلا ما نزل فإنها تقسي القلب وتورث العداوة.

وقال الميموني سمعت أبا عبدالله يعني أحمد يسأل عن مسألة فقال وقعت هذه المسألة بليتم بها بعد وقد انقسم الناس في هذا الباب قسمان فمن أتباع أهل الحديث من سد باب المسائل حتى قل فهمه وعلمه لحدود ما أنزل الله على رسوله وصار حامل فقه غير فقيه ومن فقهاء أهل الرأي من توسع في توليد المسائل قبل وقوعها ما يقع في العادة منها وما لا يقع واشتغلوا بتكلف الجواب عن ذلك وكثرة الخصومات فيه والجدال عليه حتى يتولد من ذلك افتراق القلوب ويستقر فيها بسببه الأهواء والشحناء والعداوة والبغضاء ويقترن ذلك كثيرًا بنية المغالبة وطلب العلو والمباهاة وصرف وجوه الناس وهذا مما ذمه العلماء الربانيون ودلت السنة على قبحه وتحريمه وأما فقهاء أهل الحديث العاملون به فإن معظم همهم البحث عن معاني كتاب الله وما يفسره من السنن الصحيحة وكلام الصحابة والتابعين لهم بإحسان وعن سنة رسول الله ﷺ ومعرفة صحيحها وسقيمها ثم التفقه فيها وفهمها والوقوف على معانيها ثم معرفة كلام الصحابة والتابعين لهم بإحسان في أنواع العلوم من التفسير والحديث ومسائل الحلال والحرام وأصول السنة والزهد والرقائق وغير ذلك وهذا هو طريق الإمام أحمد ومن وافقه من علماء الحديث الربانيين وفي معرفة هذا شغل شاغل عن التشاغل بما أحدث من الرأي ما لا ينتفع به ولا يقع وإنما يورث التجادل فيه كثرة الخصومات والجدال وكثرة القيل والقال، وكان الإمام أحمد كثيرًا إذا سئل عن شيء من المسائل المحدثة المتولدات التي لا تقع يقول دعونا من هذه المسائل المحدثة وما أحسن ما قاله يونس بن سليمان السقطي نظرت في الأمر فإذا هو الحديث والرأي فوجدت في الحديث ذكر الرب عز وجل وربوبيته وإجلاله وعظمته وذكر العرش وصفة الجنة والنار وذكر النبيين والمرسلين والحلال والحرام والحث على صلة الأرحام وجماع الخير فيه ونظرت في الرأي فإذا فيه المكر والغدر والحيل وقطيعة الأرحام وجماع الشر فيه.

وقال أحمد بن شبويه من أراد علم القبر فعليه بالآثار ومن أراد علم الخير فعليه بالرأي ومن سلك طريقه لطلب العلم على ما ذكرناه تمكن من فهم جواب الحوادث الواقعة غالبًا لأن أصولها توجد في تلك الأصول المشار إليها ولابد أن يكون سلوك هذا الطريق خلاف أئمة أهل الدين المجمع على هدايتهم ودرايتهم كالشافعي وأحمد وإسحق وأبي عبيد ومن سلك مسلكهم فإن من ادعى سلوك هذا الطريق على غير طريقهم وقع في مفاوز ومهالك وأخذ بما لا يجوز الأخذ به وترك ما يجب العمل به وملاك الأمر كله أن يقصد بذلك وجه الله عز وجل والتقرب إليه بمعرفة ما أنزل على رسوله وسلوك طريقه والعمل بذلك ودعاء الخلق إليه ومن كان كذلك وفقه الله وسدده وألهمه رشده وعلمه ما لم يكن يعلم، وكان من العلماء الممدوحين في الكتاب في قوله تعالى {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء} فاطر ومن الراسخين في العلم.

وقد خرج ابن أبي حاتم في تفسيره من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ سئل عن الراسخين في العلم فقال من برت يمينه وصدق لسانه واستقام قلبه ومن عف بطنه وفرجه فذلك من الراسخين في العلم قال نافع بن زيد يقال الراسخون في العلم المتواضعون لله والمتذللون لله في مرضاته لا يتعاظمون على من فوقهم ولا يحقرون من دونهم ويشهد لهذا قول النبي ﷺ أتاكم أهل اليمن هم أبر قلوبًا وأرق أفئدة الإيمان يماني والفقه يماني والحكمة يمانية.

وهذا إشارة منه إلى أبي موسى الأشعري ومن كان على طريقه من علماء أهل اليمن ثم إلى مثل أبي موسى الخولاني وأويس القرني وطاوس ووهب بن منبه وغيرهم من علماء أهل اليمن وكل هؤلاء من العلماء الربانيين الخائفين لله فكلهم علماء بالله يخشونه ويخافونه وبعضم أوسع علمًا بأحكام الله وشرائع دينه من بعض ولم يكن تمييزهم عن الناس بكثرة قيل وقال ولا بحث ولا جدال، وكذلك معاذ ابن جبل رضي الله عنه أعلم الناس بالحلال والحرام وهو الذي يحشر يوم القيامة أمام العلماء برتوة ولم يكن علمه بتوسعة المسائل وتكثيرها بل قد سبق عنه كراهة الكلام فيما لا يقع وإنما كان ععالمًا بالله وععالمًا بأصول دينه رضي الله عنه.

وقد قيل للإمام أحمد من نسأل بعدك قال عبدالوهاب الوراق قيل له إنه ليس له اتساع في العلم قال إنه رجل صالح مثله يوفق لإصابة الحق وسئل عن معروف الكرخي فقال كان معه أصل العلم خشية الله وهذا يرجع إلى قول بعض السلف كفى بخشية الله علمًا وكفى بالاغترار بالله جهلًا وهذا باب واسع يطول استقصاؤه ولنرجع إلى شرح حديث أبي هريرة رضي الله عنه فنقول من لم يشتغل بكثرة المسائل التي لا توجد مثلها في كتاب الله ولا سنة رسوله ﷺ بل اشتغل بفهم كلام الله ورسوله وقصده بذلك امتثال الأوامر واجتناب النواهي فهو ممن امتثل أمر رسول الله ﷺ في هذا الحديث وعمل بمقتضاه ومن لم يكن اهتمامه بفهم ما أنزل الله على رسله واشتغل بكثرة توليد المسائل قد تقع وقد لا تقع وتكلف أجوبتها بمجرد الرأي خشي عليه أن يكون مخالفًا لهذا الحديث مرتكبًا لنهيه تاركًا لأمره.

واعلم أن كثرة وقوع الحوادث التي لا أصل لها في الكتاب والسنة وإنما هو من ترك الاشتغال بامتثال أوامر الله ورسوله واجتناب نواهي الله ورسوله فلو أن من أراد أن يعمل عملًا سأل عما شرع الله في ذلك العمل فامتثله وعما نهى عنه فيه فاجتنبه وقعت الحوادث مقيدة بالكتاب والسنة وإنما يعمل العامل بمقتضى رأيه وهواه فتقع الحوادث عامتها مخالفة لما شرعه الله وربما عسر ردها إلى الأحكام المذكورة في الكتاب والسنة لبعدها عنها.

وفي الجملة فمن امتثل ما أمر به النبي ﷺ في هذا الحديث وانتهي عما نهى عنه، وكان مشتغلا بذلك عن غيره حصل له النجاة في الدنيا والآخرة ومن خالف ذلك واشتغل بخواطره وما يستحسنه وقع فيما حذر منه النبي ﷺ من حال أهل الكتاب الذين هلكوا بكثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم وعدم انقيادهم وطاعتهم لرسلهم، وقوله ﷺ إذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم قال بعض العلماء هذا يؤخذ منه أن النهي أشد من الأمر لأن النهي لم يرخص في ارتكاب شيء منه والأمر قيد بحسب الاستطاعة وروى هذا عن الإمام أحمد رحمه الله ويشبه هذا قول بعضهم أعمال البر يعملها البر الفاجر وأما المعاصي فلا يتركها إلا صديق وروي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال له اتق المحارم تكن أعبد الناس وقالت عائشة رضي الله عنها من سره أن يسبق الدائب المجتهد فليكف عن الذنوب وروي مرفوعًا وقال الحسن ما عبد العابدون بشيء أفضل من ترك ما نهاهم الله عنه والظاهر أن ما ورد من تفضيل ترك المحرمات على فعل الطاعات إنما أريد به على نوافل الطاعات وإلا فجنس الأعمال الواجبات أفضل من جنس ترك المحرمات لأن الأعمال مقصودة لذاتها والمحارم مطلوب عدمها ولذلك لا تحتاج إلى نية بخلاف الأعمال، وكذلك كان جنس ترك الأعمال قد تكون كفرا كترك التوحيد وكترك أركان الإسلام أو بعضها على ما سبق بخلاف ارتكاب المنهيات فإنه لا يقتضي الكفر بنفسه ويشهد لذلك قول ابن عمر رضي الله عنهما لرد دانق من حرام أفضل من مائة ألف تنفق في سبيل الله وعن بعض السلف قال ترك دانق مما يكرهه الله أحب إلى الله من خمسمائة حجة وقال ميمون بن مهران ذكر الله باللسان حسن وأفضل منه أن يذكر الله العبد عند المعصية فيمسك عنها وقال ابن المبارك لأن أرد درهما من شبهة أحب إلى من أن أتصدق بمائة ألف ومائة ألف حتى بلغ ستمائة ألف وقال عمر بن عبدالعزيز ليست التقوى قيام الليل وصيام النهار والتخليط فيما بين ذلك ولكن التقوى أداء ما افترض الله وترك ما حرم الله فإن كان مع ذلك عمل فهو خير إلى خير أو كما قال وقال أيضًا وددت أني لا أصلي غير الصلوات الخمس سوى الوتر وأن أؤدي الزكاة ولا أتصدق بعدها بدرهم وأن أصوم رمضان ولا أصوم بعده يومًا أبدًا وأن أحج حجة الإسلام ثم لا أحج بعدها أبدًا ثم أعمد إلى فضل قوتي فأجعله فيما حرم الله على فأمسك عنه وحاصل كلامهم يدل على اجتناب المحرمات وإن قلت فهي أفضل من الإكثار من نوافل الطاعات فإن ذلك فرض وهذا نفل وقال طائفة من المتأخرين إنما قال ﷺ إذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم لأن امتثال الأمر لا يحصل إلا بعمل والعمل يتوقف وجوده على شروط وأسباب وبعضها قد لا يستطاع فلذلك قيده بالاستطاعة كما قيد الله الأمر بالتقوى بالاستطاعة قال الله عز وجل {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}.

وقال في الحج {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} آل عمران وأما النهي فالمطلوب عدمه وذلك هو الأصل فالمقصود استمرار العدم الأصلي وذلك ممكن وليس فيه ما لا يستطاع وهذا فيه أيضًا نظر فإن الداعي إلى فعل المعاصي قد يكون قويا لا صبر معه للعبد على الامتناع مع فعل المعصية مع القدرة عليها فيحتاج للكف عنها حينئذ إلى مجاهدة شديدة وربما كانت أشق على النفوس من مجرد مجاهدة النفوس على فعل الطاعات ولهذا يوجد كثيرًا من يجتهد في فعل الطاعات ولا يقوي على ترك المحرمات وقد سئل عمر عن قوم يشتهون المعصية ولا يعملون بها فقال أولئك قوم امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجر عظيم. وقال يزيد بن ميسرة يقول الله في بعض الكتب أيها الشاب التارك لشهوته المتبذل في شبابه من أجلي أنت عندي كبعض ملائكتي وقال ما أشد الشهوة في الجسد إنها مثل حريق النار وكيف ينجو منها الحصوريون والتحقيق في هذا أن الله لا يكلف العباد من الأعمال ما لا طاقة لهم به وقد أسقط عنهم كثيرًا من الأعمال بمجرد المشقة رخصة عليهم رحمة لهم وأما المناهي فلم يعذر أحد بارتكابها بقوة الداعي والشهوات بل كلفهم تركها على كل حال وإن ما أباح أن يتناولوا من المطاعم المحرمة عند الضرورة ما تبقى معه الحياة لا لأجل التلذذ والشهوة ومن هنا يعلم صحة ما قال الإمام أحمد رحمه الله إن النهي أشد من الأمر وقد روي عن النبي ﷺ من حديث ثوبان وغيره أنه قال استقيموا ولن تحصوا يعني لن تقدروا على الاستقامة كلها وروى الحكم بن حزن الكلفي قال وفدت إلى رسول الله ﷺ فشهدت معه الجمعة فقام رسول الله ﷺ متوكئا على عصا أو قوس فحمد الله وأثنى عليه بكلمات خفيفات طيبات مباركات ثم قال يأيها الناس إنكم لن تطيقوا ولن تفعلوا كل ما أمرتكم به ولكن سددوا وأبشروا أخرجه الإمام أحمد وأبو داود وفي قوله ﷺ إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم دليل على أن من عجز عن فعل المأمور به كله وقدر على بعضه فإنه يأتي بما أمكن منه وهذا مطرد في مسائل منها الطهارة فإذا قدر على بعضها وعجز عن الباقي إما لعدم الماء أو لمرض في بعض أعضائه دون بعض فإنه يأتي من ذلك بما قدر عليه ويتيمم للباقي وسواء في ذلك الوضوء والغسل على المشهور ومنها الصلاة فمن عجز عن فعل الفريضة قائمًا صلى قاعدا فإن عجز صلاها مضطجعا وفي صحيح البخاري عن عمران بن حصين رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال صل قائمًا فإن لم تستطع فقاعدا فإن لم تستطع فعلى جنبك فإن عجز عن ذلك كله أومأ بطرفه وصلي بنيته ولم تسقط عنه الصلاة على المشهور ومنها زكاة الفطر فإذا قدر على إخراج بعض صاع لزمه ذلك على الصحيح فأما من قدر على صيام بعض النهار دون تكملته فلا يلزمه ذلك بغير خلاف لأن صيام بعض اليوم ليس بقربة في نفسه، وكذلك لو قدر على عتق بعض رقبة في الكفارة لم يلزمه لأن تبعيض العتق غير محبوب للشارع بل أمر بتكملته بكل طريق وأما من فاته الوقوف بعرفة في الحج فهل يأتي بما بقي منه من المبيت بمزدلفة ورمي الجمار أم لا بل يقتصر على الطواف والسعي ويتحلل بعمرة على روايتين عن أحمد أشهرهما أنه يقتصر على الطواف والسعي لأن المبيت والرمي من لواحق الوقوف بعرفة وتوابعه وإنما أمر الله تعالى بذكره عند المشعر الحرام وبذكره في الأيام المعدودات لمن أفاض من عرفات فلا يؤمر به من لا يقف بعرفة كما لا يؤمر به المعتمر والله أعلم. ========

الحديث العاشر

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله ﷺ إن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبا وإن الله تعالى أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال تعالى {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} المؤمنون وقال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} البقرة ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك . رواه مسلم.

هذا الحديث خرجه مسلم من رواية فضيل بن مرزوق عن عدي بن ثابت عن أبي حازم عن أبي هريرة وخرجه الترمذي وقال حسن غريب وفضيل بن مرزوق ثقة وسط خرج له مسلم دون البخاري، وقوله ﷺ إن الله طيب هذا قد جاء أيضًا من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال إن الله طيب يحب الطيب نظيف يحب النظافة وجواد يحب الجود خرجه الترمذي وفي إسناده مقال والطيب هنا معناه الطاهر والمعنى أن الله سبحانه وتعالى مقدس منزه عن النقائص والعيوب كلها وهذا كما في قوله تعالى {وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُوْلَئِكَ مُبَرَّؤُونَ مِمَّا يَقُولُونَ} والمراد المنزهون من أدناس الفواحش وأوضارها، وقوله لا يقبل إلا طيبا قد ورد معناه في حديث الصدقة ولفظه لا يتصدق أحد بصدقة من كسب طيب ولا يقبل الله إلا طيبا والمراد أنه تعالى لا يقبل من الصدقات إلا ما كان طيبا حلالًا وقد قيل إن المراد في هذا الحديث الذي نتكلم فيه الآن بقوله لا يقبل إلا طيبا أعم من ذلك وهو أن لا يقبل من الأعمال إلا ما كان طيبا طاهرًا من المفسدات كلها كالرياء والعجب ولا من الأموال إلا ما كان طيبا حلالًا فإن الطيب يوصف به الأعمال والأقوال والاعتقادات وكل هذه تنقسم إلى طيب وخبيث وقد قيل إنه يدخل في قوله تعالى {قُل لاَّ يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ} المائدة هذا كله وقد قسم الله تعالى الكلام إلى طيب وخبيث فقال ضرب الله مثلًا كلمة طيبة كشجرة طيبة إبراهيم ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة إبراهيموقال تعالى {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} فاطر ووصف الرسول ﷺ بأنه يحل الطيبات ويحرم الخبائث وقد قيل إنه يدخل في ذلك الأقوال والأعمال والاعتقادات أيضًا ووصف الله تعالى المؤمنين بالطيب بقوله تعالى {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ طَيِّبِينَ} النحل وإن الملائكة تقول عند الموت اخرجي أيتها النفس الطيبة التي كانت في الجسد الطيب وإن الملائكة تسلم عليهم عند دخولهم الجنة يقولون لهم طبتم وقد ورد في الحديث أن المؤمن إذا زار أخاه في الله تقول له الملائكة طبت وطاب ممشاك وتبوأت من الجنة منزلا فالمؤمن كله طيب قلبه ولسانه وجسده بما يسكن في قلبه من الإيمان وظهر على لسانه من الذكر وعلى جوارحه من الأعمال الصالحة التي هي ثمرة الإيمان وداخلة في اسمه في هذه الطيبات كلها يقبلها الله عز وجل.

ومن أعظم ما يحصل به طيبة الأعمال للمؤمن من طيب مطعمه وأن يكون من حلال فبذلك يزكو عمله وفي هذا الحديث إشارة إلى أنه لا يقبل العمل ولا يزكو إلا بأكل الحلال وإن أكل الحرام يفسد العمل ويمنع قبوله فإنه قال بعد تقريره إن الله لا يقبل إلا طيبا وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال تعالى {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} المؤمنون وقال {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} البقرة والمراد بهذا أن الرسل وأممهم مأمورون بالأكل من الطيبات التي هي الحلال وبالعمل الصالح فما كان الأكل حلالًا فالعمل الصالح مقبول فإذا كان الأكل غير حلال فكيف يكون العمل مقبولا وما ذكره بعد ذلك من الدعاء وأنه كيف يتقبل مع الحرام فهو مثال لاستبعاد قبول الأعمال مع التغذية بالحرام وقد خرج الطبراني بإسناد فيه نظر عن ابن عباس رضي الله عنهما قال تليت عند رسول الله ﷺ هذه الآية {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً} البقرة.

فقام سعد بن أبي وقاص فقال يا رسول الله ادع الله أن يجعلني مستجاب الدعوة فقال النبي ﷺ يا سعد أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة والذي نفس محمد بيده إن العبد ليقذف اللقمة الحرام في جوفه ما يتقبل الله منه عملًا أربعين يومًا وأيما عبد نبت لحمه من سحت فالنار أولى به.

وفي مسند الإمام أحمد رحمه الله بإسناد فيه نظر أيضًا عن ابن عمر رضي الله عنهما قال من اشترى ثوبا بعشرة دراهم في ثمنه درهم حرام لم يتقبل الله له صلاته ما كان عليه ثم أدخل أصبعيه في أذنيه فقال صمتا إن لم أكن سمعته من رسول الله ﷺ ويروى من حديث علي رضي الله عنه مرفوعًا معناه أيضًا خرجه البزار وغيره بإسناده ضعيف جدًا.

وخرج الطبراني بإسناد فيه ضعف من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال إذا خرج الرجل حاجا بنفقة طيبة ووضع رجله في الغرز فنادي لبيك اللهم لبيك ناداه مناد من السماء لبيك وسعديك وزادك حلال وراحلتك حلال وحجك مبرور غير مأزور وإذا خرج الرجل بالنفقة الخبيثة فوضع رجله في الغرز فنادى لبيك اللهم لبيك ناداه مناد من السماء لا لبيك لا لبيك ولا سعديك زادك حرام ونفقتك حرام وحجك غير مبرور ويروى من حديث عمر رضي الله عنه بنحوه بإسناد ضعيف أيضًا وروي أبو يحيى القتات عن مجاهد عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال لا يقبل الله صلاة امريء في جوفه حرام وقد اختلف العلماء في حج من حج بمال حرام ومن صلى في ثوب حرام هل يسقط عنه فرض الصلاة والحج بذلك وفيه عن الإمام أحمد رحمه الله روايتان وهذه الأحاديث المذكورة تدل على أنه لا يتقبل العمل مع مباشرة الحرام لكن القبول قد يراد به الرضا بالعمل ومدح فاعله والثناء عليه بين الملائكة والمباهاة به وقد يراد به حصول الثواب والأجر عليه وقد يراد به سقوط الفرض به من الذمة فإن كان المراد ههنا القبول بالمعنى الأول أو الثاني لم يمنع ذلك من سقوط الفرض به من الذمة كما ورد أنه لا تقبل صلاة الآبق ولا المرأة التي زوجها عليها ساخط ولا من أتى كاهنا ولا من شرب خمرا أربعين يومًا والمراد والله أعلم نفي القبول بالمعنى الأول أو الثاني وهو المراد والله أعلم من قوله عز وجل {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} ولهذا كانت هذه الآية يشتد منها خوف السلف على نفوسهم فخافوا أن لا يكونوا من المتقين الذين يتقبل الله منهم.

وسئل أحمد عن معنى المتقين فيها فقال يتقي الأشياء فلا يقع فيما لا يحل.

وقال أبو عبدالله النباجي الزاهد رحمه الله خمس خصال بها تمام العمل الإيمان بمعرفة الله عز وجل ومعرفة الحق وإخلاص العمل لله والعمل على السنة وأكل الحلال فإن فقدت واحدة لم يرتفع العمل وذلك إذا عرفت الله عز وجل ولم تعرف الحق لم تنتفع وإذا عرفت الحق ولم تعرف الله لم تنتفع وإن عرفت الله وعرفت الحق ولم تخلص العمل لم تنتفع وإن عرفت الله وعرفت الحق وأخلصت العمل ولم يكن على السنة لم تنتفع وإن تمت الأربع ولم يكن الأكل من حلال لم تنتفع.

وقال وهب بن الورد لو قمت مقام هذه السارية لم ينفعك شيء حتى تنظر ما يدخل في بطنك حلال أم حرام وأما الصدقة بالمال الحرام فغير مقبولة.

كما في صحيح مسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي ﷺ لا يقبل الله صلاة بغير طهور ولا صدقة من غلول.

وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال ما تصدق عبد بصدقة من مال طيب ولا يقبل الله إلا الطيب إلا أخذها الرحمن بيمينه وذكر الحديث.

وفي مسند الإمام أحمد رحمه الله عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال لا يكتسب عبد مالًا من حرام فينفق منه فيبارك فيه ولا يتصدق به فيتقبل منه ولا يتركه خلف ظهره إلا كان زاده إلى النار إن الله لا يمحو السييء بالسيئ ولكن يمحو السييء بالحسن إن الخبيث لا يمحو الخبيث ويروى من حديث دراج عن ابن حجيرة عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال من كسب مالًا حرامًا فتصدق به لم يكن له فيه أجر، وكان إصره عليه خرجه ابن حبان في صحيحه ورواه بعضهم موقوفا على أبي هريرة وفي مراسيل القاسم بن مخيمرة قال رسول الله ﷺ من أصاب مالًا من مأثم فوصل به رحمه وتصدق به أو أنفقه في سبيل الله جمع ذلك جميعا ثم قذف به في نار جهنم وروي عن أبي الدرداء ويزيد بن ميسرة أنهما جعلا مثل من أصاب مالًا من غير حله فتصدق به مثل من أخذ مال يتيم وكسا به أرملة وسئل ابن عباس رضي الله عنهما عمن كان على عمل فكان يظلم ويأخذ الحرام ثم تاب فهو يحج ويعتق ويتصدق منه فقال إن الخبيث لا يكفر الخبيث وكذا قال ابن مسعود رضي الله عنه إن الخبيث لا يكفر الخبيث ولكن الطيب يكفر الخبيث وقال الحسن أيها المتصدق على المسكين ترحمه ارحم من قد ظلمت واعلم أن الصدقة بالمال الحرام تقع على وجهين أحدهما أن يتصدق به الخائن أو الغاصب ونحوهما على نفسه فهذا هو المراد من هذه الأحاديث أنه لا يتقبل منه يعني أنه لا يؤجر عليه بل يأثم بتصرفاته في مال غيره بغير إذنه ولا يحصل للمالك بذلك أجر لعدم قصده ونيته كذا قال جماعة من العلماء منهم ابن عقيل من أصحابنا وفي كتاب عبدالرزاق من رواية زيد بن الأخنس الخزاعي أنه سأل سعيد بن المسيب قال وجدت لقطة أفأتصدق بها قال لا تؤجر أنت ولا صاحبها ولعل مراده فإذا تصدق بها قبل تعريفها الواجب ولو أخذ السلطان أو بعض نوابه من بيت المال مالًا يستحقه فتصدق منه أو أعتق أو بنى به مسجدا أو غيره مما ينتفع به الناس فالمنقول عن ابن عمر أنه كالغاصب إذا تصدق بما غصبه كذلك قيل لعبد الله بن عامر أمير البصرة، وكان الناس قد اجتمعوا عنده في حال موته وهم يثنون عليه ببره وإحسانه وابن عمر ساكت فطلب منه أن يتكلم فروى له حديثًا لا يقبل الله صدقة من غلول ثم قال له وكنت على البصرة وقال أسد بن موسى في كتاب الورع حديث الفضيل بن عياض عن منصور عن تميم بن مسلمة قال قال قال ابن عامر لعبد الله بن عمر أرأيت هذا العقاب التي نسهلها والعيون التي نفجرها ألنا فيها أجر فقال ابن عمر أما علمت أن خبيثا لا يكفر خبيثا قط حدثنا عبدالرحمن بن زياد عن أبي مليح عن ميمون بن مهران قال قال ابن عمر لابن عامر وقد سأله عن العتق فقال مثلك مثل رجل سرق إبل حاج ثم جاهد بها في سبيل الله فانظر هل يقبل منه وقد كان طائفة من أهل التشديد في الورع كطاوس ووهيب بن الورد يتوقون الانتفاع بما أحدثه مثل هؤلاء الملوك وأما الإمام أحمد رحمه الله فإنه رخص فيما فعلوه من المنافع العامة كالمساجد والقناطر والمصانع فإن هذه ينفق عليها من مال الفيء اللهم إلا أن يتيقن أنهم فعلوا أشياء من ذلك بمال حرام كالمكوس والغصوب ونحوهما فحينئد يتوقى الانتفاع بما عمل بالمال الحرام ولعل ابن عمر رضي الله عنهما إنما أنكر عليهم أخذهم لأموال بيت المال لأنفسهم ودعواهم أن ما فعلوه منها بعد ذلك فهو صدقة منهم فإن هذا شبيه بالغصوب وعلى مثل هذا يحمل إنكار من أنكر من العلماء على الملوك بنيان المساجد قال أبو الفرج بن الجوزي رحمه الله رأيت بعض المتقدمين يسأل عمن كسب حلالًا أو حرامًا من السلاطين والأمراء ثم بنى الأربطة والمساجد هل له ثواب فأفتى بما يوجب طيب القلب المنفق وأنه له في إنفاق ما لا يملكه نوع سمسرة لأنه لا يعرف أعيان المغصوبين فيرد عليهم قال فقلت واعجبا من متصدرين للفتوى لا يعرفون أصول الشريعة ينبغي أن ينظر في حال هذا المنفق أو لا فإن كان سلطانا فما يخرج من بيت المال فقد عرفت وجوه مصارفه فكيف يمنع مستحقيه ويشغله بما لا يفيد من بناء مدرسة أو رباط وإن كان من الأمراء أو نواب السلاطين فيجب أن يرد ما يجب رده إلى بيت المال وإن كان حرامًا أو غصبا فكل شيء يصرف فيه حرام والواجب رده على من أخذ منه أو ورثته فإن لم يعرف رده إلى بيت المال يصرف في المصالح أو في الصدقة ولم يحظ آخذه بغير الإثم انتهي وإنما كلامه في السلاطين الذين عهدهم في وقته الذين يمنعون المستحقين من الفيء حقوقهم ويتصرفون فيه لأنفسهم تصرف الملاك ببناء ما يبنونه إليهم من المدارس والأربطة ونحوهما مما قد لا يحتاج إليه ويخص به قومًا دون قوم فأما لو فرض إمام عادل يعطي الناس حقوقهم من الفيء ثم يبني لهم ما يحتاجون إليه من مسجد أو مدرسة أو مارستان ونحو ذلك كان ذلك جائزا فلو كان بعض من يأخذ المال لنفسه من بيت المال بنى بما أخذ منه بناء محتاجا إليه في حال فيجوز البناء فيه من بيت المال لكنه ينسبه إلى نفسه فقد يتخرج على الخلاف في الغاصب إذا رد المال إلى المغصوب منه على وجه الصدقة والهبة هل يبرأ بذلك أم لا وهذا كله إذا بنى على قدر الحاجة من غير سرف ولا زخرفة وقد أمر عمر بن عبدالعزيز بترميم مسجد البصرة من بيت المال ونهاهم أن يتجاوزوا ما تصدع منه وقال إني لم أجد للبنيان في مال الله حقا وروي عنه أنه قال لا حاجة للمسلمين فيما أضر بيت مالهم.

واعلم أن من العلماء من جعل تصرف الغاصب ونحوه في مال غيره موقفا على إجازة مالكه فإن أجاز تصرفه فيه جاز وقد حكى بعض أصحابنا رواية عن أحمد أنه من أخرج زكاته من مال مغصوب ثم أجازه المالك جاز وسقطت عنه الزكاة، وكذلك خرج ابن أبي الدنيا رواية عن أحمد أنه إذا أعتق عبد غيره عن نفسه ملتزما ضمانه في ماله ثم أجازه المالك جاز ونفذ عتقه وهو خلاف نص أحمد وحكى عن الحنفية أنه لو غصب شاة فذبحها لمتعته وقرانه ثم أجازه المالك أجزأت عنه الوجه الثاني من تصرفات الغاصب في المال المغصوب أن يتصدق به عن صاحبه إذا عجز عن رده إليه وإلى ورثته فهذا جائز عند أكثر العلماء منهم مالك وأبو حنيفة وأحمد وغيرهم قال ابن عبدالبر ذهب الزهري ومالك والثوري والأوزاعي والليث إلى أن الغال إذا تفرق أهل العسكر ولم يصل إليهم أنه يدفع إلى الإمام خمسة ويتصدق بالباقي روي ذلك عن عبادة بن الصامت ومعاوية والحسن البصري وهو يشبه مذهب ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهما أنهما كانا يريان أن يتصدق بالمال الذي لا يعرف صاحبه وقال قد أجمعوا في اللقطة على جواز الصدقة بها بعد التعريف وانقطاع صاحبها وجعلوه إذا جاء مخيرًا بين الأجر والضمان، وكذلك المغصوب انتهي وروي عن مالك بن دينار قال سألت عطاء بن أبي رباح عمن عنده مال حرام ولا يعرف أربابه ويريد الخروج منه قال يتصدق به ولا أقول إن ذلك يجزي عنه قال مالك كان هذا القول من عطاء أحب إلى من وزنة ذهب وقال سفيان فيمن اشترى من قوم شيئًا مغصوبا يرده إليهم فإن لم يقدر عليهم يتصدق به كله ولا يأخذ رأس ماله وكذا قال فيمن باع شيئًا ممن تكره معاملته لشبهة ماله قال يتصدق بالثمن وخالفه ابن المبارك وقال يتصدق بالربح خاصة وقال أحمد يتصدق بالربح وكذا قال فيمن ورث مالًا من أبيه، وكان أبوه يبيع ممن يكره معاملته أنه يتصدق منه بمقدار الربح ويأخذ الباقي وقد روي عن طائفة من الصحابة نحو ذلك منهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعبد الله بن يزيد الأنصاري رضي الله عنه والمشهور عن الشافعي رحمه الله في الأموال الحرام أنها تحفظ ولا يتصدق بها حتى يظهر مستحقها، وكان الفضيل بن عياص يرى أن من عنده مال حرام لا يعرف أربابه أنه يتلفه ويلقيه في البحر ولا يتصدق به وقال لا يتقرب إلى الله إلا بالطيب والصحيح الصدقة به لأن إتلاف المال وإضاعته منهي عنه وإرصاده أبدًا تعريض له للإتلاف واستيلاء الظلمة عليه والصدقة به ليست عند مكتسبه حتى يكون تقربا منه بالخبيث وإنما هي صدقة عن مالكه ليكون نفعه له في الآخرة حيث يتعذر عليه الانتفاع به في الدنيا، وقوله ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك هذا الكلام أشار فيه ﷺ إلى آداب الدعاء وإلى الأسباب التي تقتضي إجابته وإلى ما يمنع من إجابته فذكر من الأسباب التي تقتضي إجابة الدعاء أربعة أحدهما إطالة السفر والسفر بمجرده يقتضي إجابة الدعاء كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهن دعوة المظلوم ودعوة المسافر ودعوة الوالد لولده خرجه أبو داود وابن ماجه والترمذي وعنده دعوة الوالد على ولده وروي مثله عن ابن مسعود رضي الله عنه من قوله ومتى طال السفر كان أقرب إلى إجابة الدعاء لأنه مظنة حصول انكسار النفس بطول الغربة عن الأوطان وتحمل المشاق والانكسار من أعظم أسباب إجابة الدعاء والثاني حصول التبذل في اللباس والهيئة بالشعث والإغبار وهو أيضًا من المقتضيات لإجابة الدعاء كما في الحديث المشهور عن النبي ﷺ رب أشعث أغبر ذي طمرين مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره ولما خرج النبي ﷺ للاستسقاء خرج متبذلا متواضعا متضرعا، وكان مطرف بن عبدالله قد حبس له ابن أخ فلبس خلقان ثيابه وأخذ عكازا بيده فقيل له ما هذا قال أستكين لربي لعله أن يشفعني في ابن أخي الثالث: مد يديه إلى السماء وهو من آداب الدعاء التي يرجى بسببها إجابته وفي حديث سلمان عن النبي ﷺ إن الله تعالى حي كريم يستحيى إذا رفع الرجل إليه يديه أن يردهما صفرا خائبتين خرجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه وروي نحوه من حديث أنس وجابر وغيرهما، وكان النبي ﷺ يرفع يديه في الاستسقاء حتى يرى بياض إبطيه ورفع يديه يوم بدر يستنصر الله على المشركين حتى سقط رداؤه عن منكبيه وقد روي عن النبي ﷺ في صفة رفع يديه في الدعاء أنواع متعددة فمنها أنه كان يشير بأصبعه السبابة فقط وروي عنه أنه كان يفعل ذلك على المنبر وفعله لما ركب راحلته وذهب جماعة من العلماء إلى أن دعاء القنوت في الصلاة يشير فيه بأصبعه منهم الأوزاعي وسعيد بن عبدالعزيز وإسحاق بن راهويه وقال ابن عباس وغيره هذا هو الإخلاص في الدعاء وقال ابن سيرين إذا أثنيت على الله فأشر بأصبع واحد ومنها أنه ﷺ رفع يديه وجعل ظهورهما إلى جهة القبلة وهو مستقبلها وجعل بطونهما مما يلي وجهه وقد رويت هذه الصفة عن النبي ﷺ في دعاء الاستسقاء واستحب بعضهم الرفع في الاستسقاء على هذه الصفة منهم الجوزجاني وقال بعض السلف الرفع على هذا الوجه تضرع ومنها عكس ذلك وقد روي عن النبي ﷺ في الاستسقاء أيضًا وروي عن جماعة من السلف أنهم كانوا يدعون كذلك، وقال بعضهم الرفع على هذا الوجه استجارة بالله واستعاذة به، منهم ابن عمر وابن عباس وأبو هريرة، وروي عن النبي ﷺ أنه كان إذا استسقى رفع يديه، وإذا استعاذ رفع يديه على هذا الوجه. ومنها رفع يديه، جعلُ كفيه إلى السماء وظهورهما إلى الأرض وقد ورد الأمر بذلك في سؤال الله عز وجل في غير حديث، وعن ابن عمر وأبي هريرة وابن سيرين أن هذا هو الدعاء والسؤال لله عز وجل.

ومنها عكس ذلك وهو قلب كفيه وجعل ظهورهما إلى السماء وبطنهما إلى ما يلي الأرض وفي صحيح مسلم عن أنس أن النبي ﷺ استسقى فأشار بظهر كفيه إلى السماء وخرجه الإمام أحمد رحمه الله ولفظه فبسط يديه وجعل ظاهرهما مما يلي السماء.

خرجه أبو داود ولفظه استسقي هكذا يعني النبي ﷺ مد يديه وجعل بطونهما مما يلي الأرض.

وخرج الإمام أحمد من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال كان النبي ﷺ واقفا بعرفة يدعو هكذا ورفع يديه حيال ثندويه وجعل بطون كفيه مما يلي الأرض وهكذا وصف حماد بن سلمة رفع النبي ﷺ يديه بعرفة وروي عن ابن سيرين أن هذا هو الاستجارة وقال الحميدي هذا هو الابتهال والرابع الإلحاح على الله عز وجل بتكرير ذكر ربوبيته وهو من أعظم ما يطلب به إجابة الدعاء.

وخرج البزار من حديث عائشة أم المؤمنين مرفوعًا إذا قال العبد يا رب أربعا قال الله لبيك عبدي سل تعطه.

وخرج الطبراني وغيره من حديث سعد بن خارجة أن قومًا شكوا إلى النبي ﷺ قحوط المطر فقال اجثوا على الركب وقولوا يا رب يا رب وارفعوا السبابة إلى السماء فسقوا حتى أحبوا أن يكشف عنهم.

وفي المسند وغيره عن الفضل بن عباس رضي الله عنهما عن النبي ﷺ قال الصلاة مثنى مثنى وتشهد في كل ركعتين وتضرع وتخشع وتمسكن وتقنع يديك يقول ترفعهما إلى ربك مستقبلا بهما وجهك وتقول يا رب يا رب فمن لم يفعل ذلك فهي خداج وقال يزيد الرقاشي عن أنس مرفوعًا ما من عبد يقول يا رب يا رب يا رب إلا قال له ربه لبيك لبيك ثم روي عن أبي الدرداء وابن عباس رضي الله عنهما كانا يقولان اسم الله الأكبر رب رب وعن عطاء قال ما قال عبد يا رب يا رب ثلاث مرات إلا نظر الله إليه فذكر ذلك للحسن فقال أما تقرءون القرآن ثم تلا قوله تعالى {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا باطلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ. رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ. رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ. رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ} ومن تأمل الأدعية المذكورة في القرآن وجدها غالبًا تفتتح باسم الرب كقوله تعالى {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} البقرة {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ} البقرة، وقوله {رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} آل عمران، ومثل هذا في القرآن كثير.

وسئل مالك وسفيان عمن يقول في الدعاء يا سيدي فقال ألا يقول يا رب زاد مالك كما قالت الأنبياء في دعائهم وأما ما يمنع إجابة الدعاء فقد أشار ﷺ إلى أنه التوسع في الحرام أكلا وشربا ولبسا وتغذية وقد سبق حديث ابن عباس في هذا المعنى أيضًا وأن النبي ﷺ قال لسعد أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة فأكل الحرام وشربه ولبسه والتغذي به سبب موجب لعدم إجابة الدعاء وروى عكرمة بن عمار حدثنا الأصفر قال قيل لسعد بن أبي وقاص تستجاب دعوتك من بين أصحاب رسول الله ﷺ قال ما رفعت إلى فمي لقمة إلا وأنا عالم من أين مجيئها ومن أين خرجت وعن وهب بن منبه قال من سره أن يستجيب الله دعوته فليطيب طعمته وعن سهل بن عبدالله قال من أكل الحلال أربعين صباحا أجيبت دعوته وعن يوسف بن أسباط قال بلغنا أن دعاء العبد يحبس عن السموات بسوء المطعم، وقوله ﷺ فأنى يستجاب لذلك معناه كيف يستجاب له فهو استفهام وقع على وجه التعجب والاستبعاد وليس صريحا في استحالة الاستجابة ومنعها بالكلية فيؤخذ من هذا أن التوسع في الحرام والتغذي به من جملة موانع الإجابة وقد يوجد ما يمنع هذا المانع من منعه وقد يكون ارتكاب المحرمات الفعلية مانعا من الإجابة أيضًا، وكذلك ترك الواجبات كما في الحديث أن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يمنع استجابة دعاء الأخيار وفعل الطاعات يكون موجبا لاستجابة الدعاء ولهذا لما توسل الذين دخلوا الغار وانطبقت الصخرة عليهم بأعمالهم الصالحة التي أخلصوا فيها لله تعالى ودعوا الله بها أجيبت دعوتهم وقال وهب ابن منبه مثل الذي يدعو بغير عمل كمثل الذي يرمي بغير وتر، وعنه قال العمل الصالح يبلغ الدعاء ثم تلا قوله تعالى {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} فاطر وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال بالورع عما حرم الله يقبل الله الدعاء والتسبيح وعن أبي ذر رضي الله عنه قال يكفي مع البر من الدعاء مثل ما يكفي الطعام من الملح وقال محمد بن واسع يكفي من الدعاء مع الورع اليسير وقيل لسفيان لو دعوت الله قال إن ترك الذنوب هو الدعاء وقال الليث رأى موسى عليه الصلاة والسلام رجلًا رافعا يديه وهو يسأل الله مجتهدا فقال موسى عليه السلام أي رب عبدك دعاك حتى رحمته وأنت أرحم الراحمين فما صنعت في حاجته فقال يا موسى لو رفع يديه حتى ينقطع ما نظرت في حاجته حتى ينظر في حقي.

وخرج الطبراني بإسناد ضعيف عن ابن عباس مرفوعًا معناه.

وقال مالك بن دينار أصاب بني إسرائيل بلاء فخرجوا مخرجا فأوحى الله تعالى إلى نبيه أن أخبرهم أنكم تخرجون إلى الصعيد بأبدان نجسة وترفعون إلى أكفا قد سفكتم بها الدماء وملأتم بها بيوتكم من الحرام الآن اشتد غضبي عليكم ولن تزدادوا مني إلا بعدا وقال بعض السلف لا تستبطيء الإجابة وقد سددت طرقها بالمعاصي وأخذ بعض الشعراء هذا المعنى فقال:

نحن ندعو الإله في كل كرب

ثم ننساه عند كشف الكروب

كيف نرجو إجابة لدعاء

قد سددنا طريقها بالذنوب

=======

الحديث الحادي عشر

عن أبي محمد الحسن بن على بن أبي طالب رضي الله عنهما سبط رسول الله ﷺ وريحانته قال حفظت من رسول الله ﷺ دع ما يريبك إلى ما لا يريبك . رواه النسائي والترمذي وقال حسن صحيح.

هذا الحديث خرجه الإمام أحمد والترمذي والنسائي وابن حبان في صحيحه والحاكم من حديث يزيد بن أبي مريم عن أبي الجوزاء عن الحسن ابن علي وصححه الترمذي وأبو الجوزاء السعدي قال الأكثرون اسمه ربيعة بن شيبان ووثقه النسائي وابن حبان وتوقف أحمد في أن أبا الجوزاء اسمه ربيعة بن شيبان ومال إلى التفرقة بينهما.

وقال الجوزجاني أبو الجوزاء مجهول لا يعرف وهذا الحديث قطعة من حديث طويل فيه ذكر قنوت الوتر وعند الترمذي وغيره زيادة في هذا الحديث وهي فإن الصدق طمأنينة والكذب ريبة ولفظ ابن حبان فإن الخير طمأنينة وإن الشر ريبة وقد خرجه الإمام أحمد بإسناد فيه جهالة عن أنس عن النبي ﷺ قال دع ما يريبك إلى ما لا يريبك وخرجه من وجه آخر أجود منه موقوفا على أنس.

وخرجه الطبراني من رواية مالك عن نافع عن ابن عمر مرفوعًا قال الدارقطني وإنما يروي هذا من قول ابن عمر وعن عمر ويروي عن مالك من قوله انتهي.

ويروي بإسناد ضعيف عن عثمان بن عطاء الخراساني عن أبيه عن الحسن عن أبي هريرة عن النبي ﷺ أنه قال لرجل دع ما يريبك إلى ما لا يريبك قال وكيف لي بالعلم بذلك قال إذا أردت أمرا فضع يدك على صدرك فإن القلب يضطرب للحرام ويسكن للحلال وإن المسلم الورع يدع الصغيرة مخافة الكبيرة وقد روي عن عطاء الخراساني مرسلًا.

وخرج الطبراني نحوه بإسناد ضعيف عن واثلة بن الأسقع عن النبي ﷺ وزاد فيه فقيل له فمن الورع قال الذي يقف عند الشبهة وقد روي هذا الكلام موقوفا على جماعة من الصحابة منهم عمر وابن عمر رضي الله عنهم وأبو الدرداء وعن ابن مسعود قال ما تريد إلى ما يريبك وحولك أربعة آلاف لا تريبك وقال عمر دعوا الربا والريبة يعني ما ارتبتم فيه وإن لم تتحققوا أنه ربا ومعنى هذا الحديث يرجع إلى الوقوف عند الشبهات واتقائها فإن الحلال المحض لا يحصل لمؤمن في قلبه منه ريب والريب بمعنى القلق والاضطراب بل تسكن إليه النفس ويطمئن به القلب وأما المشتبهات فيحصل بها للقلوب القلق والاضطراب الموجب للشك.

وقال أبو عبدالرحمن العمري الزاهد إذا كان العبد ورعًا ترك ما يريبه إلى ما لا يريبه وقال الفضيل يزعم الناس أن الورع شديد وما ورد على أمران إلا أخذت بأشدهما فدع ما يريبك إلى ما لا يريبك وقال حسان بن أبي سنان ما شيء أهون من الورع إذا رابك شيء فدعه وهذا إنما يسهل على مثل حسان رحمه الله.

قال ابن المبارك كتب غلام لحسان بن أبي سنان إليه من الأهواز أن قصب السكر أصابته آفة فاشتر السكر فيما قبلك فاشتراه من رجل فلم يأت عليه إلا قليل فإذا فيما اشتراه ربح ثلاثين ألفًا قال فأتى صاحب السكر فقال يا هذا إن غلامي كان قد كتب إلى فلم أعلمك فأقلني فيما اشتريت منك فقال له الآخر قد أعلمتني الآن وقد طيبته لك قال فرجع فلم يحتمل قلبه فأتاه فقال يا هذا إني لم آت هذا الأمر من قبل وجهه فأحب أن تسترد هذا البيع قال فما زال به حتى رده عليه.

وكان يونس بن عبيد إذا طلب المتاع ونفق وأرسل ليشتريه يقول لمن يشتري له أعلم من تشتري منه أن المتاع قد طلب.

وقال هشام بن حسان ترك محمد بن سيرين أربعين ألفًا فيما لا ترون به اليوم بأسًا، وكان الحجاج بن دينار قد بعث طعامًا إلى البصرة مع رجل وأمره أن يبيعه يوم يدخل بسعر يومه فأتاه كتابه أني قدمت البصرة فوجدت الطعام منقصا فحبسته فزاد الطعام فازددت فيه كذا أو كذا فكتب إليه الحجاج إنك قد خنتنا وعملت بخلاف ما أمرناك به فإذا أتاك كتابي فتصدق بجميع ذلك الثمن ثمن الطعام على فقراء البصرة فليتني أسلم إذا فعلت ذلك وتنزه يزيد بن زريع عن خمسائة ألف من ميراث أبيه فلم يأخذه، وكان أبوه يلي الأعمال للسلاطين، وكان يزيد يعمل الخوص ويتقوت منه إلى أن مات رحمه الله.

وكان المسور بن مخرمة قد احتكر طعامًا كثيرًا فرأى سحابًا في الخريف فكرهه فقال ألا أراني كرهت ما ينفع المسلمين فآلي أن لا يربح فيه شيئًا فأخبر بذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال له عمر جزاك الله خير وفي هذا أن المحتكر ينبغي له التنزه عن ربح ما احتكره احتكارًا منهيًا عنه.

وقد نص الإمام أحمد رحمه الله على التنزه عن ربح ما لم يدخل في ضمانه لدخوله في ربح ما لم يضمن وقد نهى عنه النبي ﷺ فقال أحمد في رواية عنه فمن أجر ما استأجره بربحه إنه يتصدق بالربح.

وقال في رواية عنه في ربح مال المضاربة إذا خالف فيه المضارب أنه يتصدق به وقال في رواية عنه فيما إذا اشترى ثمرة قبل بدو صلاحها بشرط القطع ثم تركها حتى بدا صلاحها إنه يتصدق بالزيادة وحمله طائفة من أصحابنا على الاستحباب لأن الصدقة بالشبهات مستحبة.

وروي عن عائشة رضي الله عنها أنها سئلت عن أكل الصيد للمحرم إذا لم يصبه فقالت إنما هي أيام قلائل فما رابك فدعه يعني ما اشتبه عليك هل هو حلال أو حرام فاتركه فإن الناس اختلفوا في إباحة أكل الصيد للمحرم إذا لم يصد هو وقد يستدل بهذا على أن الخروج من اختلاف العلماء أفضل لأنه أبعد عن الشبهة ولكن المحققين من العلماء من أصحابنا وغيرهم على أن هذا ليس هو على إطلاقه فإن من مسائل الاختلاف ما ثبت فيه عن النبي ﷺ رخصة ليس لها معارض فاتباع تلك الرخصة أولى من اجتنابها وإن لم تكن تلك الرخصة بلغت بعض العلماء فامتنع منها لذلك.

وهذا كمن تيقن الطهارة وشك في الحدث فإنه صح عن النبي ﷺ أنه قال لا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا ولا سيما إن كان شكه في الصلاة فإنه لا يجوز له قطعها لصحة النهي عنه وإن كان بعض العلماء يوجب ذلك وإن كان للرخصة معارض إما من سنة أخرى أو من عمل الأمة بخلافها فالأولى ترك العمل بها وكذا لو كان قد عمل بها شذوذ من الناس واشتهر في الأمة العمل بخلافها في أمصار المسلمين من عهد الصحابة رضي الله عنهم فإن الأخذ بما عليه عمل المسلمين هو المتعين فإن هذه الأمة قد أجارها الله أن يظهر أهل باطلها على أهل حقها فما ظهر العمل به في القرون الثلاثة المفضلة فهو الحق وما عداه فهو باطل وهاهنا أمر ينبغي التفطن له وهو أن التدقيق في التوقف عن الشبهات إنما يصلح لمن استقامت أحواله كلها وتشابهت أعماله في التقوى والورع فأما من يقع في انتهاك المحرمات الظاهرة ثم يريد أن يتورع عن شيء من دقائق الشبهة فإنه لا يحتمل له ذلك بل ينكر عليه كما قال ابن عمر لمن سأله عن دم البعوض من أهل العراق يسألونني عن دم البعوض وقد قتلوا الحسين وسمعت النبي ﷺ يقول هما ريحانتاي من الدنيا.

وسأل رجل بشر بن الحارث عن رجل له زوجة وأمه تأمره بطلاقها فقال إن كان بر أمه في كل شيء ولم يبق من برها إلا طلاق زوجته فليفعل وإن كان يبرها بطلاق زوجته ثم يقوم بعد ذلك إلى أمه فيضربها فلا يفعل.

وسئل الإمام أحمد رحمه الله عن رجل يشتري بقلا ويشترط الخوصة يعني التي تربط بها حزمة البقل فقال أحمد إيش هذه المسائل قيل له إن إبراهيم بن أبي نعيم يفعل ذلك فقال أحمد إن كان إبراهيم بن أبي نعيم فنعم هذا يشبه ذاك وإنما أنكر هذه المسائل ممن لا يشبه حاله.

وأما أهل التدقيق في الورع فيشبه حالهم هذا وقد كان الإمام أحمد نفسه يستعمل في نفسه هذا الورع فإنه أمر من يشتري له سمنًا فجاء به على ورقة فأمر برد الورقة إلى البائع.

وكان الإمام أحمد لا يستمد من محابر أصحابه وإنما يخرج معه محبرته يستمد منها واستأذنه رجل أن يكتب من محبرته فقال له اكتب فهذا ورع مظلم واستأذن رجل آخر في ذلك فتبسم فقال لم يبلغ ورعي ولا ورعك هذا.

وهذا قاله على وجه التواضع وإلا فهو كان في نفسه يستعمل هذا الورع، وكان ينكره على من لم يصل إلى هذا المقام بل يتسامح في المكروهات الظاهرة ويقدم على الشبهات من غير توقف.

وقوله ﷺ فإن الخير طمأنينة وإن الشر ريبة يعني أن الخير تطمئن به القلوب والشر ترتاب به ولا تطمئن إليه وفي هذا إشارة إلى الرجوع إلى القلوب عند الاشتباه وسيأتي مزيد لهذا الكلام على حديث النواس بن سمعان إن شاء الله تعالى.

وخرج ابن جرير بإسناده عن قتادة عن بشر بن كعب أنه قرأ هذه الآية {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا} الملك ثم قال لجاريته إن دريت ما مناكبها فأنت حرة لوجه الله قالت مناكبها جبالها فكأنما سفع في وجهه ورغب في جاريته فسألهم فمنهم من أمره ومنهم من نهاه فسأل أبا الدرداء فقال الخير طمأنينة والشر ريبة فذر ما يريبك إلى ما لا يريك.

وقوله في الرواية الأخرى إن الصدق طمأنينة والكذب ريبة يشير إلى أنه لا ينبغي الاعتماد على قول كل قائل كما قال في حديث وابصة وإن أفتاك الناس وأفتوك وإنما يعتمد على قول من يقول الصدق وعلامة الصدق أن تطمئن به القلوب وعلامة الكذب أن تحصل به الريبة فلا تسكن القلوب إليه بل تنفر منه ومن هنا كان العقلاء على عهد النبي ﷺ إذا سمعوا كلامه وما يدعو إليه عرفوا أنه جاء بالحق وإذا سمعوا كلام مسيلمة عرفوا أنه كاذب وأنه جاء بالباطل. وقد روي أن عمرو بن العاص سمعه قبل إسلامه يدعي أنه أنزل عليه يا وبر لك أذنان وصدر وإنك لتعلم يا عمرو فقال والله إني لأعلم أنك تكذب وقال بعض المتقدمين صور ما شئت في قلبك وتفكر فيه ثم قسه إلى ضده فإنك إذا ميزت بينهما عرفت الحق من الباطل والصدق من الكذب قال كأنك تصور محمدًا ﷺ ثم تتفكر فيما أتى به من القرآن فتقرأ {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ} البقرة الآية ثم تتصور ضد محمد ﷺ فتجده مسيلمة فتتفكر فيما جاء به فتقرأ ألا يا ربة المخدع قد هيئ لك المضجع يعني قوله سجاعحين تزوج بها قال فترى هذا يعني القرآن رصينًا عجيبًا يلوط بالقلب ويحسن في السمع وترى ذا يعني قول مسيلمة باردًا غثًا فاحشًا فتعلم أن محمدًا حقًا أتى بوحي وأن مسيلمة كذاب أتى بباطل.

==========

الحديث الثاني عشر

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله ﷺ من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه . رواه الترمذي وغيره هكذا.

هذا الحديث خرجه الترمذي وابن ماجه من رواية الأوزاعي عن قرة بن عبدالرحمن عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنهم وقال الترمذي غريب وقد حسنه الشيخ المصنف رحمه الله لأن رجال إسناده ثقات وقرة بن عبدالرحمن بن حيوة وثقة قوم وضعفه آخرون وقال ابن عبدالبر هذا الحديث محفوظ عن الزهري بهذا الإسناد من رواية الثقات وهذا موافق لتحسين الشيخ له رضي الله عنه وأما أكثر الأئمة فقالوا ليس هو محفوظًا بهذا الإسناد إنما هو محفوظ عن الزهري عن على بن حسين عن النبي ﷺ مرسلًا كذلك رواه الثقات عن الزهري منهم مالك في الموطأ ويونس ومعمر وإبراهيم ابن سعد إلا أنه قال من إيمان المرء تركه ما لا يعنيه وممن قال إنه لا يصح إلا عن على بن حسين مرسلًا الإمام أحمد ويحيي بن معين والبخاري والدارقطني.

وقد خلط الضعف في إسناده عن الزهري تخليطا فاحشا والصحيح فيه المرسل ورواه عبدالله بن عمرو العمري عن الزهري عن على بن حسين عن أبيه عن النبي ﷺ فوصله وجعله من مسند الحسين بن علي وخرجه الإمام أحمد في مسنده من هذا الوجه والعمري ليس بالحافظ.

وخرجه أيضًا من وجه آخر عن الحسين عن النبي ﷺ وضعفه البخاري في تاريخه من هذا الوجه أيضًا وقال لا يصح إلا عن على بن حسين مرسلًا وقد روي عن النبي ﷺ من وجوه أخر وكلها ضعيفة وهذا الحديث أصل عظيم من أصول الأدب وقد حكى الإمام أبو عمرو بن الصلاح عن أبي محمد بن أبي زيد إمام المالكية في زمانه أنه قال جماع آداب الخير وأزمته تتفرع من أربعة أحاديث قول النبي ﷺ من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت.

وقوله ﷺ من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه، وقوله ﷺ الذي اختصر له في الوصية لا تغضب، وقوله ﷺ المؤمن يحب لأخيه ما يحب لنفسه ومعنى هذا الحديث أن من حسن إسلامه تركه ما لا يعنيه من قول وفعل واقتصر على ما يعنيه من الأقوال والأفعال ومعنى يعنيه أن تتعلق عنايته به ويكون من مقصده ومطلوبه والعناية شدة الاهتمام بالشيء يقال عناه يعنيه إذا اهتم به وطلبه وليس المراد أنه يترك ما لا عناية له به ولا إرادة بحكم الهوى وطلب النفس بل بحكم الشرع والإسلام ولهذا جعله من حسن الإسلام فإذا حسن إسلام المرء ترك ما لا يعنيه في الإسلام من الأقوال والأفعال فإن الإسلام يقتضي فعل الواجبات كما سبق ذكره في شرح حديث جبريل عليه السلام وإن الإسلام الكامل الممدوح يدخل فيه ترك المحرمات كما قال النبي ﷺ المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده وإذا حسن اقتضى ترك ما لا يعني كله من المحرمات أو المشتبهات والمكروهات وفضول المباحات التي لا يحتاج إليها فإن هذا كله لا يعني المسلم إذا كمل إسلامه وبلغ إلى درجة الإحسان وهو أن يعبد الله تعالى كأنه يراه فإن لم يكن يراه فإن الله يراه فمن عبدالله على استحضار قربه ومشاهدته بقلبه أو على استحضار قرب الله منه واطلاعه عليه فقد حسن إسلامه ولزم من ذلك أن يترك كل ما لا يعنيه في الإسلام ويشتغل بما يعنيه فيه فإنه يتولى من هذين المقامين الاستحياء من الله وترك كل ما يستحيا منه كما وصى ﷺ رجلًا أن يستحيى من الله كما يستحيى من رجل من صالحي عشيرته لا يفارقه.

وفي المسند والترمذي عن ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعًا الاستحياء من الله تعالى أن تحفظ الرأس وما وعي وتحفظ البطن وما حوى ولتذكر الموت والبلى ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء قال بعضهم استحيى من الله على قدر قربه منك وخف الله على قدر قدرته عليك وقال بعض العارفين إذا تكلمت فاذكر سمع الله لك وإذا سكت فاذكر نظره إليك وقد وقعت الإشارة في القرآن العظيم إلى هذا المعنى في مواضع كقوله تعالى {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ. إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ. مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} ق، وقوله تعالى {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} يونس وقال تعالى {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} الزخرف وأكثر ما يراد بترك ما لا يعني حفظ اللسان من لغو الكلام كما أشير إلى ذلك في الآيات الأول التي هي في سورة ق.

وفي المسند من حديث الحسن عن النبي ﷺ قال إن من حسن إسلام المرء قلة الكلام فيما لا يعنيه.

وخرج الخرائطي من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال أتى النبي ﷺ رجل فقال يا رسول الله إني مطاع في قومي فما آمرهم قال له مرهم بإفشاء السلام وقلة الكلام إلا فيما يعنيهم.

وفي صحيح ابن حبان عن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال كان في صحف إبراهيم عليه الصلاة والسلام وعلى العاقل ما لم يكن مغلوبًا على عقله أن تكون له ساعات ساعة يناجي فيها ربه وساعة يحاسب فيها نفسه وساعة يتفكر فيها في صنع الله تعالى وساعة يخلو فيها لحاجته من المطعم والمشرب وعلى العاقل أن لا يكون ظاعنا إلا لثلاث تزود لمعاد أو حرفة لمعاش أو لذة في غير محرم وعلى العاقل أن يكون بصيرا بزمانه مقبلا على شأنه حافظا للسانه ومن حسب كلامه من عمله قل كلامه إلا فيما يعنيه.

قال عمر بن عبدالعزيز رحمه الله من عد كلامه من عمله قل كلامه إلا فيما يعنيه وهو كما قال فإن كثيرًا من الناس لا يعد كلامه من عمله فيجازف فيه ولا يتحري وقد خفي هذا على معاذ بن جبل رضي الله عنه حتى سأل عنه ﷺ فقال أنؤاخذ بما نتكلم به فقال ثكلتك أمك يامعاذ وهل يكب الناس على مناخرهم في النار إلا حصائد ألسنتهم وقد نفى الله الخير عن كثير مما يتناجى به الناس بينهم فقال لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس النساء.

وخرج الترمذي وابن ماجه من حديث أم حبيبة عن النبي ﷺ قال كل كلام ابن آدم عليه لا له إلا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وذكر الله عز وجل.

وقد تعجب قوم من هذا الحديث عند سفيان الثوري فقال سفيان وما يعجبكم من هذا أليس قد قال الله تعالى {لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ} النساء أليس قد قال تعالى {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا} النبأ.

وخرج الترمذي من حديث أنس رضي الله عنه قال توفى رجل من أصحابه يعني النبي ﷺ فقال رجل أبشر بالجنة فقال رسول الله ﷺ أو لا تدري فلعله تكلم بما لا يعنيه أو بخل بما لا يغنيه وقد روي معنى هذا الحديث من وجوه متعددة عن النبي ﷺ وفي بعضها أنه قتل شهيدًا.

وخرج أبو القاسم البغوي في معجمه من حديث شهاب بن مالك، وكان وفد على النبي ﷺ أنه سمع النبي ﷺ وقالت له امرأة يا رسول الله ألا تسلم علينا فقال إنك من قبيل يقللن الكثير ومنعها ما لا يغنيها وسؤالها عما لا يعنيها.

وخرجه العقيلي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا أكثر الناس ذنوبًا أكثرهم كلامًا فيما لا يعنيه.

قال عمرو بن قيس الملائي مر رجل بلقمان والناس عنده فقال له ألست عبد بني فلان قال بلى قال الذي كنت ترعى عند جبل كذا وكذا قال بلى فقال فما بلغ بك ما أرى قال صدق الحديث وطول السكوت عما لا يعنيني.

وقال وهب بن منبه كان في بني إسرائيل رجلان بلغت بهما عبادتهما أن مشيا على الماء فبينما هما يمشيان في البحر إذ هما برجل يمشي على الهواء فقالا له يا عبدالله بأي شيء أدركت هذه المنزلة قال بيسير من الدنيا فطمت نفسي عن الشهوات وكففت لساني عما لا يعنيني ورغبت فيما دعاني إليه ربي ولزمت الصمت فإن أقسمت على الله أبر قسمي وإن سألته أعطاني ودخلوا على بعض الصحابة في مرضه ووجهه يتهلل فسألوه عن سبب تهلل وجهه فقال ما من عمل أوثق عندي من خصلتين كنت لا أتكلم فيما لا يعنيني، وكان قلبي سليمًا للمسلمين.

وقال مورق العجلي أمر أنا في طلبه منذ كذا وكذا سنة لم أقدر عليه ولست بتارك طلبه أبدًا قالوا وما هو قال الكف عما لا يعنيني رواهما ابن أبي الدنيا.

وروى أسد بن موسى قال حدثنا أبو معشر عن محمد بن كعب رضي الله عنه قال قال رسول الله ﷺ أول من يدخل عليكم رجل من أهل الجنة فدخل عبدالله بن سلام فقام إليه ناس فأخبروه وقالوا له أخبرنا بأوثق عملك في نفسك قال إن عملي لضعيف وأوثق ما أرجو به سلامة الصدر وتركي ما لا يعنيني.

وروى أبو عبيدة عن الحسن قال من علامة إعراض الله تعالى عن العبد أن يجعل شغله فيما لا يعنيه خذلانا من الله عز وجل.

وقال سهل بن عبدالله التستري من تكلم فيما لا يعنيه حرم الصدق وقال معروف كلام العبد فيما لا يعنيه خذلان من الله عز وجل وهذا الحديث يدل على أن ترك ما لا يعني المرء من حسن إسلامه فإذا ترك ما لا يعنيه وفعل ما يعنيه كله فقد كمل حسن إسلامه وقد جاءت الأحاديث بفضل من حسن إسلامه وأنه تضاعف حسناته وتكفر سيئاته والظاهر أن كثرة المضاعفة تكون بحسب حسن الإسلام ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال إذا أحسن أحدكم إسلامه فكل حسنة يعملها تكتب بعشر أمثالها إلى سبع مائة ضعف وكل سيئة تكتب بمثلها حتى يلقى الله عز وجل فالمضاعفة للحسنة بعشر أمثالها لا بد منه والزيادة على ذلك تكون بحسب إحسان الإسلام وإخلاص النية والحاجة إلى ذلك العمل وفضله كالنفقة في الجهاد وفي الحج وفي الأقارب وفي اليتامى والمساكين وأوقات الحاجة إلى النفقة ويشهد لذلك ما روى عطية عن ابن عمر رضي الله عنه قال نزلت {مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} الأنعام في الأعراب قيل له فما للمهاجرين قال ما هو أكثر ثم تلا قوله تعالى {وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} النساء.

وخرج النسائي من حديث أبي سعيد عن النبي ﷺ قال إذا أسلم العبد فحسن إسلامه كتب الله له كل حسنة كان أزلفها ومحيت عنه كل سيئة كان أزلفها ثم كان بعد ذلك القصاص الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف والسيئة بمثلها إلا أن يتجاوز الله وفي رواية أخرى.

وقيل له استأنف العمل والمراد بالحسنات والسيئات التي كان أزلفها ما سبق منه قبل الإسلام وهذا يدل على أنه يثاب بحسناته في الكفر إذا أسلم ويمحي عنه سيئاته إذا أسلم لكن بشرط أن يحسن إسلامه ويتقي تلك السيئات في حال إسلامه.

وقد نص على ذلك الإمام أحمد رحمه الله ويدل على ذلك ما في الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه قال قلنا يا رسول الله أنؤاخذ بما عملنا في الجاهلية قال أما من أحسن منكم في الإسلام فلا يؤاخذ بها ومن أساء أخذ بعمله في الجاهلية والإسلام وفي صحيح مسلم عن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال للنبي ﷺ لما أسلم أريد أن أشترط قال تشترط ماذا قلت أن يغفر لي قال أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله وخرجه الإمام أحمد ولفظه أن الإسلام يجب ما كان قبله من الذنوب وهذا محمول على الإسلام الكامل الحسن جمعا بينه وبين حديث ابن مسعود الذي قبله وفي صحيح مسلم أيضًا عن حكيم بن حزام قال قلت يا رسول الله أرأيت أمورا كنت أصنعها في الجاهلية من صدقة أو عتاقة أو صلة رحم أفيها أجر فقال رسول ﷺ أسلمت على ما أسلفت من خير وفي رواية قال فقلت والله لا أدع شيئًا صنعته في الجاهلية إلا صنعت في الإسلام مثله وهذا يدل على أن حسنات الكافر إذا أسلم يثاب عليها كما دل عليه حديث أبي سعيد المتقدم وقد قيل إن سيئاته في الشرك تبدل حسنات ويثاب عليها أخذا من قوله تعالى {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا. يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا. إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} الفرقان.

وقد اختلف المفسرون في هذا التبديل على قولين فمنهم من قال هو في الدنيا بمعنى أن الله يبدل من أسلم وتاب إليه بدل ما كان عليه من الكفر والمعاصي الإيمان والأعمال الصالحة وحكى هذا القول إبراهيم الحربي في غريب الحديث عن أكثر المفسرين وسمي منهم ابن عباس وعطاء وقتادة والسدي وعكرمة قلت وهو المشهور عن الحسن رضي الله عنه قال وقال الحسن وأبو مالك وغيرهما هي في أهل الشرك خاصة ليس هي في أهل الإسلام قلت إنما يصح هذا القول على أن يكون التبديل في الآخرة كما سيأتي وأما إن قيل إنه في الدنيا فالكافر إذا أسلم والمسلم إذا تاب في ذلك فهي أحسن حالًا من الكافر إذا أسلم قال وقال آخرون التبديل في الآخرة جعلت لهم مكان كل سيئة حسنة منهم عمرو بن ميمون ومكحول وابن المسيب وعلى بن الحسين قال وأنكره أبو العالية ومجاهد وخالد سبلان وفيه مواضع إنكار ثم ذكر ما حاصله أنه يلزم من ذلك أن يكون من كثرت سيئاته احسن حالًا ممن قلت سيئاته حيث يعطي مكان كل سيئة حسنة ثم قال ولو قال قائل إنما ذكر الله أن تبدل السيئات حسنات ولم يذكر العدد كيف تبدل فيجوز أن معنى تبدل أن من عمل سيئة واحدة وتاب منها يبدله الله مائة ألف حسنة ومن عمل ألف سيئة أن تبدل ألف حسنة فيكون حينئذ من قلت سيئاته أحسن حالًا قلت هذا القول وهو التبديل في الآخرة قد أنكره أبو العالية وتلا قوله تعالى {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا} آل عمران ورده بعضهم بقوله تعالى {وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} الزلزلة، وقوله تعالى {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} الكهف.

ولكن قد أجيب عن هذا بأن التائب يوقف على سيئاته ثم تبدل حسنات.

قال أبو عثمان النهدي إن المؤمن يؤتي كتابه في ستر من الله عز وجل فيقرأ سيئاته فإذا قرأ تغير لها لونه حتى يمر بحسناته فيقرؤها فيرجع إليه لونه ثم ينظر فإذا سيئاته قد بدلت حسنات فعند ذلك يقول هاؤم اقرءوا كتابيه الحاقة.

ورواه بعضهم عن أبي عثمان عن ابن مسعود وقال بعضهم عن أبي عثمان عن سلمان.

وفي صحيح مسلم من حديث أبي ذر عن النبي ﷺ قال إني لأعلم آخر أهل الجنة دخولا الجنة وآخر أهل النار خروجا منها رجل يؤتى به يوم القيامة فيقال اعرضوا عليه صغار ذنوبه وارفعوا عنه كبارها فتعرض عليه صغار ذنوبه فيقال له علمت يوم كذا وكذا كذا وكذا وعملت يوم كذا وكذا كذا وكذا فيقول نعم لا يستطيع أن ينكر وهو مشفق من كبار ذنوبه أن تعرض عليه فيقال له فإن لك مكان كل سيئة حسنة فيقول يا رب وقد عملت أشياء لا أراها هاهنا قال فلقد رأيت رسول الله ﷺ ضحك حتى بدت نواجذه فإذا بدلت السيئات بالحسنات في حق من عوقب على ذنوبه بالنار ففي حق من محيت سيئاته بالإسلام والتوبة النصوح أولي لأن محوها بذلك أحب إلى الله من محوها بالعقاب.

وخرج الحاكم من طريق الفضل بن موسى عن أبي العنبس عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله ﷺ ليتمنين أقوام أنهم أكثروا من السيئات قالوا بم يا رسول الله قال الذين بدل الله سيئاتهم حسنات وخرجه ابن أبي حاتم من طريق سلمان بن داود الزهري عن أبو العنبس عن أبيه عن أبي هريرة موقوفا وهو أشبه من المرفوع ويروي مثل هذا عن الحسن البصري أيضًا ويخالف قوله المشهور إن التبديل في الدنيا وأما ما ذكره الحربي في التبديل وأن من قلت سيئاته يزاد في حسناته ومن كثرت سيئاته يقل من حسناته فحديث أبي ذر صريح في رد هذا وأنه يعطى مكان كل سيئة حسنة وأما قوله يلزم من ذلك أن يكون من كثرت سيئاته أحسن حالًا ممن قلت سيئاته فيقال إنما التبديل في حق من ندم على سيئاته وجعلها نصب عينيه فكلما ذكرها ازداد خوفا ووجلا وحياء من الله ومسارعة إلى الأعمال الصالحة المكفرة كما قال تعالى {إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا} الفرقان وما ذكرناه كله داخل في العمل الصالح ومن كانت هذه حاله فإنه يتجرع من مرارة الندم والأسف على ذنوبه أضعاف ما ذاق من حلاوتها عند فعلها ويصير كل ذنب من ذنوبه سببًا للأعمال الصالحة ماحية له فلا يستنكر بعد هذا تبديل هذه الذنوب حسنات.

وقد وردت أحاديث صريحة في أن الكافر إذا أسلم وحسن إسلامه تبدلت سيئاته في الشرك حسنات فخرج الطبراني من حديث عبدالرحمن بن جبير بن نفير عن أبي فروة شطب أنه أتى النبي ﷺ فقال أرأيت رجلًا عمل الذنوب كلها ولم يترك حاجة ولا داجة فهل له من توبة فقال أسلمت فقال نعم قال فافعل الخيرات واترك السيئات فيجعلها الله لك خيرات كلها قال وغدراتى وفجراتى قال نعم قال فما زال يكبر حتى تواري وخرجه من وجه آخر بإسناد ضعيف عن أبي نفيل عن النبي ﷺ.

وخرج ابن أبي حاتم نحوه من حديث مكحول مرسلا. وخرج البزار الحديث الأول وعنده عن أبي طويل أنه أتى النبي ﷺ فذكره بمعناه وكذا خرجه أبو القاسم البغوي في معجمه وذكر أن الصواب عن عبدالرحمن بن جبير بن نفير مرسلًا أن رجلًا أتى النبي ﷺ طوي شطب والشطب في اللغة الممدود فصحفه بعض الرواة وظنه اسم رجل.

=============

الحديث الثالث عشر

عن أبي حمزة أنس بن مالك رضي الله عنه خادم رسول الله ﷺ عن النبي الله ﷺ قال لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه . رواه البخاري ومسلم.

هذا الحديث خرجاه في الصحيحين من حديث قتادة عن أنس ولفظ مسلم حتى يحب لجاره أو لأخيه بالشك وخرجه الإمام أحمد رحمه الله ولفظه لا يبلغ عبد حقيقة الإيمان حتى يحب للناس ما يحب لنفسه من الخير وهذه الرواية تبين معنى الرواية المخرجة في الصحيحين وأن المراد بنفي الإيمان نفي بلوغ حقيقته ونهايته فإن الإيمان كثيرًا ما ينفي لانتفاء بعض أركانه وواجباته كقوله ﷺ لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، وقوله لا يؤمن من لا يأمن جاره بوائقه وقد اختلف العلماء في مرتكب الكبائر هل يسمى مؤمنا ناقص الإيمان أم لا يسمى مؤمنا وإنما يقال هو مسلم فليس بمؤمن على قولين وهما روايتان عن أحمد رحمه الله فأما من ارتكب الصغائر فلا يزول عنه اسم الإيمان بالكلية بل هو مؤمن ناقص الإيمان ينقص من إيمانه بحسب ما ارتكب من ذلك والقول بأن مرتكب الكبائر يقال له مؤمن ناقص الإيمان مروي عن جابر بن عبدالله وهو قول ابن المبارك وإسحاق وابن عبيد وغيرهم والقول بأنه مسلم ليس بمؤمن مروي عن أبي جعفر محمد بن علي وذكر بعضهم أنه المختار عند أهل السنة وقال ابن عباس رضي الله عنهما الزاني ينزع عنه نور الإيمان وقال أبو هريرة ينزع منه الإيمان فيكون فوقه كالظلة فإن تاب عاد إليه وقال عبدالله بن رواحة وأبو الدرداء الإيمان كالقميص يلبسه الإنسان تارة ويخلعه تارة أخرى وكذا قال الإمام أحمد رحمه الله وغيره والمعنى أنه إذا أكمل خصال الإيمان لبسه فإذا نقص منها شيء نزعه وكل هذا إشارة إلى الإيمان الكامل التام الذي لا ينقص من واجباته شيء والمقصود أن من جملة خصال الإيمان الواجبة أن يحب المرء لأخيه المؤمن ما يحب لنفسه ويكره له ما يكره لنفسه فإذا زال ذلك عنه فقد نقص إيمانه وقد روي أن النبي ﷺ قال لأبي هريرة أحب للناس ما تحب لنفسك تكن مؤمنا خرجه الترمذي وابن ماجه.

وخرج الإمام أحمد من حديث معاذ أنه سأل النبي ﷺ عن أفضل الإيمان قال أفضل الإيمان أن تحب لله وتبغض لله وتعمل لسانك في ذكر الله قال وما ذا يا رسول الله قال أن تحب للناس ما تحب لنفسك وتكره لهم ما تكره لنفسك وأن تقول خيرًا أو تصمت وقد رتب النبي ﷺ دخول الجنة على هذه الخصلة ففي مسند الإمام أحمد رحمه الله عن يزيد بن أسد القسري قال قال لي رسول الله ﷺ أتحب الجنة قلت نعم قال فأحب لأخيك ما تحب لنفسك وفي صحيح مسلم من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص عن النبي ﷺ قال من أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتدركه منيته وهو مؤمن بالله واليوم الآخر ويأتي إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه وفيه أيضًا عن أبي ذر رضي الله عنه قال قال لي رسول الله ﷺ يا أبا ذر إني أراك ضعيفا وإني أحب لك ما أحب لنفسي لا تتأمرن على اثنين ولا تولين مال يتيم وإنما نهاه عن ذلك لما رأى من ضعفه وهو ﷺ يحب هذا لكل ضعيف وإنما كان يتولى أمور الناس لأن الله قواه على ذلك وأمره بدعاء الخلق كلهم إلى طاعته وأن يتولى سياسة دينهم ودنياهم وقد روي عن علي رضي الله عنه أنه قال قال لي النبي ﷺ إني أرضى لك ما أرضى لنفسي وأكره لك ما أكره لنفسي لا تقرأ القرآن وأنت جنب ولا أنت راكع ولا ساجد، وكان محمد بن واسع يبيع حمارا له فقال له رجل أترضاه لي قال لو رضيته لم أبعه وهذه إشارة منه إلى أنه لا يرضى لأخيه إلا ما يرضى لنفسه وهذا كله من جملة النصيحة لعامة المسلمين التي هي من جملة الدين كما سبق تفسير ذلك في موضعه وقد ذكرنا فيما تقدم حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر خرجاه في الصحيحين وهذا يدل على أن المؤمن يسوءه ما يسوء أخاه المؤمن ويحزنه ما يحزنه، وحديث أنس الذي نتكلم الآن فيه يدل على أن المؤمن يسره ما يسر أخاه المؤمن ويريد لأخيه المؤمن ما يريد لنفسه من الخير وهذا كله إنما يأتي من كمال سلامة الصدر من الغش والغل والحسد فإن الحسد يقتضي أن يكره الحاسد أن يفوقه أحد في خير أو يساويه فيه لأنه يحب أن يمتاز على الناس بفضائله وينفرد بها عنهم والإيمان يقتضي خلاف ذلك وهو أن يشركه المؤمنون كلهم فيما أعطاه الله من الخير من غير أن ينقص عليه منه شيء وقد مدح الله تعالى في كتابه من لا يريد العلو في الأرض ولا الفساد فقال تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا القصص وروى ابن جرير بإسناد فيه نظر عن علي رضي الله عنه قال إن الرجل ليعجبه من شراك نعله أن يكون أجود من شراك نعل صاحبه فيدخل في قوله {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} القصص.

وكذا روي عن الفضيل بن عياض في هذه الآية قال لا يحب أن يكون نعله أجود من نعل غيره ولا شراكه أجود من شراك غيره وقد قيل إن هذا محمول على أنه إذا أراد الفخر على غيره لا بمجرد التجمل.

قال عكرمة وغيره من المفسرين في هذه الآية العلو في الأرض التكبر وطلب الشرف والمنزلة عند ذي سلطانها والفساد العمل بالمعاصي وقد ورد ما يدل على أنه لا يأثم من كره أن يفوقه من الناس أحد في الجمال فخرج الإمام أحمد رحمه الله والحاكم في صحيحه من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال أتيت النبي ﷺ وعنده مالك بن مرارة الرهاوي فأدركته وهو يقول يا رسول الله قد قسم لي من الجمال ما تري فما أحب أحدًا من الناس فضلني بشراكين فما فوقهما أليس ذلك هو البغي فقال لا ليس ذلك بالبغي ولكن البغي من بطر أو قال سفه الحق وغمط الناس.

وخرج أبو داود من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ معناه وفي حديثه الكبر بدل البغي فنفى أن يكون كراهته لأن يفوقه أحد في الجمال بغيا أو كبرا وفسر البغي والكبر ببطر الحق وهو التكبر عليه والامتناع من قبوله كبرا إذا خالف هواه ومن هنا قال بعض السلف التواضع أن تقبل الحق من كل من جاء به وإن كان صغيرًا فمن قبل الحق ممن جاء به سواء كان صغيرًا أو كبيرًا وسواء كان يحبه أو لا يحبه فهو متواضع ومن أبي قبول الحق تعاظما عليه فهو متكبر وغمط الناس هو احتقارهم وازدراؤهم وذلك يحصل من النظر إلى النفس بعين الكمال وإلى غيره بعين النقص وفي الجملة فينبغي للمؤمن أن يحب للمؤمنين ما يحب لنفسه ويكره لهم ما يكره لنفسه فإن رأى في أخيه المسلم نقصا في دينه اجتهد في إصلاحه قال بعض الصالحين من السلف أهل المحبة لله نظروا بنور الله وعطفوا على أهل معاصي الله مقتوا أعمالهم وعطفوا عليهم ليزيلوهم بالمواعظ عن فعالهم وأشفقوا على أبدانهم من النار ولا يكون المؤمن مؤمنا حقا حتى يرضى للناس ما يرضاه لنفسه وإن رأى في غيره فضيلة فاق بها عليه فيتمنى لنفسه مثلها فإن كانت تلك الفضيلة دينية كان حسنا وقد تمنى النبي ﷺ لنفسه منزلة الشهادة وقال ﷺ لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله مالًا فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار ورجل آتاه الله القرآن فهو يقرؤه آناء الليل وآناء النهار وقال في من ينفق ماله في طاعة الله فقال لو أن لي مالًا لفعلت فيه كما فعل هذا فهما في الأجر سواء وإن كانت دنيويه فلا خير في تمنيها كما قال تعالى {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ. وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا} القصص وأما قوله عز وجل {وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} النساء.

فقد فسر ذلك بالحسد وهو تمني الرجل نفس ما أعطي أخوه من أهل ومال وأن ينتقل ذلك إليه وفسر بتمني ما هو ممتنع شرعًا أو قدرًا كتمني النساء أن يكن رجالًا أو يكون لهن مثل ما للرجال من الفضائل الدينية كالجهاد والدنيوية كالميراث والعقل والشهادة ونحو ذلك. وقيل إن الآية تشمل ذلك كله ومع هذا كله فينبغي للمؤمن أن يحزن لفوات الفضائل الدينية ولهذا أمر أن ينظر في الدين إلى من هو فوقه وأن ينافس في طلب ذلك جهده وطاقته كما قال تعالى {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} المطففين ولا يكره أن أحدًا يشاركه في ذلك بل يحب للناس كلهم المنافسة فيه ويحثهم على ذلك وهو من تمام أداء النصيحة للإخوان كما قال الفضيل إن كنت تحب أن يكون للناس مثلك فما أديت النصيحة لربك كيف وأنت تحب أن يكونوا دونك يشير إلى أن النصيحة لهم أن يحب أن يكونوا فوقه وهذه منزلة عالية ودرجة رفيعة في النصح وليس ذلك بواجب وإنما المأمور به في الشرع أن يحب أن يكونوا مثله ومع هذا فإذا فاقه أحد في فضيلة دينية اجتهد على إلحاقة وحزن على تقصير نفسه وتخلفه عن لحاق السابقين لا حسدا لهم على ما آتاهم الله بل منافسة لهم وغبطة وحزنا على النفس بتقصيرها وتخلفها عن درجات السابقين وينبغي للمؤمن أن لا يزال يرى نفسه مقصرا عن الدرجات العالية فيستفيد بذلك أمرين نفيسين الاجتهاد في طلب الفضائل والازدياد منها والنظر إلى نفسه بعين النقص وينشأ من هذا أن يحب للمؤمنين أن يكونوا خيرًا منه لأنه لا يرضى لهم أن يكونوا على مثل حاله كما أنه لا يرضى لنفسه بما هي عليه بل يجتهد في صلاحها وقد قال محمد بن واسع لابنه أما أبوك فلا كثر الله في المسلمين مثله فمن كان لا يرضى عن نفسه فكيف يحب للمسلمين أن يكونوا مثله مع نصحه لهم بل هو يحب للمسلمين أن يكونوا خيرًا منه ويحب لنفسه أن يكون خيرًا مما هو عليه وإن علم المرء أن الله قد خصه على غيره بفضل فأخبر به لمصلحة دينية، وكان إخباره على سبيل التحدث بالنعم ويرى نفسه مقصرا في الشكر كان جائزا فقد قال ابن مسعود ما أعلم أحدًا أعلم بكتاب الله مني ولا يمنع هذا أن يحب للناس أن يشاركوه فيما خصه الله به فقد قال ابن عباس رضي الله عنهما إني لأمر على الآية من كتاب الله فأود أن الناس كلهم يعلمون منها ما أعلم وقال الشافعي وددت أن الناس تعلموا هذا العلم ولم ينسب إلى منه شيء، وكان عتبة الغلام إذا أراد أن يفطر يقول لبعض إخوانه المطلعين على أمره وأعماله أخرج إلى ماء أو تمرات أفطر عليها ليكون لك أجر مثل أجري.

==================

الحديث الرابع عشر

عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال قال رسول الله ﷺ لا يحل دم امريء مسلم إلا بإحدى ثلاث الثيب الزاني والنفس بالنفس والتارك لدينه المفارق للجماعة . رواه البخاري ومسلم.

هذا الحديث خرجاه في الصحيحين من رواية الأعمش عن عبدالله بن مرة عن مسروق عن ابن مسعود وفي رواية لمسلم التارك للإسلام بدل قوله التارك لدينه وفي هذا المعنى أحاديث متعددة فخرج مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها عن النبي ﷺ مثل حديث ابن مسعود.

وخرج الترمذي والنسائي وابن ماجه من حديث عثمان رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال لا يحل دم امريء مسلم إلا بإحدى ثلاث رجل كفر بعد إسلامه أو زنى بعد إحصانه أو قتل نفسا بغير نفس وفي رواية للنسائي رجل زنى بعد إحصانه فعليه الرجم أو قتل عمدا فعليه القود أو ارتد بعد إسلامه فعليه القتل وقد روي هذا المعنى عن النبي ﷺ من رواية ابن عباس وأبي هريرة وأنس بن مالك وغيرهم وقد ذكرنا حديث أنس فيما تقدم وفيه تفسير أن هذه الثلاث خصال هي حق الإسلام التي يستباح بها دم من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله والقتل بكل واحدة من هذه الخصال الثلاث متفق عليه بين المسلمين فأما زنا الثيب فأجمع المسلمون على أن حده الرجم حتى يموت وقد رجم النبي ﷺ ماعزا والغامدية، وكان في القرآن الذي نسخ لفظه والشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموها البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم وقد استنبط ابن عباس الرجم من القرآن من قوله تعالى {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} المائدة قال فمن كفر بالرجم فقد كفر بالقرآن من حيث لا يحتسب ثم تلا هذه الآية وقال كان الرجم مما أخفوا أخرجه النسائي والحاكم وقال صحيح الإسناد ويستنبط أيضًا من قوله تعالى {إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ} إلى قوله {وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ} المائدة وقال الزهري بلغنا أنها نزلت في اليهوديين اللذين رجمهما النبي ﷺ وقال إني أحكم بما في التوارة وأمر بهما فرجما.

وخرج مسلم في صحيحه من حديث البراء بن عازب قصة رجم اليهوديين وقال في حديثه فأنزل الله {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} المائدة وأنزل {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} المائدة في الكفار كلها وخرجه الإمام أحمد وعنده فأنزل الله {لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} المائدة إلى قوله {إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ} يقولون ائتوا محمدًا فإن أفتاكم بالتحميم والجلد فخذوه وإن أفتاكم بالرجم فاحذروا إلى قوله {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} المائدة قال في اليهود وروي من حديث جابر قصة رجم اليهوديين وفي حديثه قال فأنزل الله {فَإِن جَآؤُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُم أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} إلى قوله {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} المائدة، وكان الله تعالى قد أمر أولا بحبس النساء الزواني إلى أن {يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً} ثم جعل الله لهن سبيلًا ففي صحيح مسلم عن عبادة عن النبي ﷺ قال خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلًا البكر بالكبر جلد مائة وتغريب عام والثيب بالثيب جلد مائة والرجم وقد أخذ بظاهر هذا الحديث جماعة من العلماء وأوجبوا جلد الثيب مائة ثم رجمه كما فعل على بشراحة الهمدانية وقال جلدتها بكتاب الله ورجمتها بسنة رسول الله ﷺ ويشير إلى أن كتاب الله فيه جلد الزانيين من غير تفصيل بين ثيب وبكر وجاءت السنة برجم الثيب خاصة مع استنباطه من القرآن أيضًا وهذا القول هو المشهور عن الإمام أحمد رحمه الله وإسحاق وهو قول الحسن وطائفة من السلف وقالت طائفة منهم إن كان الثيبان شيخين جلدا ورجما وإن كانا شابين رجما بغير جلد لأن ذنب الشيخ أقبح لا سيما بالزنا وهذا قول أبي بن كعب.

وروي عنه مرفوعًا ولا يصح رفعه وهو رواية عن أحمد وإسحق أيضًا وأما النفس بالنفس فمعناه أن المكلف إذا قتل نفسا بغير حق عمدا يقتل بها وقد دل القرآن على ذلك بقوله تعالى {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} المائدة وقال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى} البقرة ويستثنى من عموم قوله تعالى {النَّفْسَ بِالنَّفْس} صور منها أن يقتل الوالد ولده فالجمهور على أنه لا يقتل به وصح ذلك عن عمر رضي الله عنه وروي عن النبي ﷺ من وجوه متعددة وقد تكلم في أسانيدها وقال مالك إن تعمد قتله تعمدا لا يشك فيه مثل أن يذبحه فإنه يقتل به وإن حذفه بسيف أو عصا لم يقتل وقال الليث يقتل بقتله بجميع وجوه العمد للعمومات ومنها أن يقتل الحر عبدًا فالأكثرون على أنه لا يقتل به وقد وردت في ذلك أحاديث في أسانيدها مقال وقيل يقتل بعبد غيره دون عبده وهو قول أبي حنيفة وأصحابه وقيل يقتل بعبده وعبد غيره وهي رواية عن الثوري وقول طائفة من أهل الحديث لحديث سمرة عن النبي ﷺ من قتل عبده قتلناه ومن جدعه جدعناه وقد طعن فيه الإمام أحمد وغيره وقد أجمعوا على أنه لا قصاص بين العبيد والأحرار في الأطراف وهذا يدل على أن هذا الحديث مطرح لا يعمل به وهذا مما يستدل به على أن المراد بقوله تعالى {النَّفْسَ بِالنَّفْس} المائدة الأحرار لأنه ذكر بعده القصاص في الأطراف وهو يختص بالأحرار ومنها أن يقتل المسلم كافرًا فإن كان حربيا لم يقتل به بغير خلاف لأن قتل الحربي مباح بلا ريب وإن كان ذميا أو معاهدا فالجمهور على أنه لا يقتل به أيضًا وفي صحيح البخاري عن على عن النبي ﷺ قال لا يقتل مسلم بكافر وقال أبو حنيفة وجماعة من فقهاء الكوفيين يقتل به وقد روى ربيعة عن أبي البيلماني عن النبي ﷺ أنه قتل رجلًا من أهل القبلة برجل من أهل الذمة وقال أنا أحق من وفي بذمته وهذا مرسل ضعيف قد ضعفه الإمام أحمد وأبو عبيد وإبراهيم الحربي والجوزجاني وابن المنذر والدارقطني وقال ابن البيلماني ضعيف لا تقوم به حجة إذا الحديث فكيف بما يرسل وقال الجوزجاني إنما أخذه ربيعة عن إبراهيم بن أبي يحيى عن ابن المنذر عن ابن البيلماني وابن أبي يحيى متروك الحديث وفي مراسيل أبو داود حديث آخر مرسل أن النبي ﷺ قتل يوم خيبر مسلمًا بكافر غيلة وقال أنا أولى وأحق من وفي بذمته وهذا مذهب مالك وأهل المدينة أن القتل غيلة لا تشترط له المكافأة فيقتل فيه والمسلم بالكافر وعلى هذا حملوا حديث ابن البيلماني أيضًا على تقدير صحته ومنها أن يقتل الرجل امرأة فيقتل بها بغير خلاف وفي كتاب عمرو ابن حزم عن النبي قال إن الرجل يقتل بامرأة وصح أنه ﷺ قتل يهوديا قتل جارية وأكثر العلماء على أنه لا يدفع إلى أولياء الرجل شيء وروي عن على أنه يدفع إليهم نصف الدية لأن دية المرأة نصف دية الرجل وهو قول طائفة من السلف وأحمد في رواية عنه وأما التارك لدينه المفارق للجماعة فالمراد به من ترك الإسلام وارتد عنه وفارق جماعة المسلمين كما جاء التصريح بذلك في حديث عثمان وإنما استثناه مع من يحل دمه من أهل الشهادتين باعتبار ما كان عليه قبل الردة وحكم الإسلام لازم له بعدها ولهذا يستتاب ويطلب منه العود إلى الإسلام وفي إلزامه بقضاء ما فاته في زمن الردة من العبادات اختلاف مشهور بين العلماء وأيضا فقد يترك دينه ويفارق الجماعة وهو مقر بالشهادتين ويدعي الإسلام كما إذا جحد شيئًا من أركان الإسلام أو سب الله ورسوله أو كفر ببعض الملائكة أو النبيين أو الكتب المذكورة في القرآن مع العلم بذلك وفي صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي ﷺ قال من بدل دينه فاقتلوه ولا فرق في هذا بين الرجل والمرأة عند أكثر العلماء ومنهم من قال لا تقتل المرأة إذا ارتدت كما لا تقتل نساء أهل الحرب في الحرب وإنما تقتل رجالهم وهذا قول أبي حنيفة وأصحابه وجعلوا الكفر الطاريء كالأصل والجمهور فرقوا بينهما وجعلوا الطاريء أغلظ لما سبقه من الإسلام ولهذا يقتل بالردة عنه من لا يقتل من أهل الحرب كالشيخ الفاني والزمن والأعمى ولا يقتلون في الحرب، وقوله ﷺ التارك لدينه المفارق للجماعة يدل على أنه لو تاب ورجع إلى الإسلام لا يقتل لأنه ليس بتارك لدينه بعد رجوعه ولا مفارق للجماعة فإن قيل بل استثنى هذا ممن يعصم دمه من أهل الشهادتين يدل على أنه يقتل ولو كان مقرا بالشهادتين كما يقتل الزاني المحصن وقاتل النفس وهذا يدل على أن المرتد لا تقبل توبته كما حكي عن الحسن أو أن يحمل ذلك على من ارتد ممن ولد على الإسلام فإنه لا تقبل توبته وإنما تقبل توبة من كان كافرًا ثم أسلم ثم ارتد على قول طائفة من العلماء ومنهم الليث بن سعد وأحمد في رواية عنه وإسحق قيل إنما استثناه من المسلمين باعتبار ما كان عليه قبل مفارقة دينه كما سبق تقريره وليس هذا كالثيب الزاني وقاتل النفس لأن قتلهما يوجب عقوبة لجريمتهما الماضية ولا يمكن تلافي ذلك وأما المرتد فإنما قتل لوصف قائم به في الحال وهو ترك دينه ومفارقة الجماعة فإذا عاد إلى دينه وإلى موافقته للجماعة فالوصف الذي أبيح به دمه قد انتفى فتزول إباحة دمه والله أعلم.

فإن قيل فقد خرج النسائي من حديث عائشة رضي الله عنها عن النبي ﷺ قال لا يحل دم امريء مسلم إلا بإحدى ثلاث خصال زان محصن يرجم ورجل قتل متعمدًا فيقتل ورجل خرج من الإسلام فحارب الله ورسوله فيقتل أو يصلب أو ينفى من الأرض وهذا يدل على أن المراد من جمع بين الردة والمحاربة.

قيل قد خرج أبو داود حديث عائشة رضي الله عنها بلفظ آخر وهو أن رسول الله ﷺ قال لا يحل دم امريء مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله إلا في إحدى ثلاث زنا بعد إحصان فإنه يرجم ورجل خرج محاربا لله ورسوله فإنه يقتل أو يصلب أو ينفى من الأرض أو يقتل نفسا فيقتل بها وهذا يدل على أن من وجد منه الحرب من المسلمين خير الإمام فيه مطلقا كما يقوله علماء أهل المدينة كمالك وغيره والرواية الأولى قد تحمل على أن المراد بخروجه عن الإسلام خروجه عن أحكام الإسلام وقد تحمل على ظاهرها وقد يستدل بذلك من يقول إن آية المحاربة تختص بالمرتدين فمن ارتد وحارب فعل به ما في الآية ومن حارب من غير ردة أقيمت عليه أحكام المسلمين من القصاص والقطع في السرقة وهذا رواية عن أحمد رحمه الله لكنها غير مشهورة عنه وكذا قالت طائفة من السلف إن آية المحاربة تختص بالمرتدين منهم أبو قلابة وغيره وبكل حال فحديث عائشة رضي الله عنها ألفاظه مختلفة وقد روى عنها مرفوعًا وروي عنها موقوفا، وحديث ابن مسعود رضي الله عنه لفظه لا اختلاف فيه وهو ثابت متفق على صحته ولكن يقال على هذا إنه قد ورد قتل المسلم بغير إحدى الثلاث الخصال فمنها في اللواط وقد جاء من حديث ابن عباس عن النبي ﷺ قال اقتلوا الفاعل والمفعول به وأخذ به كثير من العلماء كمالك وأحمد وقالوا إنه موجب للقتل بكل حال محصنا كان أو غير محصن وقد روي عن عثمان أنه قال لا يحل دم امريء مسلم إلا بأربع فذكر الثلاثة المتقدمة وزاد ورجل عمل عمل قوم لوط ومنها من أتى ذات محرم وقد روي الأمر بقتله وروي أن النبي ﷺ قتل من تزوج بامرأة أبيه وأخذ بذلك طائفة من العلماء وأوجبوا قتله محصنا كان أو غير محصن ومنها الساحر وفي الترمذي من حديث جندب مرفوعًا حد الساحر ضربة بالسيف وذكر أن الصحيح وقفه على جندب وهو مذهب جماعة من العلماء منهم عمر بن عبدالعزيز ومالك وأحمد وإسحق ولكن هؤلاء يقولون إنه يكفر بسحره فيكون حكمه حكم المرتد ومنها قتل من وقع على بهيمة ومنها من ترك الصلاة فإنه يقتل عند كثير من العلماء مع قولهم إنه ليس بكافر وقد سبق ذكر ذلك مستوفي ومنها قتل شارب الخمر في المرة الرابعة وقد ورد الأمر به عن النبي ﷺ من وجوه متعددة وأخذ بذلك عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه وغيره وأكثر العلماء على أن القتل نسخ وروي أن النبي ﷺ أتى بالشارب في المرة الرابعة فلم يقتله وفي صحيح البخاري أن رجلًا كان يؤتى به للنبي ﷺ في الخمر فلعنه رجل وقال ما أكثر ما يؤتى به فقال النبي ﷺ لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله ولم يقتله بذلك وقد روي قتل السارق في المرة الخامسة وقيل إن بعض الفقهاء ذهب إليه ومنها ما روي عنه ﷺ أنه قال إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما خرجه مسلم من حديث أبي سعيد وقد ضعف العقيلي أحاديث هذا الباب كلها ومنها قوله ﷺ من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد فأراد أن يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم فاقتلوه وفي رواية فاضربوا رأسه بالسيف كائنا من كان وقد خرجه مسلم أيضًا من رواية عرفجة ومنها من شهر السلاح فخرج النسائي من حديث ابن الزبير رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال من شهر السلاح ثم وضعه فدمه هدر وقد روي عن ابن الزبير مرفوعًا وموقوفا وقال البخاري إنما هو موقوف وسئل أحمد رحمه الله عن معنى هذا الحديث فقال ما أدري ما هذا وقال إسحق بن راهويه إنما يريد من شهر سلاحه ثم وضعه في الناس حتى استعرض الناس فقد حل قتله وهو مذهب الحرورية يستعرضون الرجال والنساء والذرية.

وقد روي عن عائشة ما يخالف تفسير إسحق فخرج الحاكم من رواية علقمة بن أبي علقمة عن أمه أن غلامًا شهر السيف على مولاه في إمرة سعيد بن العاص وتفلت به عليه فأمسكه الناس عنه فدخل المولى على عائشة فقالت سمعت رسول الله ﷺ يقول من أشار بحديدة إلى أحد من المسلمين يريد قتله فقد وجب دمه فأخذه مولاه فقتله وقال صحيح على شرط الشيخين وقد صح عن النبي ﷺ أنه قال من قتل دون ماله فهو شهيد وفي رواية من قتل دون دمه فهو شهيد فإذا أريد مال المرء أو دمه دفع عنه بالأسهل هذا مذهب الشافعي وأحمد رحمهما الله وهل يجب أن ينوي أنه لا يريد قتلة أم لا فيه روايتان عند الإمام أحمد وذهب طائفة إلى أن من أراد ماله أو دمه أبيح له قتله ابتداء ودخل على ابن عمر لص فقام إليه بالسيف صلتا فلولا أنهم حالوا بينه وبينه لقتله وسئل الحسن عن لص دخل بيت رجل ومعه حديدة قال اقتله بأي قتلة قدرت عليه وهؤلاء أباحوا قتله وإن ولى هاربا من غير جناية منهم أبو أيوب السختياني.

وخرج الإمام أحمد من حديث عبادة بن الصامت عن النبي ﷺ قال الدار حرمك فمن دخل عليك حرمك فاقتله ولكن في إسناده ضعف ومنها قتل الجاسوس المسلم إذا تجسس للكفار على المسلمين وقد توقف فيه أحمد وأباح قتله طائفة من أصحاب مالك وابن عقيل من أصحابنا ومن المالكية من قال إن تكرر ذلك منه أبيح قتله واستدل من أباح قتله بقول النبي ﷺ في حق حاطب بن أبي بلتعة لما كتب الكتاب إلى أهل مكة يخبرهم بسير النبي ﷺ إليهم ويأمرهم فاستأذن عمر في قتله فقال إنه شهد بدرا فلم يقل إنه لم يأت بما يبيح دمه وإنما علل بوجود مانع من قتله وهو شهوده بدرا ومغفرة الله لأهل بدر وهذا المانع منتف في حق من بعده ومنها ما خرجه أبو داود في المراسيل من رواية ابن المسيب أن النبي ﷺ قال من ضرب أباه فاقتلوه وروي مسندا من وجه آخر لا يصح والله أعلم. واعلم أن من هذه الأحاديث المذكورة ما لا يصح ولا يعرف به قائل معتبر كحديث من ضرب أباه فاقتلوه، وحديث قتل السارق في المرة الخامسة وباقي النصوص كلها يمكن ردها إلى حديث ابن مسعود وذلك أن حديث ابن مسعود يتضمن أنه لا يستباح دم المسلم إلا بإحدى ثلاث خصال إما أن يترك ويفارق جماعة المسلمين وأما أن يزني وهو محصن وإما أن يقتل نفسا بغير حق فيؤخذ منه أن قتل المسلم لا يستباح إلا بإحدى ثلاثة أنواع ترك الدين وإراقة الدم المحرم وانتهاك الفرج المحرم فهذه الأنواع الثلاثة هي التي تبيح دم المسلم دون غيرها فأما انتهاك الفرج المحرم فقد ذكر في حديث أنه الزنا بعد الإحصان وهذا والله أعلم على وجه المثال فإن المحصن قد تمت عليه النعمة بنيل هذه الشهوة بالنكاح فإذا أتاها بعد ذلك من فرج محرم عليه أبيح دمه وقد ينفي شرط الإحصان فيخلفه شرط آخر وهو كون الفرج لا يستباح بحال إما مطلقا كاللواط أو في حق الواطيء كمن وطيء ذات محرم بعقد أو غيره فهذا الوصف هل يكون قائمًا مقام الإحصان وخلفا عنه هذا هو محل النزاع بين العلماء والأحاديث دالة على أنه يكون خلفا عنه ويكتفي به في إباحة الدماء وأما سفك الدم الحرام فهل يقوم مقامه إثارة الفتن المؤدية إلى سفك الدماء كتفريق جماعة المسلمين وشق العصا والمبايعة لإمام ثان ودل الكفار على عورات المسلمين هذا هو محل النزاع وقد روي عن عمر ما يدل على إباحة القتل بمثل هذا، وكذلك شهر السلاح لطلب القتل هل يقوم مقام القتل في إباحة الدم أم لا فابن الزبير وعائشة رأياه قائمًا مقام القتل الحقيقي في ذلك، وكذلك قطع الطريق بمجرده هل يبيح القتل أم لا لأنه مظنة لسفك الدماء المحرمة وقال الله عز وجل {مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا} يدل على أنه إنما يباح قتل النفس بشيئين أحدهما بالنفس والثاني بالفساد في الأرض ويدخل في الفساد في الأرض الحرب والردة والزنا فإن ذلك كله فساد في الأرض، وكذلك يكون شرب الخمر والإصرار عليه هو مظنة سفك الدماء المحرمة وقد أجمع الصحابة في عهد عمر رضي الله عنه على حده ثمانين وجعلوا السكر مظنة الافتراء والقذف الموجب لجلد الثمانين ولما قدم وفد عبدالقيس على النبي ﷺ ونهاهم عن الأشربة والانتباذ في الظروف قال إن أحدكم ليقوم إلى ابن عمه يعني إذا شرب فيضربه بالسيف، وكان فيهم رجل قد أصابته جراحة من ذلك فكان يخبؤها حياء من النبي ﷺ فهذا كله يرجع إلى إباحة الدم بالقتل إقامة لمظان القتل مقام حقيقته لكن هل نسخ ذلك أم حكمه باق وهذا هو محل النزاع وأما ترك الدين ومفارقة الجماعة فمعناه الارتداد عن دين الإسلام ولو أتى بالشهادتين فلو سب الله ورسوله ﷺ وهو مقر بالشهادتين أبيح دمه لأنه قد ترك بذلك دينه، وكذلك لو استهان بالمصحف وألقاه في القاذورات أو جحد ما يعلم من الدين بالضرورة كالصلاة وما أشبه ذلك مما يخرج من الدين وهل يقوم مقام ذلك ترك شيء من أركان الإسلام الخمس وهذا ينبني على أنه هل يخرج من الدين بالكلية بذلك أم لا فمن رآه خروجا عن الدين كان عنده كترك الشهادتين وإنكارهما ومن لم يره خروجا عن الدين فاختلفوا هل يلحق بتارك الدين في القتل لكونه ترك أحد مباني الإسلام أم لا لكونه لم يخرج عن الدين ومن هذا الباب ما قاله كثير من العلماء في قتل الداعية إلى البدع فإنهم نظروا إلى أن ذلك شبيه بالخروج عن الدين وهو ذريعة ووسيلة إليه فإن استخفى بذلك ولم يدع غيره كان حكمه حكم المنافقين إذا استخفوا وإذا دعا إلى ذلك تغلظ جرمه بإفساد دين الأمة وقد صح عن النبي ﷺ الأمر بقتال الخوارج وقتلهم وقد اختلف العلماء في حكمهم فمنهم من قال هم كفار فيكون قتلهم لكفرهم ومنهم من قال إنما يقتلون لفسادهم في الأرض بسفك دماء المسلمين وتكفيرهم لهم وهو قول مالك وطائفة من أصحابنا وأجازوا الأبتداء بقتالهم والإجهاز على جريحهم ومنهم من قال إن دعوا إلى ما هم عليه قوتلوا وإن أظهروه ولم يدعوا إليه لم يقاتلوا وهو نص عن أحمد رحمه الله وإسحق وهو يرجع إلى قتال من دعا إلى بدعة مغلظة ومنهم من لم ير البداءة بقتالهم حتى يبدءوا بقتالنا وإنما يبيح قتالهم من سفك دماء ونحوه كما روي عن علي رضي الله عنه وهو قول الشافعي وكثير من أصحابنا وقد روي من وجوه متعددة أن النبي ﷺ أمر بقتل رجل كان يصلي وقال لو قتل لكان أول فتنة وآخرها وفي رواية لو قتل لم يختلف رجلان من أمتي حتى يخرج الدجال خرجه الإمام أحمد رحمه الله وغيره فاستدل بهذا على قتل المبتدع إذا كان قتله يكف شره عن المسلمين ويحسم مادة الفتن وقد حكى ابن عبدالبر وغيره عن مذهب مالك جواز قتل الداعي إلى البدعة فرجعت نصوص القتل كلها إلى ما في حديث ابن مسعود رضي الله عنه بهذا التقدير ولله الحمد وكثير من العلماء يقول في كثير من هذه النصوص التي ذكرناها هاهنا إنها منسوخة بحديث ابن مسعود وفي هذا نظر من وجهين أحدهما أنه لا يعلم أن حديث ابن مسعود كان متأخرا عن تلك النصوص كلها لا سيما وابن مسعود من قدماء المهاجرين وكثير من تلك النصوص يرويها من تأخر إسلامه كأبي هريرة وجرير بن عبدالله ومعاوية فإن هؤلاء كلهم رووا حديث قتل شارب الخمر في المرة الرابعة والثاني أن الخاص لا ينسخ بالعام ولو كان العام متأخرا عنه في الصحيح الذي عليه جمهور العلماء لأن دلالة الخاص على معناه بالنص ودلالة العام عليه بالظاهر عند الأكثرين فلا يبطل الظاهر حكم النص وقد روي أن النبي ﷺ أمر بقتل رجل كذب عليه في حياته وقال لحي من العرب إن رسول الله ﷺ أرسلني وأمرني أن أحكم في دمائكم وأموالكم وهذا روي من وجوه متعددة كلها ضعيفة وفي بعضها أن هذا الرجل كان قد خطب امرأة منهم في الجاهلية فأبوا أن يزوجوه وأنه لما قال لهم هذه المقالة صدقوه ونزل على تلك المرأة وحينئذ فهذا الرجل قد زني ونسب إباحة ذلك إلى النبي ﷺ وهذا كفر وردة عن الدين وفي صحيح مسلم أن النبي ﷺ أمر عليا بقتل القبطي الذي كان يدخل على أم ولده مارية، وكان الناس يتحدثون بذلك فلما وجده على مجبوبا تركه وقد حمله بعضهم على أن القبطي لم يكن أسلم بعد وأن المعاهد إذا فعل ما يؤذي المسلمين أنقض عهده فكيف إذا آذى النبي ﷺ وقال بعضهم بل كان مسلمًا ولكنه نهى عن ذلك فلم ينته حتى تكلم الناس بسببه في فراش النبي ﷺ وأذى النبي ﷺ في فراشه مبيح للدم لكن لما ظهرت براءته بالعيان تبين للناس براءة مارية فزال السبب المبيح للقتل وقد روي عن الإمام أحمد أن النبي ﷺ كان له أن يقتل بغير هذه الأسباب الثلاثة التي في حديث ابن مسعود وغيره ليس له ذلك كأنه يشير إلى أنه ﷺ كان له أن يعزر بالقتل إذا رأى ذلك مصلحة لأنه ﷺ معصوم من التعدي والحيف وأما غيره فليس له ذلك لأنه غير مأمون عليه من التعدي بالهوى قال أبو داود سمعت أحمد سئل عن حديث أبي بكر ما كانت لأحد بعد النبي ﷺ قال لم يكن لأبي بكر أن يقتل رجلًا إلا بإحدى ثلاث والنبي ﷺ كان له أن يقتل، وحديث أبي بكر المشار إليه هو أن رجلًا كلم أبا بكر فأغلظ له فقال له أبو برزة ألا أقتله يا خليفة رسول الله فقال أبو بكر ما كانت لأحد بعد النبي ﷺ وعلى هذا يتخرج حديث الأمر بقتل هذا القبطي ويتخرج عليه أيضًا حديث الأمر بقتل السارق إن كان صحيحا فإن فيه أن النبي ﷺ أمر بقتله في أول مرة فراجعوه فيه فقطعه ثم فعل ذلك أربع مرات وهو يأمر بقتله فيراجع فيه فيقطع حتى قطعت أطرافه الأربع ثم قتل في الخامسة والله أعلم.

=============

الحديث الخامس عشر

عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه . رواه البخاري ومسلم.

هذا الحديث خرجاه من طرق عن أبي هريرة وفي بعض ألفاظها فلا يؤذي جاره وفي بعض ألفاظها فليحسن قرى ضيفه وفي بعضها فليصل رحمه بدل ذكر الجار وخرجاه أيضًا بمعناه من حديث أبي شريح الخزاعي عن النبي ﷺ وقد روي هذا الحديث عن النبي ﷺ من حديث عائشة وابن مسعود وعبد الله بن عمرو وأبي أيوب الأنصاري وابن عباس وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم فقوله ﷺ من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليفعل كذا وكذا يدل على أن هذه الخصال من خصال الإيمان وقد سبق أن الأعمال تدخل في الإيمان وقد فسر النبي ﷺ الإيمان بالصبر والسماحة قال الحسن المراد بالصبر عن المعاصي والسماحة بالطاعة وأعمال الإيمان تارة تتعلق بحقوق الله كأداء الواجبات وترك المحرمات ومن ذلك قول الخير والصمت عن غيره وتارة تتعلق بحقوق عباده كإكرام الضيف وإكرام الجار والكف عن أذاه فهذه ثلاثة أشياء يؤمر بها المؤمن أحدهما قول الخير والصمت عما سواه وقد روى الطبراني من حديث أسود بن أصرم المحاربي قال قلت يا رسول الله أوصني قال هل تملك لسانك قلت ما أملك إذا لم أملك لساني قال فهل تملك يدك قلت فما أملك إذا لم أملك يدي قال فلا تقل بلسانك إلا معروفا ولا تبسط يدك إلا إلى خير وقد ورد أن استقامة اللسان من خصال الإيمان كما في المسند عن أنس رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه.

وخرج الطبراني من حديث أنس عن النبي ﷺ قال لا يبلغ عبد حقيقة الإيمان حتى يخزن من لسانه.

وخرج الطبراني من حديث معاذ بن جبل عن النبي ﷺ قال إنك لن تزال سعالمًا ما سكت فإذا تكلمت كتب لك أو عليك.

وفي مسند الإمام أحمد عن عبدالله بن عمرو بن العاص عن النبي ﷺ قال من صمت نجا.

وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال إن الرجل ليتكلم بالكلمة ما يتبين ما فيها يزل بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب.

وخرج الإمام أحمد والترمذي من حديث أبي هريرة عن النبي ﷺ قال إن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يرى بها بأسًا يهوي بها سبعين خريفا في النار وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقى لها بالا يرفعه الله بها درجات وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقى لها بالا يهوي بها في جهنم.

وخرج الإمام أحمد من حديث سليمان بن سحيم عن أمه قالت سمعت النبي ﷺ يقول إن الرجل ليدنو من الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيتكلم بالكلمة فيتباعد بها أبعد من صنعاء.

وخرج الإمام أحمد والترمذي والنسائي من حديث بلال بن الحارس قال سمعت النبي ﷺ يقول إن أحدكم ليتكلم بالكلمة من رضوان الله ما يظن أن تبلغ ما بلغت فيكتب الله بها رضوانه إلى يوم يلقاه وإن أحدكم ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما يظن أن تبلغ ما بلغت فيكتب الله بها سخطه إلى يوم يلقاه وقد ذكرنا فيما سبق حديث أم حبيبة عن النبي ﷺ قال كلام ابن آدم عليه لا له إلا ذكر الله عز وجل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وقوله ﷺ فليقل خيرًا أو ليصمت أمر بقول الخير وبالصمت عما عداه وهذا يدل على أنه ليس هناك كلام يساوي قوله والصمت عنه إما أن يكون خيرًا فيكون مأمورًا بقوله وإما أن يكون غير خير فيكون مأمورًا بالصمت عنه، وحديث معاذ وأم حبيبه يدلان على هذا.

وخرج ابن أبي الدنيا من حديث معاذ بن جبل ولفظه إن النبي ﷺ قال له يا معاذ ثكلتك أمك وهول تقول شيئًا إلا وهو لك أو عليك وقد قال الله تعالى {مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} ق.

وقد أجمع السلف الصالح على أن الذي عن يمينه يكتب الحسنات والذي عن شماله يكتب السيئات.

وقد روي ذلك مرفوعًا من حديث أبي أمامة بإسناد ضعيف.

وفي الصحيح عن النبي ﷺ إذا كان أحدكم يصلي فإنه يناجي ربه والملك عن يمينه وروي من حديث حذيفة مرفوعًا إن عن يمينه كاتب الحسنات واختلفوا هل يكتب كل ما يتكلم به أم لا يكتب إلا ما فيه ثواب أو عقاب على قولين مشهورين وقال على بن أبي طلحة عن ابن عباس يكتب كل ما تكلم به من خير أو شر حتى إنه ليكتب قوله أكلت وشربت ذهبت وجئت حتى إذا كان يوم الخميس عرض قوله وعمله فأقر ما كان فيه من خير أو شر وألقي سائره فذلك قوله تعالى {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} الرعد.

وعن يحيى بن أبي كثير قال ركب رجل الحمار فعثر به فقال تعس الحمار فقال صاحب اليمين ما هي حسنة أكتبها وقال صاحب الشمال ما هي من السيئات فأكتبها فأوحى الله إلى صاحب الشمال ما ترك صاحب اليمين من شيء فاكتبه فأثبت في السيئات تعس الحمار وظاهر هذا أن ما ليس بحسنة فهو سيئة وإن كان لا يعاقب عليها فإن بعض السيئات قد لا يعاقب عليها وقد تقع مكفرة باجتناب الكبائر ولكن زمانها قد خسره صاحبها حيث ذهبت باطلًا فيحصل له بذلك حسرة في القيامة وأسف عليه وهو نوع عقوبة.

وخرج الإمام أحمد وأبو داود والنسائي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال ما من قوم يقومون من مجلس لا يذكرون الله فيه إلا قاموا عن مثل جيفة حمار، وكان لهم حسرة وخرجه الترمذي ولفظه ما جلس قوم مجلسًا لم يذكروا الله فيه ولم يصلوا على نبيهم ﷺ إلا كان عليهم ترة فإن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم وفي رواية لأبي داود والنسائي من قعد مقعدا لم يذكر الله فيه إلا كان عليه من الله ترة ومن اضطجع مضطجعا لم يذكر الله فيه كانت عليه من الله ترة زاد النسائي ومن قام مقاما لم يذكر الله فيه كان عليه من الله ترة.

وخرج أيضًا من حديث أبي سعيد عن النبي ﷺ قال ما من قوم يجلسون مجلسًا لا يذكرون الله فيه إلا كان عليهم حسرة يوم القيامة وإن دخلوا الجنة وقال مجاهد ما جلس قوم مجلسًا فتفرقوا قبل أن يذكروا الله إلا تفرقوا عن أنتن من ريح الجيفة، وكان مجلسهم يشهد عليهم بغفلتهم وما جلس قوم مجلسًا فذكروا الله قبل أن يتفرقوا إلا أن يتفرقوا عن أطيب من ريح المسك، وكان مجلسهم يشهد لهم ذكرهم وقال بعض السلف يعرض على ابن آدم يوم القيامة ساعات عمره فكل ساعة لم يذكر الله فيها تتقطع نفسه عليها حسرات وخرجه الطبراني من حديث عائشة رضي الله عنها مرفوعًا ما من ساعة تمر بابن آدم لم يذكر الله فيها بخير إلا حسر عندها يوم القيامة فمن هنا يعلم أن ما ليس بخير من الكلام فالسكوت عنه أفضل من التكلم به اللهم إلا ما تدعو إليه الحاجة ممالًا بد منه وقد روي عن ابن مسعود قال إياكم وفضول الكلام حسب امريء ما بلغ حاجته وعن النخعي قال يهلك الناس في فضول المال والكلام وأيضا قال فإن الإكثار من الكلام الذي لا حاجة إليه يوجب قساوة القلب كما في الترمذي من حديث ابن عمر مرفوعًا لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله قسوة للقلب وإن أبعد الناس عن الله القلب القاسي وقال عمر رضي الله عنه من كثر كلامه كثر سقطه ومن كثر سقطه كثرت ذنوبه ومن كثرت ذنوبه كانت النار أولى به وخرجه العقيلي من حديث ابن عمر مرفوعًا بإسناد ضعيف وقال محمد بن عجلان إنما الكلام أربعة أن تذكر الله وتقرأ القرآن وتسئل عن علم فتخبر به أو تكلم فيما يعنيك من أمر دنياك وقال رجل لسلمان أوصني قال لا تتكلم قال ما يستطيع من عاش في الناس أن لا يتكلم قال فإن تكلمت فتكلم بحق أو اسكت، وكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يأخذ بلسانه ويقول هذا أوردني الموارد وقال ابن مسعود والله الذي لا إله إلا هو ما على الأرض أحق بطول سجن من اللسان وقال وهب بن منبه أجمعت الحكماء على أن رأس الحكمة الصمت وقال شميط بن عجلان يا بن آدم إنك ما سكت فأنت سالم فإذا تكلمت فخذ حذرك إما لك وإما عليك وهذا باب يطول استقصاؤه والمقصود أن النبي ﷺ أمر بالكلام بالخير والسكوت عما ليس بخير.

وخرج الإمام أحمد وابن حبان من حديث البراء بن عازب أن رجلًا قال يا رسول الله علمني عملًا يدخلني الجنة فذكر الحديث وفيه قال فأطعم الجائع واسق الظمآن وأمر بالمعروف وأنه عن المنكر فإن لم تطق ذلك فكف لسانك إلا من خير فليس الكلام مأمورًا به على الإطلاق ولا السكوت كذلك بل لا بد من الكلام بالخير والسكوت عن الشر، وكان السلف كثيرًا يمدحون الصمت عن الشر وعما لا يعني لشدته على النفس وذلك يقع الناس فيه كثيرًا فكانوا يعالجون أنفسهم ويجاهدونها على السكوت عما لا يعنيهم قال الفضيل بن عياض ما حج ولا رباط ولا جهاد أشد من حبس اللسان ولو أصبحت يهمك لسانك أصبحت في هم شديد وقال سجن اللسان سجن المؤمن ولو أصبحت يهمك لسانك أصبحت في غم شديد وسئل ابن المبارك عن قول لقمان لابنه إن كان الكلام من فضة فإن الصمت من ذهب فقال معناه لو كان الكلام بطاعة الله من فضة فإن الصمت عن معصية الله من ذهب وهذا يرجع إلى أن الكف عن المعاصي أفضل من عمل الطاعات وقد سبق القول في هذا مستوفي وتذاكروا عند الأحنف بن قيس أيما أفضل الصمت أو النطق فقال قوم الصمت أفضل فقال الأحنف النطق أفضل لأن فضل الصمت لا يعدو صاحبه والنطق الحسن ينتفع به من سمعه وقال رجل من العلماء عند عمر بن عبدالعزيز رحمه الله الصامت على علم كالمتكلم على علم فقال عمر إني لأرجو أن يكون المتكلم على علم أفضلهما يوم القيامة حالًا وذلك أن منفعته للناس وهذا صمته لنفسه فقال له يا أمير المؤمنين وكيف بفتنة النطق فبكى عمر عند ذلك بكاء شديدًا ولقد خطب عمر بن عبدالعزيز يومًا فرق الناس وبكوا فقطع خطبته فقيل له لو أتممت كلامك رجونا أن ينفع الله به فقال عمر إن القول فتنة والفعل أولى بالمؤمن من القول وكنت من مدة طويلة قد رأيت في المنام أمير المؤمنين عمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه وسمعته يتكلم في هذه المسئلة وأظن أني فاوضته فيها وفهمت من كلامه أن التكلم بالخير أفضل من السكوت وأظنه أنه وقع في أثناء الكلام ذكر سليمان بن عبدالملك وأن عمر قال ذلك له وهذا روي عن سليمان ابن عبدالملك أنه قال الصمت منام العقل والنطق يقظته ولا يتم حال إلا بحال يعني لا بد من الصمت والكلام وما أحسن ما قال عبيد الله بن أبي جعفر فقيه أهل مصر في وقته، وكان أحد الحكماء إذا كان المرء يحدث في مجلس فأعجبه الحديث فليسكت وإن كان ساكتا فأعجبه السكوت فليحدث وهذا حسن فإن من كان كذلك كان سكوته وحديثه بمخالفة هواه وإعجابه بنفسه ومن كان كذلك كان جديرا بتوفيق الله إياه وتسديده في نطقه وسكوته لأن كلامه وسكوته يكون لله عز وجل.

وفي مراسيل الحسن رحمه الله عن النبي ﷺ فيما يرويه عن ربه عز وجل قال علامة الطهر أن يكون قلب العبد عندي متعلقا فإذا كان كذلك لم ينسني على حال وإذ كان كذلك مننت عليه بالاشتغال بي كيلا ينساني فإذا نسيني حركت قلبه فإن تكلم تكلم لي وإن سكت سكت لي فذلك الذي تأتيه المعونة من عندي خرجه إبراهيم بن الجنيد وبكل حال فالتزام الصمت مطلقا واعتقاده قربة إما مطلقا أو في بعض العبادات كالحج والاعتكاف والصيام منهي عنه وروي من حديث أبي هريرة أن النبي ﷺ نهى عن صيام الصمت.

وخرج الإسماعيلي من حديث علي رضي الله عنه نهانا رسول الله ﷺ عن الصمت في العكوف.

وخرج الإسماعيلي من حديث على أيضًا قال نهانا رسول الله ﷺ عن الصمت في الصلاة وفي سنن أبي داود من حديث على عن النبي ﷺ قال لا صمات يوم إلى الليل وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه لامرأة حجت مصمتة إن هذا لا يحل هذا من عمل الجاهلية وروي عن على بن الحسين زين العابدين أنه قال صوم الصمت حرام والثاني مما أمر به النبي ﷺ في هذا الحديث المؤمنين إكرام الجار وفي بعض الروايات النهي عن أذى الجار فأما أذى الجار فمحرم لأن الأذى بغير حق محرم لكل أحد ولكن في حق الجار هو أشد تحريما.

وفي الصحيحين عن ابن مسعود عن النبي ﷺ أنه سئل أي الذنب أعظم قال أن تجعل لله ندا وهو خلقك قيل ثم أي قال أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك قيل ثم أي قال أن تزاني حليلة جارك.

وفي مسند الإمام أحمد عن المقداد بن الأسود قال قال رسول الله ﷺ ما تقولون في الزنا قالوا حرام حرمه الله ورسوله فهو حرام إلى يوم القيامة فقال رسول الله ﷺ لأن يزني الرجل بعشر نسوة أيسر عليه من أن يزني بامرأة جاره قال فما تقولون في السرقة قالوا حرام حرمها الله ورسوله فهي حرام قال لأن يسرق الرجل من عشرة أبيات أيسر عليه من أن يسرق من بيت جاره وفي صحيح البخاري عن أبي شريح عن النبي ﷺ قال والله لا يؤمن والله لا يؤمن والله لا يؤمن قيل من يا رسول الله قال من لا بأمن جاره بوائقه وخرجه الإمام أحمد وغيره من حديث أبي هريرة وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه.

وخرج الإمام أحمد والحاكم من حديث أبي هريرة أيضًا قال قيل يا رسول الله إن فلانة تصلي بالليل وتصوم النهار وفي لسانها شيء تؤذي جيرانها سليطة قال لا خير فيها هي في النار وقيل له إن فلانة تصلي المكتوبة وتصوم رمضان وتتصدق بالأثوار وليس لها شيء غيره ولا تؤذي أحدًا قال هي في الجنة ولفظ الإمام أحمد ولا تؤذي بلسانها جيرانها.

وخرج الحاكم من حديث أبي جحيفة قال جاء رجل إلى النبي ﷺ يشكو جاره فقال له اطرح متاعك في الطريق قال فجعل الناس يمرون به فيلعنونه فجاء إلى النبي ﷺ فقال يا رسول الله ما لقيت من الناس قال وما لقيت قال يلعنوني قال فقد لعنك الله قبل الناس قال يا رسول الله فإني لا أعود وخرجه أبو داود بمعناه من حديث أبي هريرة ولم يذكر فيه فقد لعنك الله قبل الناس.

وخرج الخرائطي من حديث أم سلمة قالت دخلت شاة لجارة لنا فأخذت قرصة لنا فقمت إليها فأخذتها من بين لحييها فقال رسول الله ﷺ إنه لا قليل من أذى الجار فأما إكرام الجار والإحسان إليه فمأمور به وقد قال الله تعالى {وَاعْبُدُواْ اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا} النساء فجمع الله تعالى في هذه الآية بين ذكر حقه على العبد وحقوق العباد على العباد أيضًا وجعل العباد الذين أمر بالإحسان إليهم خمسة أنواع أحدها من بينه وبين الإنسان قرابة وخص منهم الوالدين بالذكر لامتيازهما عن سائر الأقارب بما لا يشركونهما فيه فإنهما كانا السبب في وجود الولد ولهما حق التربية والتأديب وغير ذلك الثاني من هو ضعيف محتاج إلى الإحسان وهو نوعان من هو محتاج لضعف بدنه وهو اليتيم ومن هو محتاج لقلة ماله وهو المسكين والثالث من له حق القرب والمخالطة وجعلهم ثلاثة أنواع جار ذو قربى وجار جنب وصاحب بالجنب وقد اختلف المفسرون في تأويل ذلك فمنهم من قال الجار ذو القربى الجار الذي له قرابة والجار الجنب الأجنبي ومنهم من أدخل المرأة في الجار ذي القربى ومنهم من أدخلها في الجار الجنب ومنهم من أدخل الرفيق في السفر في الجار الجنب وقد روي عن النبي ﷺ أنه كان يقول في دعائه أعوذ بك من جار السوء في دار الإقامة فإن جار البادية يتحول ومنهم من قال الجار ذو القربى الجار المسلم والجار الجنب الكافر.

وفي مسند البزار من حديث جابر مرفوعًا الجيران ثلاثة جار له حق واحد وهو أدنى الجيران حقا وجار له حقان وجار له ثلاثة حقوق وهو أفضل الجيران حقا فأما الذي له حق واحد فجار مشرك لا رحم له له حق الجوار وأما الذي لم حقان فجار مسلم له حق الإسلام وحق الجوار وأما الذي له ثلاثة حقوق فجار مسلم ذو رحم فله حق الإسلام وحق الجوار وحق الرحم وقد روي هذا الحديث من وجوه أخرى متصلة ومرسلة ولا تخلو كلها من مقال وقيل الجار ذو القربى هو القريب الملاصق والجار الجنب البعيد الجوار وفي صحيح البخاري عن عائشة قالت قلت يا رسول الله إن لي جارين فإلي أيهما أهدي قال إلى أقربهما بابًا وقال طائفة من السلف حد الجوار أربعون دارا وقيل مستدار أربعين دارا من كل جانب وفي مراسيل الزهري أن رجلًا أتى النبي ﷺ يشكو جارا له فأمر النبي ﷺ بعض أصحابه أن ينادي ألا إن أربعين دارا جار وقال الزهري وأربعون هكذا وأربعون هكذا وأربعون هكذا وأربعون هكذا يعني ما بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله وسئل الإمام أحمد عمن يطبخ قدرا وهو في دار السبيل ومعه في الدار نحو ثلاثين أو أربعين نفسا يعني أنهم سكان معه في الدار قال يبدأ بنفسه وبمن يعول فإن فضل أعطي الأقرب إليه وكيف يمكنه أن يعطيهم كلهم قيل له لعل الذي هو جاره يتهاون بذلك القدر ليس له عنده موقع فرأى أنه لا يبعث إليه وأما الصاحب بالجنب ففسره طائفة بالزوجة وفسره طائفة منهم ابن عباس بالرفيق في السفر ولم يريدوا إخراج الصاحب الملازم في الحضر وإنما أرادوا أن صحبة السفر تكفي فالصحبة الدائمة في الحضر أولى ولهذا قال سعيد بن جبير هو الرفيق الصالح وقال زيد بن أسلم هو جليسك في الحضر ورفيقك في السفر وقال ابن زيد هو الرجل يعتريك ويلم بك لتنفعه.

وفي المسند والترمذي عن عبدالله بن عمرو بن العاص عن النبي ﷺ قال خير الأصحاب عند الله خيرهم لصاحبه وخير الجيران عند الله خيرهم لجاره الرابع من هو وارد على الإنسان غير مقيم عنده وهو ابن السبيل يعني المسافر إذا ورد إلى بلد آخر وفسره بعضهم بالضيف يعني به ابن السبيل إذا نزل ضيفا على أحد والخامس ملك اليمين وقد وصى النبي ﷺ بهم كثيرًا وأمر بالإحسان إليهم وروي أن آخر ما وصى به عند موته الصلاة وما ملكت أيمانكم وأدخل بعض السلف في هذه الآية ما يملكه الإنسان من الحيوانات والبهائم ولنرجع إلى شرح حديث أبي هريرة في إكرام الجار.

وفي الصحيحين عن عائشة وابن عمر رضي الله عنهما عن النبي ﷺ ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه فمن أنواع الإحسان إلى الجار مواساته عند حاجته.

وفي المسند عن عمر رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال لا يشبع المؤمن دون جاره.

وخرج الحاكم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي ﷺ قال ليس المؤمن الذي يشبع وجاره جائع وفي رواية أخرى عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي ﷺ قال ما آمن من بات شبعان وجاره طاويا.

وفي المسند عن عقبة بن عامر عن النبي ﷺ أول خصمين يوم القيامة جاران وفي كتاب الأدب للبخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما يا رب هذا أغلق بابه دوني يمنع معروفه.

وخرج الخرائطي وغيره بإسناد ضعيف من حديث عطاء الخراساني عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي ﷺ قال من أغلق بابه دون جاره مخافة على أهله وماله فليس ذلك بمؤمن وليس مؤمنا من لا يأمن جاره بوائقه أتدري ما حق الجار إذا استعانك أعنته وإذا استقرضك أقرضته وإذا افتقر عدت عليه وإذا مرض عدته وإذا أصابه خير هنيته وإذا أصابته مصيبة عزيته وإذا مات اتبعت جنازته ولا تستطل عليه بالبناء فتحجب عنه الريح إلا بإذنه ولا تؤذيه بقتار قدرك إلا أن تغرف له وإن اشتريت فاكهة فاهد له فإن لم تفعل فأدخلها سرا ولا يخرج بها ولدك ليغيظ بها ولده ورفع هذا الكلام منكر ولعله من تفسير عطاء الخراساني وقد روي أيضًا عن عطاء عن الحسن عن جابر مرفوعًا أدنى حق الجوار أن لا تؤذي جارك بقتار قدرك إلا أن تقدح له منها وفي صحيح مسلم عن أبي ذر قال أوصاني خيلي ﷺ إذا طبخت مرقا فأكثر ماءه ثم انظر إلى أهل بيت جيرانك فأصبهم منها بمعروف وفي رواية أن النبي ﷺ قال يا أبا ذر إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها وتعاهد جيرانك.

وفي المسند والترمذي عن عبدالله بن عمرو بن العاص أنه ذبح شاة فقال هل أهديتم منها لجارنا اليهودي ثلاث مرات ثم قال سمعت النبي ﷺ يقول ما زال جبريل يوصيني بالجار ظننت أنه سيورثه.

وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال لا يمنعن أحدكم جاره أن يغرز خشبه في جداره ثم يقول أبو هريرة رضي الله عنه مالي أراكم عنها معرضين والله لأرمين بها بين أكتافكم ومذهب الإمام أحمد أن الجار يلزمه أن يمكن جاره من وضع خشبة على جداره إذا احتاج الجار إلى ذلك ولم يضر بجداره لهذا الحديث الصحيح وظاهر كلامه أنه يجب عليه أن يواسيه من فضل ما عنده بما لا يضر به إذا علم حاجته قال المروزي قلت لأبي عبدالله إني لأسمع السائل في الطريق يقول إني جائع فقال قد يصدق وقد يكذب قلت فؤدا كان لي جار أعلم أنه يجوع قال تواسيه قلت إذا كان قوتي رغيفين قال تطعمه شيئًا ثم قال الذي جاء في الحديث إنما هو الجار وقال المروزي قلت لأبي عبدالله الأغنياء يجب عليهم المواساة قال إذا كان قوم يصنعون شيئًا على شيء كيف لا يجب عليهم قلت فإذا كان للرجل قميصان أو قلت جبتان يجب عليه المواساة قال إذا كان يحتاج إلى أن يكون فضلًا وهذا نص منه في وجوب المواساة من الفضائل ولم يخصه بالجار ونصه الأول يقتضي اختصاصه بالجار وقال في رواية ابن هانيء في السؤال يكذبون أحب إلينا لو صدقوا ما وسعنا إلا مواساتهم وهذا يدل على وجوب مواساة الجائع من الجيران وغيرهم.

وفي الصحيح عن أبي موسى عن النبي ﷺ قال أطعموا الجائع وعودوا المريض وفكوا العاني.

وفي المسند وصحيح الحاكم عن عمر رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال أيما أهل عرصة أصبح فيهم امرؤ وجائع فقد برئت منهم ذمة الله عز وجل ومذهب أحمد ومالك أنه يمنع الجار أن يتصرف في خاص ملكه بما يضر بجاره فيجب عندهما كف الأذى عن الجار بمنع إحداث الانتفاع المضر به ولو كان المنتفع إنما ينتفع بخاص ملكه ويجب عند أحمد أن يبذل لجاره ما يحتاج إليه ولا ضرر عليه في بذله وأعلى من هذين أن يصبر على أذى جاره ولا يقابله بالأذى قال الحسن ليس حسن الجوار كف الأذى ولكن حسن الجوار احتمال الأذي ويروى من حديث أبي ذر إن الله يحب الرجل يكون له الجار يؤذيه جواره فيصبر على أذاه حتى يفرق بينهما الموت أو ظعن خرجه الإمام أحمد وفي مراسيل أبي عبدالرحمن الحبلي أن رجلًا جاء إلى النبي ﷺ يشكو إليه جاره فقال له النبي ﷺ كف أذاك عنه واصبر لأذاه فكفى بالموت مفرقا خرجه ابن أبي الدنيا الثالث مما أمر به النبي ﷺ المؤمنين إكرام الضيف والمراد إحسان ضيافته.

وفي الصحيحين من حديث أبي شريح رضي الله عنه قال أبصرت عيناي رسول الله ﷺ وسمعته أذناي حين تكلم به قال من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه جائزته قالوا وما جائزته قال يوم وليلة قال والضيافة ثلاثة أيام وما كان بعد ذلك فهو صدقة.

وخرج مسلم من حديث أبي شريح أيضًا عن النبي ﷺ قال الضيافة ثلاثة أيام وجائزته يوم وليلة وما أنفق عليه بعد ذلك فهو صدقة ولا يحل له أن يثوي عنده حتى يؤثمه قالوا يا رسول الله كيف يؤثمه قال يقيم ولا شيء له يقريه به.

وخرج الإمام أحمد من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي ﷺ من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه قالها ثلاثًا قالوا وما إكرام الضيف يا رسول الله قال ثلاثة أيام فما حبس بعد ذلك فهو صدقة ففي هذه الأحاديث أن جائزة الضيف يوم وليلة وأن الضيافة ثلاثة أيام ففرق بين الجائزة والضيافة وكذا الجائزة قد ورد في تأكيدها أحاديث أخر.

وخرج أبو داود من حديث المقدام بن معد يكرب عن النبي ﷺ قال ليلة للضيف حق على كل مسلم فمن أصبح بفنائه فهو عليه دين إن شاء اقتضى وإن شاء ترك.

وخرجه ابن ماجه ولفظه ليلة الضيف حق على كل مسلم.

وخرج الإمام أحمد وأبو داود من حديث المقدام أيضًا عن النبي ﷺ قال أيما رجل أضاف قومًا فأصبح الضيف محروما فإن نصره حق على كل مسلم حتى يأخذ بقري ليلة من زرعه وماله.

وفي الصحيحين عن عقبة بن عامر قال قلنا يا رسول الله إنك تبعثنا فننزل بقوم لا يقروننا فما ترى فقال لنا رسول الله ﷺ إن نزلتم بقوم فأمروا لكم بما ينبغي للضيف فاقبلوا فإن لم يفعلوا فخذوا منهم حق الضيف الذي ينبغي لهم.

وخرج الإمام أحمد والحاكم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال أيما ضيف نزل بقوم فأصبح الضيف محروما فله أن يأخذ بقدر قراه ولا حرج عليه. وقال عبدالله بن عمرو من لم يضيف فليس من محمد ﷺ ولا من إبراهيم عليه السلام وقال عبدالله بن الحارث بن جزء من لم يكرم ضيفه فليس من محمد ﷺ ولا من إبراهيم عليه السلام وقال أبو هريرة لقوم نزل عليهم فاستضافهم فلم يضيفوه فتنحى ونزل فدعاهم إلى طعام فلم يجيبوه فقال لهم لا تنزلون الضيف لا تجيبون الدعوة ما أنتم من الإسلام على شيء فعرفه رجل منهم فقال له انزل عافاك الله قال هذا شر وشر لا تنزلون إلا من تعرفون وروي عن أبي الدرداء نحو هذه القضية إلا أنه قال لهم ما أنتم من الدين إلا على مثل هذه وأشار إلى هدبة في ثوبه وهذه النصوص تدل على وجوب الضيافة يومًا وليلة وهو قول الليث وأحمد وقال أحمد له المطالبة بذلك إذا منعه لأنه حق له واجب وهل يأخذ بيده من ماله إذا منعه أو يرفعه إلى الحاكم على روايتين منصوصتين عنه وقال حميد بن زنجويه ليلة الضيف واجبة وليس له أن يأخذ قراه منهم قهرا إلا أن يكون مسافرا في مصالح المسلمين العامة دون مصلحة نفسه وقال الليث بن سعد لو نزل الضيف بالعبد أضافه من المال الذي بيده وللضيف أن يأكل وإن لم يعلم أن سيده أذن لأن الضيافة واجبة وهو قياس قول أحمد لأنه نص على أنه يجوز إجابة دعوة العبد المأذون له في التجارة وقد روي عن جماعة من الصحابة أنهم أجابوا دعوة المملوك وروي ذلك عن النبي ﷺ أيضًا فإذا جاز له أن يدعو الناس إلى طعامه ابتداء جاز إجابة دعوته فإضافته لمن نزل به أولى ومنع من ذلك مالك والشافع وغيرهما من دعوة العبد المأذون له بدون إذن سيده ونقل عن على بن سعيد عن أحمد ما يدل على وجوب الضيافة للغزاة خاصة بمن مروا بهم ثلاثة أيام والمشهور عنه الأول وهو وجوبها لكل ضيف نزل بقوم واختلف في قوله هل يجب على أهل الأمصار والقرى أم تختص بأهل القرى ومن كان على طريق يمر بهم المسافرون على روايتين منصوصتين عنه والمنصوص عنه أنها تجب للمسلم والكافر وخص كثير من أصحابه الوجوب للمسلم كما لا تجب نفقة الأقارب مع اختلاف الدين على إحدى الروايتين فأما اليومان الآخران وهما الثاني والثالث فهما تمام الضيافة والنصوص عن أحمد أنه لا يجب إلا الجائزة الأولى وقال قد فرق بين الجائزة والضيافة والجائزة أوكد ومن أصحابنا من أوجب الضيافة ثلاثة أيام منهم أبو بكر بن عبدالعزيز وابن أبي موسى والآمدي وما بعد الثلاث فهو صدقة وظن بعض الناس أن الضيافة ثلاثة أيام بعد اليوم والليلة الأولى ورده أحمد بقوله ﷺ الضيافة ثلاثة أيام فما زاد فهو صدقة ولو كان كما ظن هذا لكان أربعة قلت ونظير هذا قوله تعالى {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ} إلى قوله {وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ} فصلت والمراد في تمام الأربعة وهذا الحديث الذي احتج به أحمد قد تقدم من حديث أبي شريح وخرجه البخاري من حديث أبي هريرة عن النبي ﷺ قال من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحسن قري الضيف قيل يا رسول الله وما قري الضيف قال ثلاثة فما كان بعد فهو صدقة قال جندب بن رواحة عليه أن يتكلف له في اليوم والليلة من الطعام أطيب ما يأكله هو وعياله وفي تمام الثالث يطعمهم من طعامه وفي هذا نظر وسنذكر حديث سلمان بالنهي عن التكلف للضيف ونقل أشهب عن مالك قال جائزته يوم وليلة يكرمه ويتحفه ويخصه يومًا وليلة وثلاثة أيام ضيافة، وكان ابن عمر يمتنع من الأكل من مال من نزل عليه فوق ثلاثة أيام ويأمر أن ينفق عليه من ماله ولصاحب المنزل أن يأمر الضيف بالتحول عنه بعد الثلاث لأنه قضى ما عليه وفعل ذلك الإمام أحمد رحمه الله، وقوله ﷺ لا يحل له أن يثوي عنده حتى يحرجه يعني يقيم عنده حتى يضيق عليه لكن هل هذا في الأيام الثلاثة أم فيما زاد عليها فأما فيما ليس بواجب فلا شك في تحريمه وأما ما هو واجب وهو اليوم والليلة فيبنى على أنه هل تجب الضيافة على من لا يجد شيئًا أم لا تجب إلا على من وجد ما يضيف به فإن قيل إنها لا تجب إلا على من يجد ما يضيف به وهو قول طائفة من أهل الحديث منهم حميد بن زنجويه لم يحل للضيف أن يستضيف من هو عاجز عن ضيافته وقد روي من حديث سلمان قال نهانا رسول الله ﷺ أن نتكلف للضيف ما ليس عندنا فإذا نهى المضيف أن يتكلف للضيف ما ليس عنده دل على أنه لا تجب عليه المواساة للضيف إلا بما عنده فإذا لم يكن عنده فضل لم يلزمه شيء وأما إذا آثر على نفسه كما فعل الأنصاري الذي نزل فيه {ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة} فذلك مقام فضل وإحسان وليس بواجب ولو علم الضيف أنهم لا يضيفونه إلا بقوتهم وقوت صبيانهم وأن الصبية يتأذون بذلك لم يجز له استضافتهم حينئذ عملًا بقوله ﷺ لا يحل له أن يقيم عنده حتى يحرجه وأيضا فالضيافة نفقة واجبة ولا تجب إلا على من عنده فضل عن قوته وقوت عياله كنفقه الأقارب وزكاة الفطر وقد أنكر الخطابي تفسير تأثمه بأن يقيم عنده ولا شيء له يقريه به وقال أراه غلطا وكيف يأثم في ذلك وهو لا يتسع لقراه ولا يجد سبيلا إليه وإنما الكلفة على قدر الطاقة قال وإنما وجه الحديث أنه كره له المقام عنده بعد ثلاث لئلا يضيق صدره بمكانه فتكون الصدقة منه على وجه المن والأذى فيبطل أجره وهذا الذي قاله فيه نظر فإنه قد صح تفسيره في الحديث بما أنكره وإنما وجهه أنه أقام عنده ولاشيء له يقريه به فربما دعاه ضيق صدره به وحرجه إلى ما يأثم به في قول أو فعل وليس المراد أنه يأثم بترك قراه مع عجزه عنه والله أعلم.

========

الحديث السادس عشر

عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رجلًا قال للنبي ﷺ أوصني قال لا تغضب فردد مرارا قال لا تغضب . رواه البخاري.

هذا الحديث خرجه البخاري من طريق أبي الحصين الأسدي عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه ولم يخرجه مسلم لأن الأعمش رواه عن أبي صالح واختلف عليه في إسناده فقيل عنه عن أبي صالح عن أبي هريرة كقول أبي حصين وقيل عنه عن أبي صالح عن أبي سعيد الخدري وعند يحيى بن معين أن هذا هو الصحيح وقيل عنه أبي صالح عن أبي هريرة وأبي سعيد وقيل عنه عن أبي صالح عن أبي هريرة أو جابر وقيل عنه عن أبي صالح عن رجل من الصحابة غير مسمي.

وخرج الترمذي هذا الحديث من طريق أبي حصين أيضًا ولفظه جاء رجل إلى النبي ﷺ فقال يا رسول الله علمني شيئًا ولا تكثر على لعلي أعيه قال لا تغضب فردد ذلك مرارا كل ذلك يقول لا تغضب وفي رواية أخرى لغير الترمذي قال قلت يا رسول الله دلني على عمل يدخلني الجنة ولا تكثر علي قال لا تغضب فهذا الرجل طلب من النبي ﷺ أن يوصيه وصية وجيزة جامعة لخصال الخير ليحفظها عنه خشية أن لا يحفظها لكثرتها ووصاه النبي أن لا يغضب ثم ردد هذه المسئلة عليه مرارا والنبي ﷺ يردد عليه هذا الجواب فهذا يدل على أن الغضب جماع الشر وأن التحرز منه جماع الخير ولعل هذا الرجل الذي سأل النبي ﷺ هو أبو الدرداء فقد خرج الطبراني من حديث أبي الدرداء قال قلت يا رسول الله دلني على عمل يدخلني الجنة قال لا تغضب ولك الجنة وقد روى الأحنف بن قيس عن عمه حارثة بن قدامة أن رجلًا قال يا رسول الله قل لي قولًا وأقلل علي لعلي أعقله قال لا تغضب فأعاد عليه مرارا كل ذلك يقول لا تغضب خرجه الإمام أحمد وفي رواية له أن حارثة بن قدامة قال سألت النبي ﷺ فذكره فهذا يغلب على الظن أن السائل هو حارثة بن قدامة ولكن ذكر الإمام أحمد عن يحيى القطان أنه قال هكذا قال هشام يعني أن هشاما ذكر في الحديث أن حارثة سأل النبي ﷺ قال يحيي وهم يقولون إنه لم يدرك النبي ﷺ وكذا قال العجلي وغيره إنه تابعي وليس بصحابي.

وخرج الإمام أحمد من حديث الزهري عن حميد بن عبدالرحمن عن رجل من أصحاب النبي ﷺ قال قلت يا رسول الله أوصني قال لا تغضب قال الرجل ففكرت حين قال النبي ﷺ ما قال فإذا الغضب يجمع الشر كله ورواه مالك في الموطأ عن الزهري عن حميد مرسلا.

وخرج الإمام أحمد من حديث عبدالله بن عمرو أنه سأل النبي ﷺ ماذا يباعدني من غضب الله عز وجل قال لا تغضب وقول الصحابي ففكرت فيما قال النبي ﷺ فإذا الغضب يجمع الشر كله يشهد لما ذكره أن الغضب جماع الشر كله.

قال جعفر بن محمد الغضب مفتاح كل شر وقيل لابن المبارك اجمع لنا حسن الخلق في كلمة قال ترك الغضب وكذا فسر الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه حسن الخلق بترك الغضب.

وقد روى ذلك مرفوعًا خرجه محمد بن نصر المروزي في كتاب الصلاة من حديث أبي العلاء بن الشخير أن رجلًا أتى النبي ﷺ من قبل وجهه فقال يا رسول الله أي العمل أفضل فقال حسن الخلق ثم أتاه عن يمينه فقال يا رسول الله أي العمل أفضل فقال حسن الخلق ثم أتاه عن شماله فقال يا رسول الله أي العمل أفضل قال حسن الخلق ثم أتاه من بعده يعني من خلفه فقال يا رسول الله أي العمل أفضل فالتفت إليه رسول الله رسول ﷺ فقال مالك لا تفقه حسن الخلق هو أن لا تغضب إن استطعت وهذا مرسل فقوله ﷺ لمن استوصاه لا تغضب يحتمل أمرين أحدهما أن يكون مراده الأمر بالأسباب التي توجب حسن الخلق من الكرم والسخاء والحلم والحياء والتواضع والاحتمال وكف الأذى والصفح والعفو وكظم الغيظ والطلاقة والبشر ونحو ذلك من الأخلاق الجميلة فإن النفس إذا تخلقت بهذه الأخلاق وصارت لها عادة أوجب لها ذلك دفع الغضب عند حصول أسبابه والثاني أن يكون المراد لا تعمل بمقتضى الغضب إذا حصل لك بل جاهد نفسك على ترك تنفيذه والعمل بما يأمر به فإن الغضب إذا ملك شيئًا من بني آدم كان الآمر والناهي له ولهذا المعنى قال الله عز وجل {وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ} الأعراف وإذا لم يمتثل الإنسان ما يأمره به غضبه وجاهد نفسه على ذلك اندفع عنه شر الغضب وربما سكن غضبه وذهب عاجلا وكأنه حينئذ لم يغضب وإلى هذا المعنى وقعت الإشارة في القرآن بقوله عز وجل {وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} الشورى وبقوله عز وجل {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} آل عمران، وكان النبي ﷺ يأمر من غضب بتعاطي أسباب تدفع عنه الغضب وتسكنه ويمدح من ملك نفسه عند غضبه ففي الصحيحين عن سليمان بن صرد قال استب رجلان عند النبي ﷺ ونحن عنده جلوس وأحدهما يسب صاحبه مغضبًا قد احمر وجهه فقال النبي ﷺ إني لا أعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد لو قال أعوذ بالله من الشيطان الرجيم فقالوا للرجل ألا تسمع ما يقول النبي ﷺ قال إني لست بمجنون.

وخرج الإمام أحمد والترمذي من حديث أبي سعيد الخدري أن النبي ﷺ قال في خطبته ألا إن الغضب جمرة في قلب ابن آدم أفما رأيتم إلى حمرة عينيه وانتفاخ أوداجه فمن أحس من ذلك بشيء فليلزق بالأرض.

وخرج الإمام أحمد وأبو داود من حديث أبي ذر أن النبي ﷺ قال إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس فإن ذهب عنه الغضب وإلا فليضطجع وقد قيل إن المعنى في هذا أن القائم متهيئ للانتقام والجالس دونه في ذلك والمضطجع أبعد عنه فأمره بالتباعد عنه حالة الانتقام ويشهد لذلك أنه روي من حديث سنان بن سعد عن أنس عن النبي ﷺ ومن حديث الحسن مرسلًا عن النبي ﷺ قال الغضب جمرة في قلب الإنسان توقد ألا ترى إلى حمرة عينيه وانتفاخ أوداجه فإذا أحس أحدكم من ذلك شيئًا فليجلس ولا يعدونه الغضب والمراد أنه يحبسه في نفسه ولا يعديه إلى غيره بالأذى بالفعل ولهذا المعنى قال النبي ﷺ في الفتن إن المضطجع فيها خير من القاعد والقاعدة فيها خير من القائم والقائم خير من الماشي والماشي خير من الساعي وإن كان هذا على وجه ضرب المثال في الإسراع في الفتن إلا أن المعنى أن من كان أقرب إلى الإسراع فيها فهو شر ممن كان أبعد عن ذلك.

وخرج الإمام أحمد من حديث ابن عباس عن النبي قال إذا غضب أحدكم فليسكت قالها ثلاثًا وهذا أيضًا دواء عظيم للغضب لأن الغضبان يصدر منه في حال غضبه من القول ما يندم عليه في حال زوال غضبه كثيرًا من السباب وغيره مما يعظم ضرره فإذا سكت زال هذا الشر كله عنده وما أحسن قول مورق العجلي رحمه الله ما امتلأت غضبًا قط ولا تكلمت في غضب قط بما أندم عليه إذا رضيت وغضب يومًا عمر بن عبدالعزيز فقال له ابنه عبدالملك رحمهما الله أنت يا أمير المؤمنين مع ما أعطاك الله وفضلك به تغضب هذا الغضب فقال له أو ما تغضب يا عبدالملك فقال له عبدالملك وما يغني عني سعة جوفي إذا لم أردد فيه الغضب حتى لا يظهر فهؤلاء قوم ملكوا أنفسهم عند الغضب رضي الله عنهم.

وخرج الإمام أحمد وأبو داود من حديث عروة بن محمد السعدي أنه كلمه رجل فأغضبه فقام فتوضأ ثم قال حدثني أبي عن جدي عطية قال قال رسول الله ﷺ إن الغضب من الشيطان وإن الشيطان خلق من النار وإنما تطفأ النار بالماء فإذا غضب أحدكم فليتوضأ وروى أبو نعيم بإسناده عن أبي مسلم الخولاني أنه كلم معاوية بشيء وهو على المنبر فغضب ثم نزل فاغتسل ثم عاد إلى المنبر وقال سمعت رسول الله ﷺ يقول إن الغضب من الشيطان والشيطان من النار والماء يطفيء النار فإذا غضب أحدكم فليغتسل.

وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال ليس الشديد بالصرعة وإنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود عن النبي ﷺ قال ما تعدون الصرعة فيكم قلنا الذي لا تصرعه الرجال قال ليس ذلك ولكنه الذي يملك نفسه عن الغضب.

وخرج الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه من حديث معاذ بن أنس الجهني عن النبي ﷺ قال من كظم غيظا وهو يستطيع أن ينفذه دعاه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق حتى يخيره في أي الحور شاء.

وخرج الإمام أحمد من حديث ابن عمر عن النبي ﷺ قال ما تجرع عبد جرعة أفضل عند الله من جرعة غيظ يكظمها ابتغاء وجه الله تعالى ومن حديث ابن عباس عن النبي ﷺ قال ما من جرعة أحب إلى الله من جرعة غيظ يكظمها عبد ما كظم عبد لله إلا ملأ الله جوفه إيمانا.

وخرج أبو داود معناه من رواية بعض الصحابة عن النبي ﷺ وقال ملأه الله أمنا وإيمانا وقال ميمون بن مهران جاء رجل إلى سلمان فقال يا أبا عبدالله أوصني قال لا تغضب قال أمرتني أن لا أغضب وإنه ليغشاني ما لا أملك قال فإن غضبت فاملك لسانك ويدك خرجه ابن أبي الدنيا وملك لسانه ويده هو الذي أشار إليه النبي ﷺ بأمره لمن غضب أن يجلس ويضطجع وبأمره له أن يسكت قال عمر بن عبدالعزيز قد أفلح من عصم عن الهوى والغضب والطمع وقال الحسن أربع من كن فيه عصمه الله من الشيطان وحرمه على النار من ملك نفسه عند الرغبة والرهبة والشهوة والغضب فهذه الأربع التي ذكرها الحسن هي مبدأ الشر كله فإن الرغبة في الشيء هي ميل النفس إليه لاعتقاد نفعه فمن حصل له رغبة في شيء حملته تلك الرغبة على طلب ذلك الشيء من كل وجه يظنه موصلا إليه وقد يكون كثير منها محرما وقد يكون ذلك الشيء المرغوب فيه محرما والرهبة هي الخوف من الشيء وإذا خاف الإنسان من شيء تسبب في دفعه عنه بكل طريق يظنه دافعا له وقد يكون كثير منها محرما والشهوة هي ميل النفس إلى ما يلائمها وتلتذ به وقد تميل كثيرًا إلى ما هو محرم كالزنا والسرقة وشرب الخمر وإلى الكفر والسحر والنفاق والبدع والغضب هو غليان دم القلب طلبا لدفع المؤذي عنه خشية وقوعه أو طلبا للانتقام ممن حصل له منه الأذى بعد وقوعه وينشأ من ذلك كثير من الأفعال المحرمة كالقتل والضرب وأنواع الظلم والعدوان وكثير من الأقوال المحرمة كالقذف والسب والفحش وربما ارتقى إلى درجة الكفر كما جرى لجبلة بن الأيهم وكالأيمان التي لا يجوز التزامها شرعا وكطلاق الزوجة الذي يعقب الندم والواجب على المؤمن أن تكون شهوته مقصورة على طلب ما أباحه الله له وربما تناولها بنية صالحة فأثيب عليها وأن يكون غضبه دفعا للأذى في الدين له أو لغيره وانتقاما ممن عصى الله ورسوله كما قال تعالى {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ. وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ} التوبة وهذه كانت حال النبي ﷺ فإنه كان لا ينتقم لنفسه ولكن إذا انتهكت حرمات الله لم يقم لغضبه شيء ولم يضرب بيده خادما ولا امرأة إلا أن يجاهد في سبيل الله وخدمه أنس عشر سنين فما قال له أف قط ولا قال له لشيء فعله لم فعلت كذا ولا لشيء لم يفعله ألا فعلت كذا وفي رواية أنه كان إذا لامه بعض أهله قال ﷺ دعوه فلو قضى شيء كان وفي رواية للطبراني قال أنس خدمت رسول الله ﷺ عشر سنين فما دريت شيئًا قط وافقه ولا شيئًا خالفه رضي من الله بما كان وسئلت عائشة رضي الله عنها عن خلق رسول الله ﷺ فقالت كان خلقه القرآن يعني أنه كان يتأدب بآدابه ويتخلق بأخلاقه فما مدحه القرآن كان فيه رضاه وما ذمه القرآن كان فيه سخطه وجاء في رواية عنها قالت كان خلقه القرآن يرضى لرضاه ويسخط لسخطه، وكان ﷺ لشدة حيائه لا يواجه أحدًا بما يكره بل تعرف الكراهة في وجهه كما في الصحيح عن أبي سعيد الخدري قال كان النبي ﷺ أشد حياء من العذراء في خدرها فإذا رأى شيئًا يكرهه عرفناه في وجهه ولما بلغه ابن مسعود قول القائل هذه قسمة ما أريد بها وجه الله شق عليه ﷺ وتغير وجهه وغضب ولم يزد على أن قال لقد أوذي موسى بأكثر من هذا فصبر، وكان ﷺ إذا رأى أو سمع ما يكرهه الله غضب لذلك وقال فيه ولم يسكت وقد دخل بيت عائشة رضي الله عنها فرأى سترا فيه تصاوير فتلون وجهه وهتكه وقال إن من أشد الناس عذابا يوم القيامة الذين يصورون هذه الصور ولما شكي إليه الإمام الذي يطيل بالناس صلاته حتى يتأخر بعضهم عن الصلاة معه غضب واشتد غضبه ووعظ الناس وأمر بالتخفيف ولما رأى النخامة في قبلة المسجد تغيظ وحكها وقال إن أحدكم إذا كان في الصلاة فإن الله حيال وجهه فلا يتنخمن حيال وجهه في الصلاة، وكان من دعائه ﷺ أسألك كلمة الحق في الغضب والرضا وهذا عزيز جدًا وهو أن الإنسان لا يقول سوى الحق سواء غضب أو رضي فإن أكثر الناس إذا غضب لا يتوقف فيما يقول.

وخرج الطبراني من حديث أنس مرفوعًا ثلاث من أخلاق الإيمان من إذا غضب لم يدخله غضبه في باطل ومن إذا رضي لم يخرجه رضاه من حق ومن إذا قدر لم يتعاط ما ليس له وقد روي عن النبي ﷺ أنه أخبر عن رجلين ممن كان قبلنا كان أحدهما عابدا، وكان الآخر مسرفا على نفسه، وكان العابد يعظه فلا ينتهي فرآه يومًا على ذنب استعظمه فقال والله لا يغفر الله لك فغفر للمذنب وأحبط عمل العابد وقال أبو هريرة لقد تكلم بكلمة أوبقت دنياه وآخرت فكان أبو هريرة يحذر الناس أن يقولوا مثل هذه الكلمة في غضب وقد خرجه الإمام أحمد وأبو داود فهذا غضب لله ثم تكلم في حال غضبه لله بما لا يجوز وحتم على الله بما لا يعلم فأحبط الله عمله فكيف بمن تكلم في غضبه لنفسه ومتابعة هواه بما لا يجوز وفي صحيح مسلم عن عمران بن حصين أنهم كانوا مع النبي ﷺ في بعض أسفاره وامرأة من الأنصار على ناقة فضجرت فلعنتها فسمع النبي ﷺ فقال خذوا متاعها ودعوها وفيه أيضًا عن جابر قال سرنا مع رسول الله ﷺ في غزوة ورجل من الأنصار على ناضح له فتلدن عليه بعض التلدن فقال له سر يلعنك الله فقال رسول الله ﷺ انزل عنه فلا يصحبنا ملعون لا تدعوا على أنفسكم ولا على أولادكم ولا تدعوا على أموالكم لا توافقوا من الله ساعة يسأل فيها عطاء فيستجيب لكم فهذا كله يدل على أن دعاء الغضبان قد يجاب إذا صادف ساعة إجابة وأنه ينهى عن الدعاء على نفسه وأهله وماله في الغضب وأما ما قاله مجاهد في قوله تعالى {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُم بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ} يونس قال هو الواصل لأهله وولده وماله إذا غضب عليه قال اللهم لا تبارك فيه اللهم العنه يقول لو عجل له ذلك لأهلك من دعا عليه فأماته فهذا يدل على أنه لا يستجاب ما يدعوا به الغضبان على نفسه وأهله وماله والحديث دل على أنه قد يستجاب لمصادفته ساعة إجابة وأما ما روي عن الفضيل بن عياض قال ثلاثة لا يلامون على غضب الصائم والمريض والمسافر وعن الأحنف بن قيس قال يوحي الله إلى الحافظين اللذين مع ابن آدم لا تكتبا على عبدي في ضجره شيئًا وعن أبي عمران الجوني قال إن المريض إذ جزع فأذنب قال الملك الذي على اليمين للملك الذي على الشمال لا تكتب خرجه ابن أبي الدنيا فهذا كله لا يعرف له أصل صحيح من الشرع يدل عليه والأحاديث التي ذكرناها من قبل تدل على خلافه وقول النبي ﷺ إذا غضب فليسكت يدل على أن الغضبان مكلف في حال غضبه بالسكوت فيكون حينئذ مؤاخذة بالكلام وقد صح عن النبي ﷺ أنه أمر من غضب أن يتلافى غضبه بما يسكته من أقوال وأفعال وهذا هو عين التكليف له بقطع الغضب فكيف يقال إنه غير مكلف في حال غضبه بما يصدر منه وقال عطاء بن أبي رباح ما أبكى العلماء بكاء آخر العمر من غضبة يغضبها أحدهم فيهدم عمر خمسين سنة أو ستين سنة أو سبعين سنة ورب غضبة قد أقحمت صاحبها مقحما ما استقاله خرجه ابن أبي الدنيا ثم إن من قال من السلف إن الغضبان إذا كان سبب غضبه مباحًا كالمرض أو السفر أو الطاعة كالصوم لا يلام عليه إنما مراده أنه لا إثم عليه إذا كان مما يقع منه في حال الغضب كثيرًا من كلام يوجب تضجرا أو سبا ونحوه كما قال ﷺ إنما أنا بشر أرضى كما يرضي البشر وأغضب كما يغضب البشر فأيما مسلم سببته أو جلدته فاجعلها له كفارة فأما ما كان من كفر أو رده أو قتل نفس أو أخذ مال بغير حق ونحو ذلك فهذا لا يشك مسلم أنهم لم يريدوا أن الغضبان لا يؤاخذ به، وكذلك ما يقع من الغضبان من طلاق وعتاق أو يمين فإنه يؤاخذ بذلك كله بغير خلاف.

وفي مسند الإمام أحمد عن خولة بنت ثعلبة امرأة أوس بن الصامت أنها راجعت زوجها فغضب فظاهر منها، وكان شيخًا كبيرًا قد ساء خلقه وضجر وأنها جاءت إلى النبي ﷺ فجعلت تشكو إليه ما تلقى من سوء خلقه فأنزل الله آية الظهار وأمره رسول الله ﷺ بكفارة في قصة طويلة وخرجها ابن أبي حاتم من وجه آخر عن أبي العالية أن خولة غضب زوجها فظاهر منها فأتت النبي ﷺ فأخبرته بذلك وقالت إنه لم يرد الطلاق فقال النبي ﷺ ما أراك إلا حرمت عليه وذكر القصة بطولها وفي آخرها قال فحول الله الطلاق فجعله ظهارا فهذا الرجل ظاهر في حال غضبه، وكان النبي ﷺ يرى حينئذ أن الظهار طلاق وقد قال إنها حرمت عليه بذلك يعني لزمه الطلاق فلما جعله الله ظهارا مكفرا ألزمه بالكفارة ولم يلغه وروى مجاهد عن ابن عباس أن رجلًا قال له إني طلقت امرأتي ثلاثًا وأنا غضبان فقال ابن عباس لا يستطيع أن يحل لك ما حرم الله عليك عصيت ربك وحرمت عليك امرأتك خرجه الجوزجاني والدارقطني بإسناد على شرط مسلم.

وخرج القاضي إسماعيل بن إسحاق في كتاب أحكام القرآن بإسناد صحيح عن عائشة رضي الله عنها قالت اللغو في الأيمان ما كان في المراء والهزل والمزاحة والحديث الذي لا يعقد عليه القلب وأيمان الكفارة على كل يمين حلفت عليها على جد من الأمر في غضب أو غيره لتفعلن أو لتتركن فذلك عقد الأيمان فيها الكفارة وكذا رواه وهب عن يونس عن الزهري عن عروة عن عائشة وهذا من أصح الأسانيد وهذا يدل على أن الحديث المروي عنها مرفوعًا لا طلاق ولا عتاق في إغلاق إما أنه غير صحيح أو إن تفسيره بالغضب غير صحيح وقد صح عن غير واحد من الصحابة أنهم أفتوا أن يمين الغضبان منعقدة وفيها الكفارة وما روي عن ابن عباس مما يخالف ذلك فلا يصح إسناده قال الحسن طلاق السنة أن يطلقها واحدة طاهرًا من غير جماع وهو بالخيار ما بينه وبين أن تحيض ثلاث حيض فإن بداله أن يراجعها كان أملك بذلك فإن كان غضبان ففي ثلاث حيض أو في ثلاثة أشهر إن كانت لا تحيض ما يذهب غضبه وقال الحسن لقد بين الله لئلا يندم أحد في طلاق كما أمره الله خرجه القاضي إسماعيل وقد جعل كثير من العلماء الكنايات مع الغضب كالصريح في أنه يقع بها الطلاق ظاهرا ولا يقبل تفسيرها مع الغضب بغير الطلاق ومنهم من جعل الغضب مع الكنايات كالنية فأوقع بذلك الطلاق في الباطن أيضًا فكيف يجعل الغضب مانعا من وقوع صريح الطلاق.

=============

الحديث السابع عشر

عن أبي يعلى شداد بن أوس رضي الله تعالى عنه عن رسول الله ﷺ قال إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته . رواه مسلم.

هذا حديث خرجه مسلم دون البخاري من رواية أبي قلابة عن أبي الأشعث الصنعاني عن شداد بن أوس وتركه البخاري لأنه لم يخرج في صحيحه لأبي الأشعث شيئًا وهو شامي وقد روي نحوه من حديث سمرة عن النبي ﷺ قال إن الله عز وجل محسن فأحسنوا فإذا قتل أحدكم فليحسن مقتوله وإذا ذبح فليحد شفرته وليرح ذبيحته خرجه ابن عدي.

وخرج الطبراني من حديث أنس عن النبي ﷺ قال إذا حكمتم فاعدلوا وإذا قلتم فأحسنوا فإن الله محسن يحب المحسنين فقوله ﷺ إن الله كتب الإحسان على كل شيء وفي رواية لأبي إسحاق الفزاري في كتاب السير عن خالد عن أبي قلابة عن النبي ﷺ إن الله كتب الإحسان على كل شيء أو قال على كل خلق هكذا خرجها مرسلة وبالشك في كل شيء أو كل خلق وظاهره يقتضي أنه كتب على كل مخلوق الإحسان فيكون كل شيء أو كل مخلوق هو المكتوب عليه والمكتوب هو الإحسان وقيل إن المعنى أن الله كتب الإحسان إلى كل شيء أو في كل شيء أو كتب الإحسان في الولاية على كل شيء فيكون المكتوب عليه غير مذكور وإنما المذكور المحسن إليه ولفظ الكتابة يقتضي الوجوب عند أكثر الفقهاء والأصوليين خلافًا لبعضم وإنما استعمال لفظة الكتابة في القرآن فيما هو واجب حتم إما شرعا كقوله تعالى {إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا} النساء، وقوله {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} البقرة {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ} البقرة أو فيما هو واقع قدرا لا محالة كقوله {كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} المجادلة، وقوله {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} الأنبياء، وقوله {أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ} المجادلة وقال النبي ﷺ في قيام شهر رمضان إني خشيت أن يكتب عليكم وقال أمرت بالسواك حتى خشيت أن يكتب على وقال كتب على ابن آدم حظه من الزنا فهو مدرك ذلك لا محالة وحينئذ فهذا الحديث نص في وجوب الإحسان وقد أمر الله تعالى به فقال {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ} النحل وقال {أَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} البقرة وهذا الأمر بالإحسان تارة يكون للوجوب كالإحسان إلى الوالدين والأرحام بمقدار ما يحصل به البر والصلة والإحسان إلى الضيف بقدر ما يحصل به قراه على ما سبق ذكره وتارة يكون للندب كصدقة التطوع ونحوها وهذا الحديث يدل على وجوب الإحسان في كل شيء من الأعمال لكن إحسان كل شيء بحسبه فالإحسان في الإتيان بالواجبات الظاهرة والباطنة الإتيان بها على وجه كمال واجباتها فهذا القدر من الإحسان فيها واجب وأما الإحسان فيها بإكمال مستحباتها فليس بواجب والإحسان في ترك الحرمات الانتهاء عنها وترك ظاهرها وباطنها كما قال تعالى {وَذَرُواْ ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ} الأنعام فهذا القدر من الإحسان فيها واجب وأما الإحسان في الصبر على المقدورات فأن يأتي بالصبر عليها على وجهه من غير تسخط ولا جزع والإحسان الواجب في معاملة الخلق ومعاشرتهم القيام بما أوجب الله من حقوق ذلك كله والإحسان الواجب في ولاية الخلق وسياستهم القيام بواجبات الولاية كلها والقدر الزائد على الواجب في ذلك كله إحسان ليس بواجب والإحسان في قتل ما يجوز قتله من الناس والدواب إزهاق نفسه على أسرع الوجوه وأسهلها وأرجاها من غير زيادة في التعذيب فإنه إيلام لا حاجة إليه وهذا النوع هو الذي ذكره النبي ﷺ في هذا الحديث ولعله ذكره على سبيل المثال أو لحاجته إلى بيانه في تلك الحال فقال إذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة والقتلة والذبحة بالكسر أي الهيئة والمعني أحسنوا هيئة الذبح وهيئة القتل وهذا يدل على وجوب الإسراع في إزهاق النفوس التي يباح إزهاقها على أسهل الوجوه وقد حكى ابن حزم الإجماع على وجوب الإحسان في الذبيحة وأسهل وجوه قتل الآدمي ضربه بالسيف على العنق قال الله تعالى في حق الكفار {فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ} محمد وقال {سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرَّعْبَ فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} الأنفال.

وقد قيل إنه عين الموضع الذي يكون الضرب فيه أسهل على المقتول وهو فوق العظام ودون الدماغ.

ووصى دريد بن الصمة قاتله أن يقتله كذلك، وكان النبي ﷺ إذا بعث سرية تغزوا في سبيل الله قال لهم لا تمثلوا ولا تقتلوا وليدا.

وخرج أبو داود وابن ماجه من حديث ابن مسعود عن النبي ﷺ قال أعف الناس قتلة أهل الإيمان.

وخرج أحمد وأبو داود من حديث عمران بن حصين وسمرة بن جندب أن النبي ﷺ كان ينهى عن المثلة.

وخرج البخاري من حديث عبدالله بن يزيد عن النبي ﷺ أنه نهى عن المثلة.

وخرج الإمام أحمد من حديث يعلى بن مرة عن النبي ﷺ قال الله تعالى لا تمثلوا بعبادي.

وخرج أيضًا من حديث رجل من الصحابة عن النبي ﷺ قال من مثل بذي روح ثم لم يتب مثل الله به يوم القيامة واعلم أن القتل المباح يقع على وجهين أحدهما قصاص فلا يجوز التمثيل فيه بالمقتص منه بل يقتل كما قتل فإن كان قد مثل بالمقتول فهل يمثل به كما فعل أم لا يقتل إلا بالسيف فيه قولان مشهوران للعلماء أحدهما أنه يفعل به كما فعل وهو قول مالك والشافعي وأحمد في المشهور عنه.

وفي الصحيحين عن أن قال خرجت جارية عليها أوضاح بالمدينة فرماها يهودي بحجر فجيء بها إلى رسول الله ﷺ وبها رمق فقال لها رسول الله ﷺ فلان قتلك فرفعت رأسها فقال لها في الثالثة فلان قتلك فخفضت رأسها فدعا به رسول الله ﷺ فرضخ رأسه بين حجرين وفي رواية لهما فأخذ فاعترف وفي رواية لمسلم أن رجلًا من اليهود قتل جارية من الأنصار على حلي لها ثم ألقاها في القليب ورضخ رأسها بالحجارة فأخذ فأتى به النبي ﷺ فأمر به أن يرجم حتى يموت فرجم حتى مات والقول الثاني لا قود إلا بالسيف وهو قول الثوري وأبي حنيفة رضي الله عنه ورواية عن أحمد وعن أحمد رواية ثالثة يفعل به كما فعل إلا أن يكون حرقه بالنار أو مثل به فيقتل بالسيف للنهي عن المثلة وعن التحريق بالنار نقلها عنه الأثرم وقد روي عن النبي ﷺ أنه قال لا قود إلا بالسيف خرجه ابن ماجه بإسناد ضعيف وقال أحمد يروي لا قود إلا بالسيف وليس إسناده بجيد، وحديث أنس يعني في قتل اليهودي بالحجارة أسند منه وأجود لو مثل به ثم قتله مثل أن قطع أطرافه ثم قتله فهل يكتفي بقتله أم يصنع به كما صنع فيقطع أطرافه ثم يقتل على قولين أحدهما يفعل به كما فعل سواء وهو قول أبي حنيفة والشافعي وأحمد في إحدى الروايتين وإسحاق وغيرهم والثاني يكتفي بقتله وهو قول الثوري وأحمد في رواية وأبى يوسف ومحمد وقال مالك إن فعل به ذلك على سبيل التمثيل والتعذيب فعل به كما فعل وإن لم يكن على هذا الوجه اكتفى بقتله والوجه الثاني أن يكون القتل للكفر إما لكفر أصلي أو لردة عن الإسلام فأكثر العلماء على كراهة المثلة فيه أيضًا وأنه يقتل فيه بالسيف وقد روي عن طائفة من السلف جواز التمثيل فيه بالتحريق بالنار وغير ذلك كما فعله خالد بن الوليد وغيره وروي عن أبي بكر أنه حرق الفجأة بالنار وروي أن أم فرقد الفرارية ارتدت في عهد أبي بكر الصديق فأمر بها فشدت ذؤابتها في أذناب قلوصين أو فرسين ثم صاح بهما فتقطعت المرأة وأسانيد هذه القصة متقطعة وقد ذكر ابن سعد في طبقاته بغير إسناد أن زيد بن حارثة قتلها هذه القتلة على عهد رسول الله ﷺ وأخبر النبي ﷺ بذلك وصح عن على أنه حرق المرتدين وأنكر ذلك ابن عباس عليه وقيل إنه لم يحرقهم وإنما دخن عليهم حتى ماتوا وقيل إنه قتلهم ثم حرقهم ولا يصح ذلك وروي عنه أنه جيء بمرتد فأمر به فوطيء بالأرجل حتى مات واختار ابن عقيل من أصحابنا جواز القتل بالتمثيل للكفر لا سيما إذا تغلظ وحمل النهي عن المثلة على القتل بالقصاص واستدل من أجاز ذلك بحديث العرنيين وقد خرجاه في الصحيحين من حديث أنس أن أناسا من عرينة قدموا على رسول الله ﷺ المدينة فاجتووها فقال لهم رسول الله ﷺ إن شئتم أن تخرجوا إلى إبل الصدقة فتشربوا من ألبانها وأبوالها فافعلوا ففعلوا فصحوا ثم مالوا على الرعاة فقتلوهم وارتدوا عن الإسلام واستاقوا ذود رسول الله ﷺ فبلغ ذلك النبي ﷺ فبعث في آثرهم فأتى بهم فقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم وتركهم في الحرة حتى ماتوا.

وفي رواية ثم نبذوا في الشمس حتى ماتوا وفي رواية وسمر أعينهم وألقوا في الحرة يستسقون فلا يسقون وفي رواية الترمذي قطع أيديهم وأرجلهم من خلاف وفي رواية النسائي وحرقهم وقد اختلف العلماء في وجه عقوبة هؤلاء فمنهم من قال من فعل مثل فعلهم فمن ارتد وحارب وأخذ المال صنع به كما صنع بهؤلاء وروي هذا عن طائفة منهم أبو قلابة وهو رواية عن أحمد ومنهم من قال بل هذا يدل على جواز التمثيل ممن تغلظت جرائمه في الجملة وإنما نهى عن التمثيل في القصاص وهو قول ابن عقيل من أصحابنا ومنهم من قال نسخ ما فعل بالعرنيين بالنهي عن المثلة ومنهم من قال كان قبل نزول الحدود وآية المحاربة ثم نسخ بذلك وهذا قول جماعة منهم الأوزاعي وأبو عبيدة ومنهم من قال بل ما فعله النبي ﷺ بهم إنما كان من باب المحاربة ولم ينسخ شيء من ذلك وقالوا إنما قتلهم النبي ﷺ وقطع أيديهم لأنهم أخذوا المال ومن أخذ المال وقتل قطع وقتل وصلب حتما فيقتل لقتله ويقطع لأخذه المال يده ورجله من خلاف ويصلب لجمعه بين الجنايتين وهما القتل وأخذ المال وهذا قول الحسن ورواية عن أحمد وإنما سمل أعينهم لأنه سملوا أعين الرعاة كذا خرجه مسلم من حديث أنس وذكر ابن شهاب أنهم قتلوا الراعي ومثلوا به وذكر ابن سعد أنهم قطعوا يده ورجله وغرسوا الشوك في لسانه وعينيه حتى مات وحينئذ فقد يكون قطعهم وسمل أعينهم وتعطيشهم قصاصا وهذا يتخرج على قول من يقول إن المحارب إذا جنى جناية توجب القصاص استوفاه منه قبل قتله وهو مذهب أحمد لكن هل يستوفى منه تحتما كقتله أم على وجه القصاص فيسقط بعفو الولي على روايتين عنه ولكن رواية الترمذي أن قطعهم من خلاف يدل على أن قطعهم للمحاربة إلا أن يكونوا قد قطعوا يد الراعي ورجله من خلاف والله أعلم.

وقد روي عن النبي ﷺ أنه كان أذن في التحريق بالنار ثم نهى عنه كما في صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال بعثنا رسول الله ﷺ في بعث فقال إن وجدتم فلانًا وفلانًا لرجلين من قريش فاحرقوهما بالنار ثم قال رسول الله ﷺ حين أردنا الخروج إني كنت أمرتكم أن تحرقوا فلانا وفلانا بالنار وإن النار لا يعذب بها إلا الله فإن وجدتموهما فاقتلوهما وفيه أيضًا عن ابن عباس أن النبي ﷺ قال لا تعذبوا بعذاب الله عز وجل.

وخرج الإمام أحمد رحمه الله وأبو داود والنسائي من حديث ابن مسعود قال كنا مع النبي ﷺ فمررنا بقرية نمل قد أحرقت فغضب النبي ﷺ وقال إنه لا ينبغي لبشر أن يعذب بعذاب الله عز وجل وقد حرق خالد جماعة في الردة.

وروي عن طائفة من الصحابة تحريق من عمل عمل قوم لوط وروي عن على أنه أشار على أبي بكر أن يقتله ثم يحرقه بالنار واستحسن ذلك إسحاق بن راهويه لئلا يكون تعذيبا بالنار.

وفي مسند الإمام أحمد أن عليا لما ضربه ابن ملجم قال افعلوا به كما أراد رسول الله ﷺ أن يفعل برجل أراد قتله قال اقتلوه ثم حرقوه وأكثر العلماء على كراهة التحريق بالنار حتى للهوام وقال إبراهيم النخعي تحريق العقرب بالنار مثله ونهت أم الدرداء عن تحريق البرغوث بالنار وقال أحمد لا يشوى السمك في النار وهو حي وقال الجراد أهون لأنه لا دم له وقد ثبت عن النبي ﷺ أنه نهى عن صبر البهائم وهو أن تحبس البهيمة ثم تضرب بالنبل ونحوه حتى تموت ففي الصحيحين عن أنس أن النبي ﷺ نهى أن تصبر البهائم وفيهما أيضًا عن ابن عمر أنه مر بقوم نصبوا دجاجة يرمونها فقال ابن عمر من فعل هذا إن رسول الله ﷺ لعن من فعل هذا.

وخرج مسلم من حديث ابن عباس عن النبي ﷺ أنه نهى أن يتخذ شيء فيه الروح غرضا والغرض هو الذي يرمي فيه بالسهام.

وفي مسند الإمام أحمد عن أبي هريرة أن النبي ﷺ نهى عن الرمية أن ترمي الدابة ثم تؤكل ولكن تذبح ثم يرموا إن شاءوا وفي هذا المعنى أحاديث كثيرة فلهذا أمر النبي ﷺ إحسان القتل والذبح وأمر أن تحد الشفرة وأن تراح الذبيحة يشير إلى أن الذبح بآلة حادة تريح الذبيحة بتعجيل زهوق نفسها.

وخرج الإمام أحمد وابن ماجه من حديث ابن عمر قال أمر رسول الله ﷺ بحد الشفار وأن توارى عن البهائم وقال إذا ذبح أحدكم فليجهز يعني فليسرع الذبح وقد ورد الأمر بالرفق بالذبيحة عند ذبحها.

وخرج ابن ماجه من حديث أبي سعيد الخدري قال مر رسول الله ﷺ برجل وهو يجر شاة بأذنها فقال رسول الله ﷺ دع أذنها وخذ بسالفتها والسالفة مقدم العنق.

وخرج الخلال والطبراني من حديث عكرمة عن ابن عباس قال مر رسول الله ﷺ برجل واضع رجله على صفحة شاة وهو يحد شفرته وهي تلحظ إليه ببصرها فقال أفلا قبل هذا تريد أن تميتها موتات وقد روي عن عكرمة مرسلًا خرجه عبدالرزاق وغيره وفيه زيادة هلا أعددت شفرتك قبل أن تضجعها وقال الإمام أحمد تقاد إلى الذبح قودا رفيقا وتواري السكين عنها ولا يظهر السكين إلا عند الذبح أمر رسول الله ﷺ بذلك أن تواري الشفار وقال ما أبهمت عليه البهائم فلم تبهم أنها تعرف ربها وتعرف أنها تموت وقال يروى عن ابن أسباط أنه قال إن البهائم جبلت على كل شيء إلا أنها تعرف ربها وتخاف الموت وقد ورد الأمر بقطع الأدواج عند الذبح كما خرجه أبو داود من حديث عكرمة عن ابن عباس وأبي هريرة عن النبي ﷺ أنه نهى عن شريطة الشيطان وهي التي تذبح وتقطع الجلد ولا تفري الأوداج وخرجه ابن حبان في صحيحه وعنده قال عكرمة كانوا يقطعون منها الشيء اليسير ثم يدعونها حتى تموت ولا يقطعون الودج فنهى عن ذلك وروي عبدالرزاق في كتابه عن محمد بن راشد عن الوضعين بن عطاء قال إن جزارا فتح بابًا على شاة ليذبحها فانفلتت منه حتى جاءت النبي ﷺ فأتبعها فأخذ يسحبها برجلها فقال لها النبي ﷺ اصبري لأمر الله وأنت يا جزار فسقها إلى الموت سوقا رفيقا وبإسناده عن ابن سيرين أن عمر رأى رجلًا يسحب شاة برجلها ليذبحها فقال له ويلك قدها إلى الموت قودا جميلا وروى محمد بن زياد أن عمر رأى قصابا يجر شاة فقال سقها إلى الموت سوقا جميلا فأخرج القصاب شفرة فقال ما أسوقها سوقا جميلا وأنا أريد أن أذبحها الساعة فقال سقها إلى الموت سوقا جميلا فأخرج القصاب شفرته فقال ما أسوقها سوقا جميلا وأنا أريد أن أذبحها فقال سقها سوقا جميلا. وفي مسند الإمام أحمد عن معاوية ابن قرة عن أبيه أن رجلًا قال للنبي ﷺ يا رسول الله إني لأذبح الشاة أنا أرحمها فقال النبي ﷺ والشاة إن رحمتها رحمك الله وقال مطرف بن عبدالله إن الله ليرحم برحمة العصفور وقال عوف البكالي إن رجلًا ذبح عجلا له بين يدي أمه فخبل فبينما هو تحت شجرة فيها وكر فيه فرخ فوقع الفرخ إلى الأرض فرحمه فأعاده في مكانه فرد الله عليه قوته وقد روي من غير وجه عن النبي ﷺ أنه نهى أن توله والدة عن ولدها وهو عام في بني آدم وغيرهم وفي سنن أبي داود أن النبي ﷺ سئل عن الفرع فقال هو حق وإن تتركوه حتى يكون بكرا ابن مخاض أو ابن لبون فتعطيه أرملة أو يحمل عليه في سبيل الله خير من أن تذبحه فيلصق لحمه بوبره وتكفي إناءك، وقوله ناقتك والمعنى أن ولد الناقة إذا ذبح وهو صغير عند ولادته لم ينتفع بلحمه وتضرر صاحبه بانقطاع لبن ناقته ويكفي إناه وهو المحلب الذي تحتلب فيه الناقة وتوله الناقة على ولدها بفقدها إياه.

===============

الحديث الثامن عشر

عن أبي ذر جندب بن جنادة وأبي عبدالرحمن معاذ بن جبل رضي الله عنهما عن رسول الله ﷺ قال اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن . رواه الترمذي وقال حديث حسن.

هذا الحديث خرجه الترمذي من رواية سفيان الثوري عن حبيب بن أبي ثابت عن ميمون بن أبي شبيب عن أبي ذر وخرجه أيضًا بهذا الإسناد عن ميمون عن معاذ.

وذكر عن شيخه محمود بن غيلان أنه قال حديث أبي ذر أصح فهذا الحديث قد اختلف في إسناده فقيل فيه عن حبيب عن ميمون أن النبي ﷺ وصى بذلك مرسلًا ورجح الدارقطني هذا المرسل وقد حسن الترمذي هذا الحديث وما وقع في بعض النسخ من تصحيحه فبعيد ولكن الحاكم خرجه وقال صحيح على شرط الشيخين وهو وهم من وجهين أحدهما أن ميمون بن أبي شبيب ويقال ابن شبيب لم يخرج له البخاري في صحيحه شيئًا ولا مسلم إلا في مقدمة كتابه عن المغيرة بن شعبة والثاني أن ميمون بن شبيب لم يصح سماعه من أحد من الصحابة قال الفلاس ليس من روايته سمعت ولم أخبر أن أحدًا يزعم أنه سمع في شيء من أصحاب النبي ﷺ وقال أبو حاتم الرازي روايته عن أبي ذر وعائشة غير متصلة وقال أبو داود لم يدرك عائشة ولم ير عليا وحينئذ فلم يدرك معاذا بطريق الأولي وروى البخاري وشيخه على بن المديني وأبي زرعة وأبي حاتم وغيرهم أن الحديث لا يتصل إلا بصحة اللقي وكلام أحمد يدل على ذلك ونص عليه الشافعي في الرسالة وهذا كله خلاف رأي مسلم رحمه الله وقد روي عن النبي ﷺ أنه وصى به الوصية معاذا وأبا ذر من وجوه أخر فخرج البزار من حديث أبي لهيعة عن أبي الزبير عن أبي الطفيل عن معاذ أن النبي ﷺ بعثه إلى قوم فقال يا رسول الله أوصني فقال أفش السلام وابذل الطعام واستحي من الله استحياء رجل ذي هيئة من أهلك وإذا أسأت فأحسن ولتحسن خلقك ما استطعت.

وخرج الطبراني والحاكم من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص أن معاذ ابن جبل أراد سفرا فقال يا رسول الله زدني قال استقم ولتحسن خلقك.

وخرج الإمام أحمد من حديث دراج عن أبي الهيثم عن أبي ذر أن رسول الله ﷺ قال له أوصيك بتقوى الله في سر أمرك وعلانيته وإذا أسأت فأحسن ولا تسألن أحدًا عن شيء وإن سقط سوطك ولا تقض أمانة ولا تقض بين اثنين.

وخرج أيضًا من حديث آخر عن أبي ذر قال قلت يا رسول الله علمني عملًا يقربني من الجنة ويباعدني من النار قال إذا عملت سيئة فاعمل حسنة فإنها عشر أمثالها قال قلت يا رسول الله أمن الحسنات لا إله إلا الله قال هي أحسن الحسنات.

وخرج ابن عبدالبر في التمهيد بإسناد فيه نظر عن أنس قال بعث النبي ﷺ معاذا إلى اليمن فقال يا معاذ اتق الله وخالق الناس بخلق حسن وإذا عملت سيئة فأتبعها حسنة فقال قلت يا رسول الله لا إله إلا الله من الحسنات قال هي من أكبر الحسنات وقد رويت وصية النبي ﷺ لمعاذ من حديث ابن عمر وغيره بسياق مطول من وجوه فيها ضعف ويدخل في هذا المعنى حديث أبي هريرة عن النبي ﷺ أنه سئل ما أكثر ما يدخل الناس الجنة قال تقوى الله وحسن اللقاء خرجه الإمام أحمد وابن ماجة والترمذي وصححه ابن حبان في صحيحه فهذه الوصية وصية عظيمة جامعة لحقوق الله وحقوق عباده فإن حق الله على عباده أن يتقوه حق تقاته والتقوى وصية الله للأولين والآخرين قال الله تعالى {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللَّهَ} وأصل التقوى أن يجعل العبد بينه وبين ما يخافه ويحذره وقاية تقيه منه فتقوى العبد لربه أن يجعل بينه وبين ما يخشاه من ربه من غضبه وسخطه وعقابه وقاية تقيه من ذلك وهو فعل طاعته واجتناب معاصيه وتارة تضاف التقوى إلى اسم الله عز وجل كقوله تعالى {وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِيَ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} المائدة وقال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} الحشر فإذا أضيفت التقوى إليه سبحانه فالمعنى اتقوا سخطه وغضبه وهو أعظم ما يتقي وعن ذلك ينشأ عقابه الدنيوي والأخروي قال تعالى {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} آل عمران وقال تعالى {هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ} المدثر فهو سبحانه أهل أن يخشى ويهاب ويجل ويعظم في صدور عبادة حتى يعبدوه ويطيعوه لما يستحقه من الإجلال والإكرام وصفات الكبرياء والعظمة وقوة البطش وشدة البأس وفي الترمذي عن أنس عن النبي ﷺ في هذه الآية {هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ} المدثر قال الله تعالى أنا أهل التقوى فمن اتقاني فلم يجعل معي إلها آخر فأنا أهل أن غفر له وتارة تضاف التقوى إلى عقاب الله وإلى مكانه كالنار أو إلى زمانه كيوم القيامة كما قال تعالى {وَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} آل عمران وقال تعالى {فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} البقرة وقال تعالى {وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} البقرة {وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً} البقرة ويدخل في التقوى الكاملة فعل الواجبات وترك المحرمات والشبهات وربما دخل فيها بعد ذلك فعل المندوبات وترك المكروهات وهي أعلى درجات التقوى قال الله تعالى {الم. ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ. الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ. والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} البقرة وقال تعالى {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} البقرة قال معاذ بن جبل ينادي يوم القيامة أين المتقون فيقومون في كنف من الرحمن لا يحتجب منهم ولا يستتر قالوا له من المتقون قال قوم اتقوا الشرك وعبادة الأوثان وأخلصوا لله بالعبادة وقال ابن عباس المتقون الذين يحذرون من الله عقوبته في ترك ما يعرفون من الهدي ويرجون رحمته في التصديق بما جاء به وقال الحسن المتقون اتقوا ما حرم الله عليهم وأدوا ما اقترض الله عليهم وقال عمر بن عبدالعزيز ليس تقوى الله بصيام النهار ولا بقيام الليل والتخليط فيما بين ذلك ولكن تقوى الله ترك ما حرم الله وأداء ما افترض الله فمن رزق بعد ذلك خيرًا فهو خير إلى خير وقال طلق بن حبيب التقوى أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله وأن تترك معصية الله على نور من الله تخاف عقاب الله وعن أبي الدرداء قال تمام التقوى أن يتقي الله العبد حتى يتقيه من مثقال ذرة وحتى يترك بعض ما يرى أنه حلال خشية أن يكون حرامًا يكون حجابا بينه وبين الحرام فإن الله قد بين للعباد الذي يصيرهم إليه فقال فمن يعمل مثقال ذرة خيرًا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرًا يره الزلزلة فلا تحقرن شيئًا من الخير أن تفعله ولا شيئًا من الشر أن تتقيه وقال الحسن ما زالت التقوى بالمتقين حتى تركوا كثيرًا من الحلال مخافة الحرام وقال الثوري إنما سموا متقين لأنهم اتقوا ما لا يتقي وقال موسى بن أعين المتقون تنزهوا عن أشياء من الحلال مخافة أن يقعوا في الحرام فسماهم الله متقين وقد سبق حديث لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرا مما به بأس، وحديث من اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه وقال ميمون بن مهران المتقي أشد محاسبة لنفسه من الشريك الشحيح لشريكه.

وقال ابن مسعود في قوله تعالى {اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} قال أن يطاع فلا يعصي ويذكر فلا ينسى وأن يشكر فلا يكفر.

وخرجه الحاكم مرفوعًا والموقوف أصح وشكره يدخل فيه جميع فعل الطاعات ومعنى ذكره فلا ينسي ذكر العبد بقلبه لأوامر الله في حركاته وسكناته وكلماته فيمتثلها ولنواهيه في ذلك كله فيجتنبها وقد يغلب استعمال التقوى على اجتناب المحرمات كما قال أبو هريرة وسئل عن التقوى فقال هل أخذت طريقا ذا شوك قال نعم قال فكيف صنعت قال إذا رأيت الشوك عزلت عنه أو جاوزته أو قصرت عنه قال ذاك التقوى وأخذ هذا المعنى ابن المعتمر فقال:

خل الذنوب صغيرها *** وكبيرها فهو التقي

واصنع كماش فوق أر *** ض الشوك يحذر ما يرى

لا تحقرن صغيرة *** إن الجبال من الحصى

وأصل التقوى أن يعلم العبد ما يتقثم يتقي قال عون بن عبدالله تمام التقوى أن تبتغي علم مالم تعلم منها إلى ما علمت منها وذكر معروف الكرخي عن بكر بن خنيس قال كيف يكون متقيا من لا يدري ما يتقي ثم قال معروف الكرخي إذا كنت لا تحسن تتقي أكلت الربا وإذا كنت لا تحسن تتقي لقيتك امرأة ولم تغض بصرك وإذا كنت لا تحسن تتقي وضعت سيفك على عاتقك وقد قال النبي ﷺ لمحمد بن مسلمة إذا رأيت أمتي قد اختلفت فاعمد إلى سيفك فاضرب به أحدًا ثم قال معروف ومجلسي هذا لعله كان ينبغي لنا أن نتقيه ثم قال مجيئكم معي من المسجد إلى ها هنا كان ينبغي لنا أن نتقيه أليس جاء في الحديث أن فتنة المتبوع مذلة التابع يعني مشى الناس خلف الرجل وفي الجملة فالتقوى هي وصية الله لجميع خلقه ووصية رسول الله ﷺ لأمته، وكان ﷺ إذا بعث أميرا على سرية أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله وبمن معه من المسلمين خيرًا ولما خطب ﷺ في حجة الوداع يوم النحر وصى الناس بتقوى الله وبالسمع والطاعة لأئمتهم ولما وعظ الناس قالوا له كأنها موعظة مودع فأوصنا قال أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وفي حديث أبي ذر الطويل الذي خرجه ابن حبان وغيره قلت يا رسول الله أوصني قال أوصيك بتقوى الله فإنه رأس الأمر كله.

وخرج الإمام أحمد من حديث أبي سعيد الخدري قال قلت يا رسول الله أوصني قال أوصيك بتقوى الله فإنه رأس كل شيء وعليك بالجهاد فإنه رهبانية الإسلام.

وخرجه غيره ولفظه قال عليك بتقوى الله فإنه جماع كل خير.

وفي الترمذي عن يزيد بن سلمة أنه سأل النبي ﷺ قال يا رسول الله إني سمعت منك حديثًا كثيرًا فأخاف أن ينسيني أوله آخره فحدثني بكلمة تكون جماعا قال اتق الله فيما تعلم.

ولم يزل السلف الصالح يتواصون بها، وكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يقول في خطبه: أما بعد فإني أوصيكم بتقوى الله وأن تثنوا عليه بما هو أهله وأن تخلطوا الرغبة بالرهبة وتجمعوا الإلحاف بالمسألة فإن الله عز وجل أثني على زكريا وأهل بيته فقال {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} الأنبياء.

ولما حضرته الوفاة وعهد إلى عمر دعاه فوصاه بوصيته وأول ما قال له اتق الله يا عمر وكتب عمر إلى ابنه عبدالله أما بعد فإني أوصيك بتقوى الله عز وجل فإنه من اتقاه وقاه ومن أقرضه جزاه ومن شكره زاده واجعل التقوى نصب عينيك وجلاء قلبك.

واستعمل علي بن أبي طالب رجلًا على سرية فقال له أوصيك بتقوى الله عز وجل الذي لا بد لك من لقاه ولا منتهى لك دونه وهو يملك الدنيا والآخرة.

وكتب عمر بن عبدالعزيز إلى رجل أوصيك بتقوى الله عز وجل التي لا يقبل غيرها ولا يرحم إلا أهلها ولا يثيب إلا عليها فإن الواعظين بها كثير والعاملين بها قليل جعلنا الله وإياك من المتقين ولما ولى خطب فحمد الله وأثنى عليه وقال أوصيكم بتقوى الله عز وجل فإن تقوى الله عز وجل خلف من كل شيء وليس من تقوى الله خلف.

وقال رجل ليونس بن عبيد أوصني فقال أوصيك بتقوى الله والإحسان فـ {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ} وقال له رجل يريد الحج أوصني فقال له اتق الله فمن اتقى الله فلا وحشة عليه وقيل لرجل من التابعين عند موته أوصنا فقال أوصيكم بخاتمة سورة النحل {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ} النحل.

وكتب رجل من السلف إلى أخ له أوصيك بتقوى الله فإنها من أكرم ما أسررت وأزين ما أظهرت وأفضل ما ادخرت أعاننا الله وإياك عليها وأوجب لنا ولك ثوابها وكتب رجل منهم إلى أخ له أوصيك وأنفسنا بالتقوى فإنها خير زاد الآخرة والأولى واجعلها إلى كل خير سبيلك ومن كل شر مهربك فقد تكفل الله عز وجل لأهلها بالنجاة مما يحذرون والرزق من حيث لا يحتسبون.

وقال شعبة كنت إذا أردت الخروج قلت للحكم ألك حاجة فقال أوصيك بما أوصي به النبي ﷺ معاذ بن جبل اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن وقد ثبت عن النبي ﷺ أنه كان يقول في دعائه اللهم إني أسألك الهدي والتقى والعفة والغنى وقال أبو ذر قرأ رسول الله ﷺ هذه الآية {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا} ثم قال يا أبا ذر لو أن الناس كلهم أخذوا بها لكفتهم.

فقوله ﷺ اتق الله حيثما كنت مراده في السر والعلانية حيث يراه الناس وحيث لا يرونه وقد ذكرنا من حديث أبي ذر أن النبي ﷺ قال له أوصيك بتقوى الله فى سر أمرك وعلانيته، وكان النبي ﷺ يقول في دعائه أسألك خشيتك في الغيب والشهادة وخشية الله في الغيب والشهادة هي من المنجيات.

وقد سبق من حديث أبي الطفيل عن معاذ أن النبي ﷺ قال له استح من الله استحياء رجل ذي هيبة من أهلك وهذا هو السبب الموجب لخشية الله في السر فإن من علم أن الله يراه حيث كان وأنه مطلع على باطنه وظاهره وسره وعلانيته واستحضر ذلك في خلواته أوجب له ذلك ترك المعاصي في السر وإلى هذا المعنى الإشارة في القرآن بقوله تعالى {وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} النساء.

كان بعض السلف يقول لأصحابه زهدنا الله وإياكم في الحرام زهد من قدر عليه في الخلوة فعلم أن الله يراه فتركه من خشيته أو كما قال.

وقال الشافعي أعز الأشياء ثلاثة الجود من قلة والورع في خلوة وكلمة الحق عند من يرجى أو يخاف وكتب ابن السماك الواعظ إلى أخ له أما بعد أوصيك بتقوى الله الذي هو نجيك في سريرتك ورقيبك في علانيتك فاجعل الله من بالك على كل حال في ليلك ونهارك وخف الله بقدر قربه منك وقدرته عليك واعلم أنك بعينه ليس تخرج من سلطانه إلى سلطان غيره ولا من ملكه إلى ملك غيره فليعظم منه حذرك وليكثر منه وجلك والسلام.

قال أبو الجلد أوحى الله تعالى إلى نبي من الأنبياء قل لقومك ما بالكم تسترون الذنوب من خلقي وتظهرونها لي إن كنتم ترون أني لا أراكم فأنتم مشركون بي وإن كنتم ترون أني أراكم فلم تجعلوني أهون الناظرين إليكم.

وكان وهب بن الورد يقول خف الله على قدر قدرته عليك واستحي منه على قدر قربه منك وقال له رجل عظني فقال له اتق الله أن يكون أهون الناظرين إليك.

وكان بعض السلف يقول أتراك ترحم من لم يقر عينيه بمعصيتك حتى علم أن لا عين تراه غيرك.

وقال بعضهم ابن آدم إن كنت حيث ركبت المعصية لم تصف لك من عيني ناظرة إليك فلما خلوت بالله وحده صفت لك معصيته ولم تستحي منه حياءك من بعض خلقه ما أنت إلا أحد رجلين إن كنت ظننت أنه لا يراك فقد كفرت وإن كنت علمت أنه يراك فلم يمنعك منه ما منعك من أضعف خلقه لقد اجترأت دخل بعضهم غيضة ذات شجر فقال لو خلوت ههنا بمعصية من كان يراني فسمع هاتفا بصوت ملأ الغيضة ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير.

راود بعضهم أعرابية وقال لها ما يرانا إلا الكواكب قالت أين مكوكبها.

رأى محمد بن المنكدر رجلًا واقفًا مع امرأة يكلمها فقال إن الله يراكما سترنا الله وإياكما.

وقال الحارث المحاسبي المراقبة علم القلب بقرب الرب.

وسئل الجنيد بم يستعان على غض البصر قال بعلمك أن نظر الله إليك أسبق إلى ما تنظره، وكان الإمام أحمد ينشد:

إذا ما خلوت الدهر يومًا فلا تقل *** خلوت ولكن قل على رقيب

ولا تحسبن الله يغفل ساعة *** ولا أن ما يخفى عليه يغيب

وكان ابن السماك ينشد:

يا مدمن الذنب أما تستحي *** والله في الخلوة ثانيكا

غرك من ربك إمهاله *** وستره طول مساويكا

والمقصود أن النبي ﷺ لما وصى معاذ بتقوى الله سرا وعلانية أرشده إلى ما يعينه على ذلك وهو أن يستحيى من الله كما يستحي من رجل ذي هيبة من قومه ومعنى ذلك أن يستشعر دائما بقلبه قرب الله منه واطلاعه عليه فيستحيى من نظره إليه وقد امتثل معاذ ما وصاه به النبي ﷺ، وكان عمر قد بعثه على عمل فقدم وليس معه شيء فعاتبته امرأته فقال كان معي ضاغط يعني من يضيق على ويمنعني من أخذ شيء وإنما أراد معاذ ربه عز وجل فظنت امرأته أن عمر بعث معه رقيبا فقامت تشكوه إلى الناس ومن صار له هذا المقام حالًا دائما أو غالبًا فهو من المحسنين الذين يعبدون الله كأنهم يرونه ومن المحسنين الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم وفي الجملة فتقوى الله في السر هو علامة كمال الإيمان وله تأثير عظيم في إلقاء الله لصاحبه الثناء في قلوب المؤمنين وفي الحديث ما أسر عبد سريرة إلا ألبسه الله رداءها علانية إن خيرًا فخير وإن شرًا فشر روي هذا مرفوعًا وروي عن ابن مسعود من قوله.

وقال أبو الدرداء ليتق أحدكم أن تلعنه قلوب المؤمنين وهو لا يشعر يخلو بمعاصي الله فيلقى الله له البغض في قلوب المؤمنين وقال سليمان التيمي إن الرجل ليصيب الذنب في السر فيصبح وعليه مذلته وقال غيره إن العبد ليذنب الذنب فيما بينه وبين الله ثم يجيء إلى إخوانه فيرون أثر ذلك عليه وهذا من أعظم الأدلة على وجود الإله الحق المجازي بذرات الأعمال في الدنيا قبل الآخرة ولا يضيع عنده عمل عامل ولا ينفع من قدرته حجاب ولا استتار فالسعيد من أصلح ما بينه وبين الله فإنه من أصلح ما بينه وبين الله أصلح الله ما بينه وبين الخلق ومن التمس محامد الناس بسخط الله عاد حامده من الناس ذاما له قال أبو سليمان إن الخاسر من أبدى للناس صالح عمله وبارز بالقبيح من هو أقرب إليه من حبل الوريد ومن أعجب ما روي في هذا ما روي عن أبي جعفر السائح قال كان حبيب أبو محمد تاجرا يكري الدراهم فمر ذات يوم بصبيان فإذا هم يلعبون فقال بعضهم لبعض قد جاء آكل الربا فنكس رأسه وقال يا رب أفشيت سري إلى الصبيان فرجع فجمع ماله كله وقال يا رب إني أسير وإني قد اشتريت نفسي منك بهذا المال فاعتقني فلما أصبح تصدق بالمال كله وأخذ في العبادة ثم مر ذات يوم بأولئك الصبيان فلما رأوه قال بعضهم لبعض اسكتوا فقد جاء حبيب العابد فبكى وقال يا رب أنت تذم مرة وتحمد مرة وكله من عندك، وقوله ﷺ واتبع السيئة الحسنة تمحها لما كان العبد مأمورًا بالتقوى في السر والعلانية مع أنه لا بد أن يقع منه أحيانا تفريط في التقوى إما بترك بعض المأمورات أو بارتكاب بعض المحظورات فأمره بأن يفعل ما يمحو به هذه السيئة وهو أن يتبعها بالحسنة قال الله عز وجل {وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} هود.

وفي الصحيحين عن ابن مسعود أن رجلًا أصاب من امرأة قبلة ثم أتى النبي فذكر ذلك له فسكت النبي ﷺ حتى نزلت هذه الآية فدعاه فقرأها عليه فقال رجل هذا له خاصة قال بل للناس عامة وقد وصف الله المتقين في كتابه بمثل ما وصى به النبي ﷺ في هذه الوصية في قوله عز وجل {وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ. الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ. وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ. أُوْلَئِكَ جَزَآؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} آل عمران فوصف المتقين بمعاملة الخلق بالإحسان إليهم بالإنفاق وكظم الغيظ والعفو عنهم فجمع بين وصفهم ببذل الندي واحتمال الأذى وهذا هو غاية حسن الخلق الذي وصى به النبي ﷺ لمعاذ ثم وصفهم بأنهم إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ولم يصروا عليها فدل على أن المتقين قد يقع منهم أحيانا كبائر وهي الفواحش وصغائر وهي ظلم النفس لكنهم لا يصرون عليها بل يذكرون الله عقب وقوعها ويستغفرونه ويتوبون إليه منها والتوبة هي ترك الإصرار ومعنى قوله ذكروا الله ذكروا عظمته وشدة بطشه وانتقامه وما يوعد به على المعصية من العقاب فيوجب ذلك لهم الرجوع في الحال والاستغفار وترك الإصرار وقال الله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} الأعراف.

وفي الصحيح انفرد مسلم برواية أخرى.

وفي الصحيحين عن النبي ﷺ قال إذا أذنب عبد ذنبا فقال رب إني عملت ذنبا فاغفر لي فقال الله علم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب قد غفرت لعبدي ثم إذا أذنب ذنبا آخر إلى أن قال في الرابعة فليعمل ما شاء يعني ما دام على هذه الحال كلما أذنب ذنبا استغفر منه.

وفي الترمذي من حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال ما أصر من استغفر ولو عاد في اليوم سبعين مرة.

وخرج الحاكم من حديث عقبة بن عامر أن رجلًا أتى النبي ﷺ قال يا رسول الله أحدنا يذنب قال يكتب عليه قال ثم يستغفر منه قال يغفر له ويثاب عليه قال فيعود فيذنب قال يكتب عليه قال ثم يستغفر منه ويتوب قال يغفر له ويثاب عليه ولا يمل الله حتى تملوا.

وخرج الطبراني بإسناد ضعيف عن عائشة رضي الله عنها قالت جاء حبيب بن الحارث إلى النبي ﷺ فقال يا رسول الله إني رجل مقراف للذنوب قال فتب إلى الله عز وجل قال أتوب ثم أعود قال فكلما أذنبت فتب قال يا رسول الله إذا تكثر ذنوبي قال فعفو الله أكثر من ذنوبك يا حبيب بن الحارث.

وخرجه بمعناه من حديث أنس مرفوعًا بإسناد ضعيف وبإسناده عن عبدالله بن عمرو قال من ذكر خطيئة عملها فوجل قلبه منها واستغفر الله لم يحسبها بشيء حتى يمحها وروي ابن أبي الدنيا بإسناده عن على قال خياركم كل مفتن تواب قيل فإذا عاد قال يستغفر الله ويتوب قيل فإن عاد قال يستغفر الله ويتوب قيل فإن عاد قال يستغفر الله ويتوب قيل حتى متى قال حتى يكون الشيطان هو المحسور.

وخرج ابن ماجه من حديث ابن مسعود مرفوعًا التائب من الذنب كمن لا ذنب له وقيل للحسن ألا يستحيى أحدنا من ربه يستغفر من ذنوبه ثم يعود ثم يستغفر ثم يعود فقال ود الشيطان لو ظفر منكم بهذا فلا تملوا من الاستغفار وروي عنه أنه قال ما أرى هذا إلا من أخلاق المؤمنين يعني أن المؤمن كلما أذنب تاب وقد روي المؤمن مفتن تواب وروي من حديث جابر بإسناد ضعيف مرفوعًا المؤمن واه راقع فسعيد من هلك على دقعة وقال عمر بن عبدالعزيز في خطبته من أحسن منكم فليحمد الله ومن أساء فليستغفر الله وليتب فإنه لا بد من أقوام من أن يعملوا أعمالًا وظفها الله في رقابهم وكتبها عليهم وفي رواية أخرى أنه قال أيها الناس من ألم بذنب فليستغفر الله وليتب فإن عاد فليستغفر الله وليتب فإن عاد فليستغفر وليتب فإنما هي خطايا مطوقة في أعناق الرجال وإن الهلاك في الإصرار عليها ومعنى هذا أن العبد لا بد أن يفعل ما قدر عليه من الذنوب كما قال النبي ﷺ كتب على ابن آدم حظه من الزنا فهو مدرك ذلك لا محالة ولكن الله جعل للعبد مخرجا مما وقع فيه من الذنوب ومحاه بالتوبة والاستغفار فإن فعل فقد تخلص من شر الذنوب وإن أصر على الذنب هلك.

وفي المسند من حديث عبدالله بن عمرو عن النبي ﷺ قال ارحموا ترحموا واغفروا يغفر لكم ويل لأقماع القول ويل للمصرين الذين يصرون على ما فعلوا وهم يعلمون وفسر أقماع القول بمن كانت أذناه كالقمع لما سمع من الحكمة والموعظة الحسنة فإذا دخل شيء من ذلك في أذنه خرج في الأخرى ولم ينتفع بشيء مما سمع، وقوله ﷺ واتبع السيئة الحسنة قد يراد بالحسنة التوبة من تلك السيئة وقد ورد ذلك صريحا في حديث مرسل خرجه ابن أبي الدنيا من مراسيل محمد بن جبير أن النبي ﷺ لما بعث معاذ إلى اليمن قال يا معاذ اتق الله ما استطعت واعمل بقوتك لله عز وجل ما أطقت واذكر الله عز وجل عند كل شجرة وحجر وإن أحدثت ذنبا فأحدث عنده توبة إن سرا فسر وإن علانية فعلانية وخرجه أبو نعيم بمعناه من وجه آخر ضعيف عن معاذ.

وقال قتادة قال سلمان إذا أسأت سيئة في سريرة فأحسن حسنة في سريرة وإذا أسأت سيئة في علانية فأحسن حسنة في علانية لكي تكون هذه بهذه وهذا يحتمل أنه أراد بالحسنة التوبة أو أعم منها وقد أخبر الله في كتابه أن من تاب من ذنبه فإنه يغفر له ذنبه أو يثاب عليه في مواضع كثيرة كقوله تعالى {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} النساء، وقوله {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُواْ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} النمل، وقوله {إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} الفرقان، وقوله {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} طه، وقوله {إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئًا} مريم، وقوله {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ} آل عمران.

قال عبدالرازق أخبرنا جعفر بن سليمان عن ثابت عن أنس رضي الله عنه قال بلغني أن إبليس حين نزلت هذه الآية {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ} آل عمران الآية بكي.

ويروي عن ابن مسعود قال هذه الآية خير لأهل الذنوب من الدنيا وما فيها.

وقال ابن سيرين أعطانا الله هذه الآية مكان ما جعل لبني إسرائيل في كفارات ذنوبهم.

وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية قال رجل يا رسول الله لو كانت كفاراتنا ككفارات بني إسرائيل فقال النبي ﷺ اللهم لا نبغيها ثلاثًا ما أعطاكم الله خير مما أعطى بني إسرائيل كانت بنو إسرائيل إذا أصاب أحدهم الخطيئة وجدها مكتوبة على بابه وكفارتها فإن كفرها كانت له خزيا في الدنيا وإن لم يكفرها كانت خزيا في الآخرة فما أعطاكم الله خير مما أعطى بني إسرائيل قال {وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَّحِيمًا} النساء.

وقال ابن عباس في قوله تعالى {مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} الحج قال هو سعة الإسلام وما جعل لأمة محمد من التوبة والكفارة وظاهر هذه النصوص يدل على أن من تاب إلى الله توبة نصوحا واجتمعت شروط التوبة في حقة فإنه يقطع بقبول الله توبته كما يقطع بقبول إسلام الكافر إذا أسلم إسلاما صحيحا وهذا قول الجمهور وكلام ابن عبدالبر يدل على أنه إجماع ومن الناس من قال لا يقطع بقبول التوبة بل يرجى وصاحبها تحت المشيئة وإن تاب واستدلوا بقوله {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} فجعل الذنوب كلها تحت مشيئته وربما استدل بمثل قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} التحريم وبقوله {فَأَمَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَن يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ} القصص، وقوله {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} النور، وقوله {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} التوبة والظاهر أن هذا في حق التائب لأن الاعتراف يقتضي الندم وفي حديث عائشة عن النبي ﷺ قال إن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب تاب الله عليه والصحيح قول الأكثرين وهذه الآيات لا تدل على عدم القطع فإن الكريم إذا أطمع لم يقطع من رجائه المطمع ومن ههنا قال ابن عباس إن عسى من الله واجب نقله عنه على بن طلحة وقد ورد جزاء الإيمان والعمل الصالح بلفظ عسى أيضًا ولم يدل ذلك على أنه مقطوع به كما في قوله إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين التوبة وأما قوله {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} النساء فإن التائب ممن شاء أن يغفر له كما أخبر بذلك في مواضع كثيرة من كتابه وقد يراد بالحسنة في قول النبي ﷺ أتبع السيئة الحسنة ما هو أعم من التوبة كما في قوله تعالى {وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} هود وقد روي من حديث معاذ أن الرجل الذي أنزلت بسببه هذه الآية أمره النبي ﷺ أن يتوضأ ويصلي.

وخرج الإمام أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه من حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال ما من رجل يذنب ذنبا ثم يقوم فيتطهر ثم يصلي ثم يستغفر الله إلا غفر الله له ثم قرأ هذه الآية {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ} آل عمران.

وفي الصحيحين عن عثمان أنه توضأ ثم قال رأيت رسول الله ﷺ توضأ نحو وضوئي هذا ثم قال من توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غفر له ما تقدم من ذنبه.

وفي مسند الإمام أحمد عن أبي الدرداء قال سمعت رسول الله ﷺ يقول من توضأ فأحسن الوضوء ثم قام فصلى ركعتين أو أربعا يحسن فيهما الركوع والخشوع ثم استغفر الله عز وجل غفر له.

وفي الصحيحين عن أنس قال كنت عند النبي ﷺ فجاء رجل فقال يا رسول الله إني أصبت حدا فأقمه علي قال ولم يسأله عنه فحضرت الصلاة فصلي مع النبي ﷺ فلما قضي النبي ﷺ قام إليه الرجل فقال يا رسول الله إني أصبت حدا فأقم في كتاب الله قال أليس قد صليت معنا قال نعم قال فإن الله قد غفر لك ذنبك أو قال حدك وخرجه مسلم بمعناه من حديث أبي أمامة وخرجه ابن جرير الطبري من وجه آخر عن أبي أمامة وفي حديثه قال فإنك من خطيئتك كما ولدتك أمك فلا تعد فأنزل الله وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات هود.

وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال أرأيتم لو أن نهرا بباب أحدكم يغسل فيه كل يوم خمس مرات هل يبقى من درنه شيء قالوا لا يبقى من درنه شيء قال فذلك مثل الصلوات الخمس يمحوا الله بهن الخطايا وفي صحيح مسلم عن عثمان عن النبي ﷺ قال من توضأ فأحسن الوضوء خرجت خطاياه من جسده حتى تخرج من تحت أظفاره وفيه عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات قالوا بلى يا رسول الله قال إسباغ الوضوء على المكاره وكثرة الخطا إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط فذلكم الرباط.

وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه ومن قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه ومن قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه وفيهما عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه وفي صحيح مسلم عن عمرو بن العاص عن النبي ﷺ قال إن الإسلام يهدم ما كان قبله وإن الهجرة تهدم ما كان قبلها وإن الحج يهدم ما كان قبله وفيه من حديث أبي قتادة عن النبي ﷺ قال في صوم عاشوراء أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله وقال في صوم يوم عرفة أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والتي بعده.

وخرج الإمام أحمد من حديث عقبة بن عامر عن النبي ﷺ قال مثل الذي يعمل السيئات ثم يعمل الحسنات كمثل رجل كانت عليه درع ضيقة قد خنقته ثم عمل حسنة فانفكت حلقة ثم عمل حسنة أخرى فانفكت أخرى حتى يخرج إلى الأرض ومما يكفر الخطايا ذكر الله عز وجل وقد ذكرنا فيما تقدم أن النبي ﷺ سئل عن قول لا إله إلا الله أمن الحسنات قال هي من أحسن الحسنات.

وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال من قال سبحان الله وبحمده في كل يوم مائة مرة حطت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر وفيهما عنه عن النبي ﷺ قال من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيى ويميت وهو على كل شيء قدير في يوم مائة مرة كانت له عدل عشر رقاب وكتبت له مائة حسنة ومحيت عنه مائة سيئة وكانت له حرزا من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا أحد عمل أفضل من ذلك.

وفي المسند وكتاب ابن ماجه عن أم هانيء عن النبي ﷺ قال لا إله إلا الله لا تترك ذنبا ولا يسبقها عمل.

وخرج الترمذي عن أنس عن النبي ﷺ أنه مر بشجرة يابسة الورق فضربها بعصاة فتناثر الورق فقال إن الحمد لله وسبحان الله ولا إله إلا الله والله أكبر لتساقط من ذنوب العبد كما يتساقط ورق هذه الشجرة وخرجه الإمام أحمد بإسناد صحيح عن أنس أن رسول الله ﷺ قال إن سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر تنفض الخطايا كما تنفض الشجرة ورقها والأحاديث في هذا كثيرة جدًا ويطول الكتاب بذكرها وسئل الحسن عن رجل لا يتحاشى عن معصية إلا أن لسانه لا يفتر عن ذكر الله قال إن ذلك لعون حسن.

وسئل الإمام أحمد عن رجل اكتسب مالًا من شبهة أصلاته وتسبيحه يحط عنه شيئًا من ذلك فقال إن صلى وسبح يريد به ذلك فأرجو قال الله تعالى {خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} التوبة.

وقال مالك بن دينار البكاء على الخطيئة يحط الخطايا كما يحط الريح الورق اليابس.

وقال عطاء من جلس مجلسًا من مجالس الذكر كفر به عشرة مجالس من مجالس الباطل وقال شويش العدوي، وكان من قدماء التابعين إن صاحب اليمين أمير أو قال أمين على صاحب الشمال فإذا عمل ابن آدم سيئة فأراد صاحب الشمال أن يكتبها قال له صاحب اليمين لا تعجل لعله يعمل حسنة فإن عمل حسنة ألقى واحدة وكتبت له تسع حسنات فيقول الشيطان يا ويله من يدرك تضعيف ابن آدم.

وخرج الطبراني بإسناد فيه نظر عن أبي مالك الأشعري عن النبي الله ﷺ إذا نام ابن آدم قال الملك للشيطان أعطني صحيفتك فيعطيه إياها فما وجد في صحيفته من حسنة محى بها عشر سيئات من صحيفة الشيطان وكتبهن حسنات فإذا أراد أن ينام أحدكم فليكبر ثلاثًا وثلاثين تكبيرة ويحمد أربعا وثلاثين تحميدة ويسبح ثلاثًا وثلاثين تسبيحة فتلك مائة وهذا غريب منكر وروى وكيع حدثنا الأعمش عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص قال قال عبدالله يعني ابن مسعود وددت أني صولحت على أن أعمل كل يوم تسع خطيئات وحسنة وهذا إشارة منه إلى أن الحسنة يمحي بها التسع الخطيئات ويفضل له ضعف واحد من ثواب الحسنة فيكتفي به والله أعلم.

وقد اختلف الناس في مسئلتين إحداهما هل تكفر الأعمال الصالحة الكبائر والصغائر أم لا تكفر سوى الصغائر فمنهم من قال لا تكفر سوى الصغائر وقد روي هذا عن عطاء وغيره من السلف في الوضوء أنه يكفر الصغائر وقال سلمان الفارسي في الوضوء إنه يكفر الجراحات الصغار والمشي إلى المسجد يكفر أكبر من ذلك والصلاة تكفر أكبر من ذلك خرجه محمد بن نصر المرزوي وأما الكبائر فلابد لها من التوبة لأن الله أمر العباد بالتوبة وجعل من لم يتب ظعالمًا واتفقت الأمة على أن التوبة فرض والفرائض لا تؤدي إلا بنية وقصد ولو كانت الكبائر تقع مكفرة بالوضوء والصلاة وأداء بقية أركان الإسلام لم يحتج إلى التوبة وهذا باطل بالإجماع وأيضا فلو كفرت الكبائر بفعل الفرائض لم يبق لأحد ذنب يدخل به النار إذا أتى بالفرائض وهذا يشبه قول المرجئة وهو باطل هذا ما ذكره ابن عبدالبر في كتابه التمهيد وحكي إجماع المسلمين على ذلك واستدل عليه بأحاديث منها قوله ﷺ الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر وهو مخرج في الصحيحين من حديث أبي هريرة وهذا يدل على أن الكبائر لا تكفرها هذه الفرائض وقد حكى ابن عطية في تفسيره في معنى هذا الحديث قولين أحدهما عن جمهور أهل السنة أن اجتناب الكبائر شرط لتكفير هذه الفرائض للصغائر فإن لم يجتنب لم تكفر هذه الفرائض شيئًا بالكلية والثاني أنها تكفر الصغائر مطلقا ولا تكفر الكبائر إن وجدت لكن يشترط التوبة من الصغائر وعدم الإصرار عليها ورجح هذا القول وحكاه عن الحذاق، وقوله بشرط التوبة من الصغائر وعدم الإصرار عليها مراده أنه إذا أصر عليها صارت كبيرة فلم تكفرها الأعمال والقول الأول الذي حكاه غريب مع أنه إذا أصر عليها وقد حكي عن أبي بكر عبدالعزيز بن جعفر من أصحابنا مثله وفي صحيح مسلم عن عثمان عن النبي ﷺ قال ما من امريء مسلم تحضره صلاة مكتوبة فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب مالم يؤت كبيرة وذلك الدهر كله.

وفي مسند الإمام أحمد عن سلمان عن النبي ﷺ قال لا يتطهر الرجل يعني يوم الجمعة فيحسن طهوره ثم يأتي الجمعة فينصت حتى يقضي الإمام صلاته إلا كان كفارة ما بينه وبين الجمعة المقبلة ما أجتنبت الكبائر المقتلة.

وخرج النسائي وابن حبان والحاكم من حديث أبي سعيد وأبي هريرة عن النبي ﷺ قال والذي نفسي بيده ما من عبد يصلي الصلوات الخمس ويصوم رمضان ويخرج الزكاة ويجتنب الكبائر السبع إلا فتحت له أبواب الجنة ثم قيل له أدخل بسلام.

وخرج الإمام أحمد والنسائي من حديث أبي أيوب عن النبي ﷺ معناه أيضًا.

وخرج الحاكم معناه من حديث عبدالله بن عمر عن أبيه عن النبي ﷺ ويروى من حديث ابن عمر مرفوعًا يقول الله عز وجل ابن آدم اذكرني من أول النهار ساعة ومن آخر النهار ساعة أغفر لك ما بين ذلك إلا الكبائر أو تتوب منها.

وقال ابن مسعود الصلوات الخمس كفارات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر وقال سلمان حافظوا على الصلوات الخمس فإنهن كفارات لهذه الجوارح مالم تصب المقتلة.

وقال ابن عمر لرجل أتخاف النار أن تدخلها وتحب الجنة أن تدخلها قال نعم قال بر أمك فوالله لئن ألنت لها الكلام وأطعمتها الطعام لتدخلن الجنة ما اجتنبت الكبائر وقال قتادة إنما وعد الله المغفرة لمن اجتنب الكبائر وذكر لنا أن رسول الله ﷺ قال اجتنبوا الكبائر وسددوا وأبشروا وذهب قوم من أهل الحديث وغيرهم إلى أن هذه الأعمال تكفر الكبائر ومنهم ابن حزم الظاهري وإياه عني ابن عبدالبر في كتاب التمهيد بالرد عليه وقال قد كنت أرغب بنفسي عن الكلام في هذا الباب لولا قول ذلك القائل وخشيت أن يغتر به جاهل فينهمك في الموبقات اتكالا على أنها تكفرها الصلوات دون الندم والاستغفار والتوبة والله أسأله العصمة والتوفيق قلت وقد وقع مثل هذا في كلام طائفة من أهل الحديث في الوضوء ونحوه ووقع مثله في كلام ابن المنذر في قيام ليلة القدر قال يرجى لمن قامها أن يغفر له جميع ذنوبه كبيرها وصغيرها فإن كان مرادهم أن من أتى بفرائض الإسلام وهو مصر على الكبائر تغفر له الكبائر قطعا فهذا باطل قطعا يعلم بالضرورة من الدين بطلانه وقد سبق قوله ﷺ من أساء في الإسلام أخذ بالأول والآخر يعني بعمله في الجاهلية والإسلام وهذا أظهر من أن يحتاج إلى بيان وإن أراد هذا القائل أن من ترك الإصرار على الكبائر وحافظ على الفرائض من غير توبة ولا ندم على ما سلف منه كفرت ذنوبه كلها بذلك واستدل بظاهر قوله تعالى {إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيمًا} النساء وقال السيئات تشمل الكبائر والصغائر وكما أن الصغائر تكفر باجتناب الكبائر من غير قصد ولا نية فكذلك الكبائر وقد يستدل لذلك بأن الله وعد المؤمنين والمتقين بالمغفرة وتكفير السيئات وهذا مذكور في غير موضع من القرآن وقد صار هذا من المتقين فإنه فعل الفرائض واجتنب الكبائر واجتناب الكبائر لا يحتاج إلى نية وقصد فهذا القول يمكن أن يقال في الجملة والصحيح قول الجمهور أن الكبائر لا تكفر بدون التوبة لأن التوبة فرض على العباد وقد قال عز وجل {وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} الحجرات وقد فسرت الصحابة كعمر وعلى وابن مسعود التوبة بالندم ومنهم من فسرها بالعزم على أن لا يعود وقد روي ذلك مرفوعًا من وجه فيه ضعف لكن لا يعلم مخالف من الصحابة في هذا، وكذلك التابعون ومن بعدهم كعمر بن عبدالعزيز والحسن وغيرهما وأما النصوص الكثيرة المتضمنة مغفرة الذنوب وتكفير السيئات للمتقين كقوله تعالى {إَن تَتَّقُواْ اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ} الأنفال، وقوله تعالى {وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} التغابن، وقوله {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا} الطلاق فإنه لم يبين في هذه الآيات خصال التقوى ولا العمل الصالح ومن جملة ذلك التوبة النصوح فمن لم يتب فهو ظالم غير متق وقد بين في سورة آل عمران خصال التقوى التي يغفر لأهلها ويدخلهم الجنة فذكر منها الاستغفار وعدم الإصرار فلم يضمن تكفير السيئات ومغفرة الذنوب إلا لمن كانت هذه الصفة له والله أعلم.

ومما يستدل به على أن الكبائر لا تكفر بدون التوبة منها أو العقوبة عليها حديث عبادة بن الصامت قال كنا عند رسول الله ﷺ قال بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئًا ولا تسرقوا ولاتزنوا وقرأ عليهم الآية فمن وفي منكم فأجره على الله ومن أصاب من ذلك شيئًا فعوقب به فهو كفارة له ومن أصاب من ذلك شيئًا فستره الله عليه فهو إلى الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له خرجاه في الصحيحين وفي رواية لمسلم من أتى منكم حدا فأقيم عليه فهو كفارته فهذا يدل على أن الحدود كفارات قال الشافعي لم أسمع في هذا الباب أن الحد يكون كفارة لأهله شيئًا أحسن من حديث عبادة بن الصامت، وقوله فعوقب يعم العقوبات الشرعية وهي الحدود المقدرة أو غير المقدرة أو غير المقدرة كالتعزيزات ويشمل العقوبات القدرية كالمصائب والأسقام والآلام فإنه صح عن النبي ﷺ أن قال لا يصيب المسلم نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها خطاياه وروي عن علي أن الحد كفارة لمن أقيم عليه وذكر ابن جرير الطبري في هذه المسئلة اختلافا بين الناس ورجح أن إقامة الحد بمجرده كفارة ووهن القول بخلاف ذلك جدًا قلت وقد روي عن سعيد بن المسيب وصفوان بن سليم أن إقامة الحد ليس بكفارة ولابد معه من التوبة ورجحه طائفة من المتأخرين منهم البغوي وأبو عبدالله بن تيمية في تفسيريهما وهو قول ابن حزم الظاهري والأول قول مجاهد وزيد بن أسلم والثوري وأحمد وأما حديث أبي هريرة المرفوع لا أدري الحدود طهارة لأهلها أم لا فقد خرجه الحاكم وغيره وأعله البخاري وقال لا يثبت وإنما هو مراسيل الزهري وهي ضعيفة وغلط عبدالرازق فوصله قال وقد صح عن النبي ﷺ أن الحدود كفارات ومما يستدل به من قال الحد ليس بكفارة قوله تعالى في المحاربين {ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ. إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ} المائدة وظاهره أنه يجتمع لهم عقوبة الدنيا والآخرة ويجاب عنه بأنه ذكر عقوبتهم في الدنيا وعقوبتهم في الآخرة ولا يلزم اجتماعهما وأما استثناء من تاب فإنما استثناه من عقوبة الدنيا خاصة فإن عقوبة الآخرة تسقط بالتوبة قبل القدرة وبعدها، وقوله ﷺ ومن أصاب شيئًا من ذلك فستره الله عليه فهو إلى الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له صريح في أن هذه الكبائر من لقي الله بها كانت تحت مشيئته وهذا يدل على أن إقامة الفرائض لا تكفرها ولا تمحوها فإن عموم المسلمين يحافظون على الفرائض لا سيما من بايعهم النبي ﷺ.

وخرج من ذلك من لقي الله وقد تاب عنها بالنصوص الدالة من الكتاب والسنة على أن من تاب إلى الله تاب الله عليه وغفر له فبقى من لم يتب داخلا تحت المشيئة وأيضا فيدل على أن الكبائر لا تكفرها الأعمال إن الله لم يجعل للكبائر في الدنيا كفارة واجبة وإنما جعل الكفارة للصغائر ككفارة وطء المظاهر ووطء المرأة في الحيض على حديث ابن عباس الذي ذهب إليه الإمام أحمد وغيره وكفارة من ترك شيئًا من واجبات الحج أو ارتكاب بعض محظوراته وهي أربعة أجناس هدي وعتق وصدقة وصيام ولهذا لا تجب الكفارة في قتل العمد عند جمهور العلماء ولا في اليمين الغموس أيضًا عند أكثرهم وإنما يؤمر القاتل بعتق رقبة استحبابا كما في حديث واثلة بن الأسقع أنهم جاءوا إلى النبي ﷺ في صاحب لهم قد أوجب فقال اعتقوا عنه رقبة يعتقه الله بها من النار ومعنى أوجب عمل عملًا يجب له به النار ويقال إنه كان قتل قتيلا وفي صحيح مسلم عن ابن عمر أنه ضرب عبدًا له فأعتقه وقال ليس لي فيه من الأجر مثل هذا وأخذ عودا من الأرض إني سمعت النبي ﷺ يقول من لطم مملوكه أو ضربه فإن كفارته أن يعتقه فإن قيل فالمجامع في رمضان يؤمر بالكفارة والفطر في رمضان من الكبائر قيل ليست الكفارة للفطر ولهذا لا يجب عند الأكثرين على كل مفطر في رمضان عمدا وإنما هي لهتك حرمة رمضان بالجماع ولهذا لو كان مفطرا فطرا لا يجوز له نهار رمضان ثم جامع للزمته الكفارة عند الإمام أحمد لما ذكرنا ومما يدل على أن تكفير الواجبات مختص بالصغائر ما أخرجه البخاري عن حذيفة قال بينما نحن جلوس عند عمر إذ قال أيكم يحفظ قول رسول ﷺ في الفتنة قال قلت فتنة الرجل في أهله وماله وولده وجاره يكفرها الصلاة والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قال ليس عن هذا أسألك وخرجه مسلم بمعناه وظاهر هذا السياق يقتضي رفعه وفي رواية البخاري أن حذيفة قال سمعته يقول فتنة الرجل فذكره وهذا كالصريح في رفعه وفي رواية مسلم أن هذا من كلام عمر وأما قول النبي ﷺ للذي قال له أصبت حدا فأقمه على فتركه حتى صلى ثم قال له إن الله غفر لك حدك فليس صريحا في أن المراد به شيء من الكبائر لأن حدود الله محارمه كما قال تعالى {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} الطلاق، وقوله {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا} البقرة، وقوله {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ} النساء الآية إلى قوله {وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ} النساء.

وفي حديث العرباض بن سارية عن النبي ﷺ في ضرب مثل الإسلام بالصراط المستقيم على جنبيه سوران.

قال السوران حدود الله وقد سبق ذكره بتمامه فكل من أصاب شيئًا من محارم الله فقد أصاب حدوده وركبها وتعدى بها وعلى تقدير أن يكون الحد الذي أصابه كبيرة فهذا الرجل جاء نادمًا تائبًا وأسلم نفسه إلى إقامة الحد عليه والندم توبة والتوبة تكفر الكبائر بغير تردد وقد روي ما يستدل به على أن الكبائر تكفر ببعض الأعمال الصالحة فخرج الإمام أحمد والترمذي من حديث ابن عمر أن رجلًا أتى النبي ﷺ فقال يا رسول الله إني أصبت ذنبا عظيما فهل لي من توبة قال فهل لك من أم قال لا قال فهل لك من خالة قال نعم قال فبرها وخرجه ابن حبان في صحيحه والحاكم وقال على شرط الشيخين لكن خرجه الترمذي من وجه آخر مرسلًا وذكر أن المرسل أصح من الموصول وكذا قال على بن المديني والدارقطني وروي عن عمر أن رجلًا قال له قتلت نفسا قال أمك حية قال لا قال فأبوك قال نعم قال فبره وأحسن إليه ثم قال عمر لو كانت أمه حية فبرها وأحسن إليها رجوت أن لا تطعمه النار أبدًا وعن ابن عباس بمعناه أيضًا، وكذلك المرأة التي عملت بالسحر بدومة الجندل وقدمت المدينة فسأل عن توبتها فوجدت النبي ﷺ قد توفي فقال لها أصحابه لو كان أبواك حيين أو أحدهما يكفيانك خرجه الحاكم وقال فيه إجماع الصحابة حدثان وفاة الرسول ﷺ على أن بر الأبوين الوالدين يكفيانها وقال مكحول والإمام أحمد بر الوالدين كفارة الكبائر وروي عن بعض السلف في حمل الجنائز أنه يحبط الكبائر وروي مرفوعًا من وجوه لا تصح وقد صح من رواية أبي بردة أن أبا موسى لما حضرته الوفاة قال يا بني اذكروا صاحب الرغيف كان رجل يتعبد في صومعة أراه سبعين سنة فشبه الشيطان في عينه امرأة فكان معها سبعة أيام وسبع ليال ثم كشف عن الرجل غطاءه فخرج تائبًا ثم ذكر أنه بات بين مساكين فتصدق عليهم برغيف فأعطوه رغيفا ففقده صاحبه الذي كان يعطاه فلما علم بذلك أعطاه الرغيف وأصبح ميتا فوزنت السبعون سنة بالسبع ليال فرجحت الليالي ووزن الرغيف بالسبع ليال فرجح الرغيف وروي ابن المبارك بإسناده في كتاب البر والصلة عن ابن مسعود قال عبدالله رجل سبعين سنة ثم أصاب فاحشة فأحبط الله عمله ثم أصابته زمانة وأقعد فرأى رجلًا يتصدق على مساكين فجاء إليه فأخذ منه رغيفا فتصدق به على مسكين فغفر الله له ورد عليه عمل سبعين سنة وهذه كلها لا دلالة فيها على تكفير الكبائر بالأعمال لأن كل من ذكر فيها كان نادمًا تائبًا من ذنبه وإنما كان سؤاله عن عمل صالح يتقرب به إلى الله بعد التوبة حتى يمحو به أثر الذنب بالكلية فإن الله شرط في قبول التوبة ومغفرة الذنوب بها العمل الصالح كقوله إلا من تاب وآمن وعمل صالحًا مريم، وقوله فأما من تاب وآمن وعمل صالحًا فعسى أن يكون من المفلحين القصص وفي هذا متعلق لمن يقول إن التائب بعد التوبة في المشيئة، وكان هذا حال كثير من الخائفين من السلف وقال بعضهم هل أذنبت ذنبا قال نعم قال فعلمت أن الله كتبه عليك قال نعم قال فاعمل حتى تعلم أن الله قد محاه ومنه قال ابن مسعود إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه في أصل جبل يخاف أن يقع عليه وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب طار على أنفه فقال به هكذا وهكذا خرجه البخاري وكانوا يتهمون أعمالهم وتوباتهم ويخافون أن لا يكون قد قبل منهم ذلك فكان ذلك يوجب لهم شدة الخوف وكثرة الاجتهاد في العمل الصالح قال الحسن أدركت أقواما لو أنفق أحدهم ملء الأرض ما أمن لعظم الذنب في نفسه.

وقال ابن عون لا تثق بكثرة العمل فإنك لا تدري أيقبل منك أم لا ولا تأمن ذنوبك فإنك لا تدري أكفرت عنك أم لا إن عملك مغيب عنك كله والأظهر والله أعلم.

في هذه المسألة أعني مسئلة تكفير الكبائر بالأعمال إن أريد أن الكبائر تمحي بمجرد الإتيان بالفرائض وتقع الكبائر مكفرة بذلك كما تكفر الصغائر باجتناب الكبائر فهذا باطل وإن أريد أنه قد يوازن يوم القيامة بين الكبائر وبين بعض الأعمال فتمحي الكبيرة بما يقابلها من العمل ويسقط العمل فلا يبقى له ثواب فهذا قد يقع وقد تقدم عن ابن عمر أنه لما أعتق مملوكه الذي ضربه قال ليس لي فيه من الأجر شيء حيث كان كفارة لذنبه ولم يكن ذنبه من الكبائر فكيف بما كان من الأعمال مكفرا للكبائر وسبق أيضًا قول من قال من السلف إن السيئة تمحي ويسقط نظيرها حسنة من الحسنات التي هي ثواب العمل فإذا كان هذا في الصغائر فكيف بالكبائر فإن بعض الكبائر قد يحبط بعض الأعمال المنافية لها كما يبطل المن والأذى الصدقة وتبطل المعاملة بالربا الجهاد كما قالت عائشة وقال حذيفة قذف المحصنة يهدم عمل مائة سنة وروي عنه مرفوعًا خرجه البزار في مسنده والحاكم من حديث ابن عباس عن النبي ﷺ قال يؤتي بحسنات العبد وسيئاته يوم القيامة فيقض أو يقضي بها بعضها من بعض فإن بقيت له حسنة وسع له بها في الجنة.

وخرج بن أبي حاتم من حديث ابن لهيعة قال حدثني عطاء بن دينار عن سعيد بن جبير في قول الله عز وجل {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} الزلزلة.

قال كان المسلمون يرون أنهم لا يؤجرون على الشيء القليل إذا أعطوه فيجيء المسكين فيستقلون أن يعطوه تمرة وكسرة وجوزة ونحو ذلك فيردونه ويقولون ما هذا بشيء إنما نؤجر على ما يعطي ونحن نحبه وكانوا يرون أنهم لا يلامون على الذنب اليسير مثل الكذبة والنظرة والغيبة وأشباه ذلك يقولون إنما وعد الله النار على الكبائر فرغبهم الله في القليل من الخير أن يعملوه فإنه يوشك أن يكثر وحذرهم اليسير من الشر فإنه يوشك أن يكثر فنزلت فمن يعمل مثقال ذرة الزلزلة يعني ذرة أصغر النمل خيرًا يره الزلزلة يعني في ويسره ذلك قال يكتب لكل بر وفاجر بكل سيئة واحدة سيئة وبكل حسنة عشر حسنات فإذا كان يوم القيامة ضاعف الله حسنات المؤمن أيضًا بكل واحدة عشرًا فيمحو عنه بكل حسنة عشر سيئات فمن زادت حسناته على سيئاته مثقال ذرة دخل الجنة.

وظاهر هذا أنه يقع المقاصة بين الحسنات والسيئات ثم يسقط الحسنات المقابلة للسيئات وينظر إلى ما يفضل منها بعد المقاصة وهذا يوافق قول من قال بأن من رجحت حسناته على سيئاته بحسنة واحدة أثيب بتلك الحسنة خاصة وتسقط باقي حسناته في مقابلة سيئاته خلافًا لمن قال يثاب بالجميع وتسقط سيئاته كأنها لم تكن وهذا في الكبائر أما الصغائر فإنه قد تمحى بالأعمال الصالحة مع بقاء ثوابها كما قال ﷺ ألا أدلكم على ما يمحق الله به الخطايا ويرفع به الدرجات إسباغ الوضوء على المكاره وكثرة الخطا إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة فأثبت لهذه الأعمال تكفير الخطايا ورفع الدرجات، وكذلك قوله ﷺ من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له مائة مرة كتب الله له مائة حسنة ومحيت عنه مائة سيئة وكانت له عدل عشر رقاب فهذا يدل على أن الذكر يمحو السيئات ويبقى ثوابه لعامله مضاعفا، وكذلك سيئات التائب توبة نصوحا تكفر عنه وتبقى له حسناته كما قال الله تعالى {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ. أُوْلَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} الأحقاف وقال تعالى {وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ. لَهُم مَّا يَشَاءونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاء الْمُحْسِنِينَ. لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} الزمر.

فلما وصف هؤلاء بالتقوى والإحسان دل على أنهم ليسوا بمصرين على الذنوب بل تائبون منها، وقوله {لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا} الزمر يدخل فيه الكبائر لأنها أسوأ الأعمال وقال {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا} الطلاق فرتب على التقوى المتضمنة لفعل الواجبات وترك المحرمات تكفير السيئات وتعظيم الأجر وأخبر الله عن المؤمنين المتفكرين في خلق السموات والأرض أنهم قالوا {رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ} آل عمران فأخبر أنه استجاب لهم ذلك وأنه كفر عنهم سيئاتهم وأدخلهم الجنات، وقوله {فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا} آل عمران.

فخص الله الذنوب بالمغفرة والسيئات بالتكفير فقد يقال السيئات تخص الصغائر والذنوب يراد بها الكبائر فالسيئات تكفر لأن الله جعل لها كفارات في الدنيا شرعية وقدرية والذنوب تحتاج إلى مغفرة تقي صاحبها من شرها أو المغفرة والتكفير يتقاربان فإن المغفرة قد قيل إنها ستر الذنوب وقيل وقاية شر الذنوب مع ستره ولهذا يسمى ما ستر الرأس ووقاه في الحرب مغفرا ولا يسمى كل ساتر للرأس مغفرا وقد أخبر الله عن الملائكة أنهم يدعون للمؤمنين التائبين بالمغفرة ووقاية السيئات والتكفير من هذا الجنس لأن أصل الكفر الستر والتغطية أيضًا وقد فرق بعض المتأخرين بينهما بأن التكفير محو أثر الذنب حتى كأنه لم يكن والمغفرة تتضمن مع ذلك إفضال الله على العبد وإكرامه وفي هذا نظر وقد يفسر بأن مغفرة الذنوب بالأعمال الصالحة تقلبهما حسنات وتكفيرها بالمكفرات تمحوها فقط وفيه أيضًا نظر فإنه قد صح أن الذنوب المعاقب عليها بدخلول النار تبدل حسنات فالمكفرة بعمل صالح يكون كفارة لها أولي ويحتمل معنيين آخرين أحدهما أن المغفرة لا تحصل إلا مع عدم العقوبة والمؤاخذة لأنها وقاية شر الذنب بالكلية والتكفير قد يقع بعد العقوبة فإن المصائب الدنيوية كلها مكفرات للخطايا وهي عقوبات، وكذلك العفو يقع مع العقوبة وبدونها، وكذلك الرحمة والثاني أن الكفارات من الأعمال ما جعل الله لمحو الذنوب المكفرة بها ويكون ذلك هو ثوابها ليس لها ثواب غيره والغالب عليها أن تكون من جنس مخالفة هوى النفس وتجشم المشقة كاجتناب الكبائر الذي جعله الله كفارة للصغائر وأما الأعمال التي تغفر بها الذنوب فهي ما عدا ذلك ويجتمع فيها المغفرة والثواب عليها كالذكر الذي يكتب به الحسنات ويمحي به السيئات وعلى هذا الوجه فيفرق بين الكفارات من الأعمال وغيرها وأما تكفير الذنوب ومغفرتها إذا أضيف ذلك إلى الله فلا فرق بينهما وعلى الوجه الأول يكون بينهما فرق أيضًا ويشهد لهذا الوجه الثاني أمران أحدهما قول ابن عمر لما أعتق العبد الذي ضربه ليس لي في عتقه من الأجر شيء واستدل بأنه كفارة والثاني أن المصائب الدنيوية كلها مكفرات للذنوب وقد قال كثير من الصحابة وغيرهم من السلف إنه لا ثواب فيها مع التكفير وإن كان بعضهم قد خالف في ذلك ولا يقال فقد فسر الكفارات في حديث المنام بإسباغ الوضوء في المكروهات ونقل الإقدام إلى الصلاة وقال من فعل ذلك عاش بخير ومات بخير، وكان من خطيئته كيوم ولدته أمه وهذه كلها مع تكفيرها للسيئات ترفع الدرجات ويحصل عليه الثواب لأنا نقول قد يجتمع في العمل الواحد شيئان يرفع بأحدهما الدرجات ويكفر بالآخر السيئات فالوضوء نفسه يثاب عليه لكن إسباغه في شدة البرد من جنس الآلام التي تحصل للنفوس في الدنيا فيكون كفارة في هذه الحال وأما في غير هذه الحالة فتغفر به الخطايا كما يغفر بالذكر وغيره، وكذلك المشي إلى الجماعات هو قربة وطاعة ويثاب عليه ولكن ما يحصل للنفس به من المشقة والألم بالتعب والنصب هو كفارة، وكذلك حبس النفس في المسجد لانتظار الصلاة وقطعها عن مألوفاتها من الخروج إلى المواضع التي تميل النفوس إليها إما لكسب الدنيا أو للتنزه هو من هذه الجهة مؤلم للنفس فيكون كفارة وقد جاء في الحديث إن إحدى خطوات الماشي إلى المسجد ترفع له درجة والأخرى تحط عنه خطيئة وهذا يقوي ما ذكرناه وإن ما حصل به التكفير غير ما حصل به رفع الدرجات والله أعلم.

وعلى هذا فيجتمع في العمل الواحد تكفير السيئات ورفع الدرجات من جهتين ووصف في كل حال بكلا الوصفين فلا تنافي بين تسميته كفارة وبين الإخبار عنه بمضاعفة الثواب به أو وصفه برفع الدرجات ولهذا قال ﷺ الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر فإن في حبس النفس على المواظبة على الفرائض من مخالفة هواها وكفها عما تميل إليه ما يوجب ذلك تكفير الصغائر، وكذلك الشهادة في سبيل الله تكفر الذنوب بما يحصل بها من الألم وترفع الدرجات بما اقترن بها من الأعمال الصالحة بالقلب والبدن فتبين بها أن بعض الأعمال يجتمع فيها ما يوجب رفع الدرجات وتكفير السيئات من وجهين ولا يكون بينهما منافاة وهذا ثابت في الذنوب الصغائر وبلا ريب وأما الكبائر فقد تكفر بالشهادة مع حصول الأجر للشهيد لكن الشهيد ذا الخطايا في رابع درجة من درجات الشهداء كذلك روي عن النبي ﷺ من حديث فضالة بن عبيد خرجه الإمام أحمد والترمذي وأما مغفرة الذنوب ببعض الأعمال مع توفير أجرها وثوابها فقد دلت عليه الأحاديث الصحيحة في الذكر وقد قيل إن تلك السيئات تكتب حسنات أيضًا كما في حديث أبي مالك الأشعري الذي سبق ذكره وذكرنا أيضًا عن بعض السلف أنه يمحي بإزاء السيئة الواحدة ضعف واحد من أضعاف ثواب الحسنة وتبقى له تسع حسنات والظاهر أن هذا مختص بالصغائر وأما في الآخرة فيوازن بين الحسنات والسيئات ويقتص بعضها من بعض فمن رجحت حسناته على سيئاته فقد نجا ودخل الجنة وسواء في هذا الصغائر والكبائر وهكذا من كانت له حسنات وعليه مظالم فاستوفى المظلومون حقوقهم من حسناته وبقي له حسنة ودخل بها الجنة.

قال ابن مسعود رضي الله عنه إن كان وليًا لله ففضل له مثقال ذرة ضاعفها الله حتى يدخل الجنة وإن كان شقيا قال الملك رب فنيت حسناته وبقي له طالبون كثير قال خذوا من سيئاتهم فأضيفوها إلى سيئاته ثم صكوا له صكاكا إلى النار خرجه ابن أبي حاتم وغيره والمراد أن تفضيل مثقال ذرة من الحسنات إنما هو بفضل الله عز وجل لمضاعفته لحسنات المؤمن وبركته فيها وهكذا حال من كانت له حسنات وسيئات وأراد الله رحمته فضل له من حسناته ما يدخله به الجنة وكله من فضل الله ورحمته فإنه لا يدخل أحد الجنة إلا بفضل الله ورحمته.

وخرج أبو نعيم بإسناد ضعيف عن على مرفوعًا أوحى الله إلى نبي من أنبياء بني إسرائيل قل لأهل طاعتي من أمتك لا يتكلوا على أعمالهم فإني لا أقاص عبدًا الحساب يوم القيامة أشاء أن أعذبه إلا عذبته وقل لأهل معصيتي من أمتك لا يلقوا بأيديهم فإني أغفر الذنب العظيم ولا أبالي ومصداق هذا قول النبي ﷺ في الحديث الصحيح من نوقش الحساب عذب وفي رواية هلك.

المسألة الثانية أن الصغائر هل تجب التوبة منها كالكبائر أم لا لأنها تقع مكفرة باجتناب الكبائر لقوله تعالى {إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيمًا} النساء.

هذا مما اختلف الناس فيه فمنهم من أوجب التوبة منها وهو قول أصحابنا وغيرهم من الفقهاء والمتكلمين وغيرهم وقد أمر الله بالتوبة عقيب ذكر الصغائر والكبائر فقال تعالى {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ. وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} النور إلى قوله {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} النور وأمر بالتوبة من الصغائر بخصوصها في قوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} الحجرات.

ومن الناس من لم يوجب التوبة منها وحكي عن طائفة من المعتزلة ومن المتأخرين من قال يجب أحد الأمرين إما التوبة منها أو الإتيان ببعض المكفرات للذنوب من الحسنات وحكي ابن عطية في تفسيره في تكفير الصغائر بامتثال الفرائض واجتناب الكبائر قولين أحدهما وحكاه عن جماعة من الفقهاء وأهل الحديث أنه يقطع بتكفيرها بذلك قطعا لظاهر الآية والحديث والثاني وحكاه عن الأصوليين أنه لا يقطع بذلك بل يحمل على غلبة الظن وقوة الرجاء وهو في مشيئته الله عز وجل إذ لو قطع بتكفيرها لكانت الصغائر في حكم المباح الذي لا تبعة فيه وذلك نقض لعري الشريعة قلت قد يقال لا يقطع بتكفيرها بها لأن أحاديث التكفير المطلقة بالأعمال جادت مقيدة بتحسين العمل كما ورد ذلك في الوضوء والصلاة وحينئذ يتحقق حسن العمل الذي يوجب التكفير وعلى هذا الاختلاف الذي ذكره ابن عطية ينبني الاختلاف في وجوب التوبة من الصغائر.

وقد خرج ابن جرير من رواية الحسن أن قومًا أتوا عمر فقالوا نرى أشياء من كتاب الله لا يعمل بها فقال لرجل منهم أقرأت القرآن كله قال نعم قال فهل أحصيته في نفسك قال اللهم لا قال فهل أحصيته في بصرك فهل أحصيته في لفظك هل أحصيته في أثرك ثم تتبعهم حتى أتى على آخرهم ثم قال ثكلت عمر أمه أتكلفونه أن يقيم على الناس كتاب الله قد علم ربنا أنه سيكون لنا سيئات قال وتلا {إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيمًا} النساء.

وبإسناده عن أنس بن مالك أنه قال لم أر مثل الذي بلغنا عن ربنا تعالى لم نخرج له عن كل أهل ومال ثم سكت ثم قال والله لما خلقنا ربنا أهون من ذلك لقد تجاوز لنا عما دون الكبائر فمالنا ولها ثم تلا {إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيمًا} النساء وخرجه البزار في مسنده مرفوعًا والموقوف أصح وقد وصف الله المحسنين باجتناب الكبائر قال تعالى {وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى. الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ} النجم.

وفي تفسير اللمم قولان للسلف أحدهما أنه مقدمات الفواحش كاللمس والقبلة وعن ابن عباس هو ما دون الحد من وعيد الآخرة بالنار وحد الدنيا والثاني أنه الإلمام بشيء من الفواحش والكبائر مرة واحدة ثم يتوب منه وروي عن ابن عباس وأبي هريرة وروي عنه مرفوعًا بالشك في رفعه قال اللمة من الزنا ثم يتوب فلا يعود واللمة من شرب الخمر ثم يتوب فلا يعود واللمة من السرقة ثم يتوب فلا يعود ومن فسر الآية بهذا قال لا بد أن يتوب منه بخلاف من فسره بالمقدمات فإنه لم يشترط توبة والظاهر أن القولين صحيحان وأن كليهما مراد من الآية وحينئذ فالمحسن هو من لا يأتي بكبيرة إلا نادرا ثم يتوب منها ومن إذا أتى بصغيرة كانت مغمورة في حسناته المكفرة بها ولا بد أن يكون مصرا عليها كما قال تعالى {وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} آل عمران.

وروي عن ابن عباس أنه قال لا صغيرة مع الإصرار ولا كبيرة مع الاستغفار وروي مرفوعًا من وجوه ضعيفة وإذا صارت الصغائر كبائر بالمداومة عليها فلابد للمحسنين من اجتناب المداومة على الصغائر حتى يكونوا مجتنبين لكبائر الإثم والفواحش وقال الله عز وجل {وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ. وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ. وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ. وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ. وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} الشورى فهذه الآيات تضمنت وصف المؤمنين بقيامهم بما أوجب الله عليهم من الإيمان والتوكل وإقام الصلاة والإنفاق مما رزقهم الله والاستجابة لله في جميع طاعاته ومع هذا فهم مجتنبون كبائر الإثم والفواحش فهذا هو تحقيق التقوى ووصفهم في معاملتهم للخلق بالمغفرة عند الغضب وندبهم إلى العفو والإصلاح وأما قوله {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ} الشورى فليس منافيًا للعفو فإن الانتصار يكون بإظهار القدرة على الانتقام ثم يقع العفو بعد ذلك فيكون أتم وأكمل.

قال النخعي في هذه الآية كانوا يكرهون أن يستذلوا فإذا قدروا عفوا.

وقال مجاهد كانوا يكرهون للمؤمن أن يذل نفسه فتجتريء عليه الفساق فالمؤمن إذا بغى عليه يظهر القدرة على الانتقام ثم يعفو بعد ذلك.

وقد جرى مثل هذا لكثير من السلف منهم عطاء وقتادة وغيرهما فهذه الآيات تتضمن جميع ما ذكره النبي ﷺ في وصيته لمعاذ فإنها تضمنت حصول خصال التقوى بفعل الواجبات والانتهاء عن كبائر المحرمات ومعاملة الخلق بالإحسان والعفو ولازم هذا أنهم إن وقع شيء من الإثم من غير الكبائر والفواحش يكونون مغمورين بخصال التقوى المفضية لتكفيرها ومحوها وأما الآيات التي في سورة آل عمران فوصف فيها المتقين بالإحسان إلى الخلق وبالاستغفار من الفواحش وظلم النفس وعدم الإصرار على ذلك وهذا هو الأكمل وهو إحداث التوبة والاستغفار عقيب كل ذنب من الذنوب صغيرًا كان أو كبيرًا كما روي أن رسول الله ﷺ وصى بذلك معاذًا وقد ذكرناه فيما سبق وإنما بسطنا القول في هذا لأن حاجة الخلق إليه شديدة وكل أحد محتاج إلى معرفة هذا ثم إلى العمل بمقتضاه والله الموفق والمعين.

فقوله ﷺ أتبع السيئة الحسنة تمحها ظاهره أن السيئات تمحى بالحسنات وقد تقدم ذكر الآثار التي فيها أن السيئة تمحى من صحف الملائكة بالحسنة إذا عملت بعدها.

قال عطية العوفي بلغني أن من بكى على خطيئة محيت عنه وكتبت له حسنة.

وعن عبدالله بن عمرو قال من ذكر خطيئة عملها فوجل قلبه منها فاستغفر الله عز وجل لم يحبسها شيء حتى يمحوها عنه الرحمن.

وقال بشير بن الحارث بلغني عن الفضيل بن عياض قال بكاء النهار يمحو ذنوب العلانية وبكاء الليل يمحو ذنوب السر وقد ذكرنا قول النبي ﷺ ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات الحديث.

وقال طائفة لا تمحى الذنوب من صحائف الأعمال بتوبة ولا غيرها بل لا بد أن يوقف عليها صاحبها ويقرأها يوم القيامة واستدلوا بقوله تعالى {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا} الكهف وفي الاستدلال بهذه الآية نظر لأنه إنما ذكر فيها حال المجرمين وهم أهل الجرائم والذنوب العظيمة فلا يدخل فيهم المؤمنون التائبون من ذنوبهم أو المغفورة ذنوبهم بحسناتهم وأظهر من هذا الاستدلال قوله {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ. وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} الزلزلة.

وقد ذكر بعض العلماء والمفسرين أن هذا القول هو الصحيح عند المحققين.

وقد روي هذا القول عن الحسن البصري وبلال بن سعد الدمشقي.

قال الحسن فالعبد يذنب ثم يتوب ويستغفر الله له ولكن لا يمحاه من كتابه دون أن يقف عليه ثم يسأله عنه ثم بكى الحسن بكاء شديدًا وقال ولو لم نبك إلا للحياء من ذلك المقام لكان ينبغي لنا أن نبكي.

وقال بلال بن سعد إن الله يغفر الذنوب ولكن لا يمحوها من الصحيفة حتى يوقفه عليها يوم القيامة وإن تاب.

وقال أبو هريرة يدني الله العبد يوم القيامة فيضع عليه كنفه فيستره من الخلائق كلها ويدفع إليه كتابه في ذلك الستر فيقول اقرأ يا بن آدم كتابك فيقرأ فيمر بالحسنة فيبيض لها وجهه ويسر بها قلبه فيقول الله أتعرف ياعبدي فيقول نعم يا رب فيقول إني قبلتها منك فيسجد فيقول ارفع رأسك وعد في كتابك فيمر بالسيئة فيسود لها وجهه ويوجل لها قلبه وترتعد منها فرائضه ويأخذه من الحياء من ربه ما لا يعلمه غيره فيقول الله أتعرف يا عبدي فيقول نعم يا رب فيقول إني قد غفرتها لك فيسجد فلا يرى منه الخلائق إلا السجود حتى ينادي بعضهم بعضًا طوبى لهذا العبد الذي لم يعص الله قط ولا يدرون ما قد لقي فيما بينه وبين ربه عز وجل مما قد وقفه عليه.

وقال أبو عثمان النهدي عن سلمان يعطى الرجل صحيفته يوم القيامة فيقرأ أعلاها فإذا سيئاته فإذا كاد يسوء ظنه نظر في أسفلها فإذا حسناته ثم نظر في أعلاها فإذا هي قد بدلت حسنات.

وروي عن أبي عثمان عن ابن مسعود وعن أبي عثمان من قوله وهو أصح.

وروى ابن أبي حاتم بإسناده عن بعض أصحاب معاذ بن جبل قال يدخل أهل الجنة الجنة على أربعة أصناف المتقين ثم الشاكرين ثم الخائفين ثم أصحاب اليمين قيل لم سموا أصحاب اليمين قال لأنهم عملوا الحسنات والسيئات فأعطوا كتبهم بأيمانهم فقرؤوا سيئاتهم حرفًا حرفًا قالوا يا ربنا هذه سيئاتنا فأين حسناتنا فعند ذلك محا الله السيئات وجعلها حسنات فعند ذلك قالوا هاؤم أقرؤوا كتابيه الحاقة فهم أكثر أهل الجنة وأهل هذا القول قد يحملون أحاديث محو السيئات بالحسنات على محو عقوباتها دون محو كتابتها من الصحف والله أعلم.

وقوله ﷺ وخالق الناس بخلق حسن هذا من خصال التقوى ولا تتم التقوى إلا به وإنما أفرده بالذكر للحاجة إلى بيانه فإن كثيرًا من الناس يظن أن التقوى هي القيام بحق الله دون حقوق عباده فنص له على الأمر بإحسان العشرة للناس فإنه كان قد بعثه إلى اليمن معلمًا لهم ومفقهًا وقاضيًا ومن كان كذلك فإنه يحتاج إلى مخالقة الناس بخلق حسن ما لا يحتاج إليه غيره مما لا حاجة للناس به ولا يخالطهم وكثيرًا ما يغلب على من يعتني بالقيام بحقوق الله والانعكاف على محبته وخشيته وطاعته وإهمال حقوق العباد بالكلية أو التقصير فيها والجمع بين القيام بحقوق الله وحقوق عباده عزيز جدًا لا يقوى عليه إلا الكمل من الأنبياء والصديقين وقال الحارث المحاسبي ثلاثة أشياء عزيزة أو معدومة حسن الوجه مع الصيانة وحسن الخلق مع الديانة وحسن الإخاء مع الأمانة وقال بعض السلف جلس داود عليه الصلاة والسلام خاليا فقال الله عز وجل مالي أراك خاليا قال هجرت الناس فيك يا رب العالمين قال يا داود ألا أدلك على ما تستبقى به وجوه الناس وتبلغ فيه رضاي خالق الناس بأخلاقهم واحتجز الإيمان بيني وبينك وقد عد الله في كتابه مخالقة الناس بخلق حسن من خصال التقوى بل بدأ في قوله أعدت للمتقين الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين آل عمران وروى ابن أبي الدنيا بإسناده عن سعيد المقبري قال بلغنا أن رجلًا جاء إلى عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام فقال يا معلم الخير كيف أكون تقيا لله عز وجل كما ينبغي قال بيسير من الأمر تحب الله بقلبك كله وتعمل بكدحك وقوتك ما استطعت وترحم ابن جنسك كما ترحم نفسك قال من بني جنسي يا معلم الخير قال ولد أم كلهم ومالًا تحب أن يؤتى إليك فلا تأته لأحد وأنت تتقي لله عز وجل كما ينبغي له وقد جعل النبي ﷺ حسن الخلق من حسن خصال أخلاق الإيمان كما خرج الإمام أحمد وأبو داود من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا وخرجه محمد بن نصر المروزي وزاد فيه إن المرء ليكون مؤمنا وإن في خلقه شيئًا فينقص ذلك من إيمانه.

وخرج أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه من حديث أسامة بن شريك قال قالوا يا رسول الله ما أفضل ما أعطي المرء المسلم قال الخلق الحسن وأخبر النبي ﷺ أن صاحب الخلق الحسن يبلغ بخلقه درجة الصائم ليلًا يشتغل المريد للتقوى عن حسن الخلق بالصوم والصلاة ويظن أن ذلك يقطعه عن فضلهما فخرج الإمام أحمد وأبو داود من حديث عائشة عن النبي ﷺ إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجات الصائم والقائم وأخبر أن النبي ﷺ قال إن حسن الخلق أثقل ما يوضع في الميزان وإن صاحبه أحب الناس إلى الله وأقربهم من النبيين مجلسًا فخرج الإمام أحمد وأبو داود والترمذي من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال ما من شيء يوضع في ميزان العبد أثقل من حسن الخلق وإن صاحب حسن الخلق ليبلغ به درجة صاحب الصوم والصلاة.

وخرج ابن حبان في صحيحه من حديث عبدالله بن عمرو عن النبي ﷺ قال ألا أخبركم بأحبكم إلى الله وأقربكم مني مجلسًا يوم القيامة قالوا بلى قال أحسنكم خلقا وقد سبق حديث أبي هريرة عن النبي ﷺ أكثر ما يدخل الجنة تقوى الله وحسن الخلق.

وخرج أبو داود من حديث أبي أمامة عن النبي ﷺ قال أنا زعيم بيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه وخرجه الترمذي وابن ماجه بمعناه من حديث أنس وقد روي عن السلف تفسير حسن الخلق فعن الحسن قال حسن الخلق الكرم والبذلة والاحتمال وعن الشعبي قال حسن الخلق البذلة والعطية والبشر الحسن، وكان الشعبي كذلك وعن ابن المبارك قال هو بسط الوجه وبذل المعروف وكف الأذى وسئل سلام بن أبي مطيع عن حسن الخلق فأنشد شعرا فقال:

تراه إذا ما جئته متهللا *** كأنك تعطيه الذي أنت سائله

ولو لم يكن في كفه غير روحه *** لجاد بها فليتق الله سائله

هو البحر من أي النواحي أتيته *** فلجته المعروف والجود ساحله

وقال الإمام أحمد حسن الخلق أن لا تغضب ولا تحقد، وعنه أنه قال حسن الخلق أن تحتمل ما يكون من الناس وقال إسحاق بن راهويه هو بسط الوجه وأن لا تغضب ونحو ذلك قال محمد بن نصر وقال بعض أهل العلم حسن الخلق كظم الغيظ لله وإظهار الطلاقة والبشر إلا للمبتدع والفاجر والعفو عن الزالين إلا تأديبا وإقامة الحد وكف الأذى عن كل مسلم ومعاهد إلا تغيير منكر وأخذا بمظلة لمظلوم من غير تعد.

وفي مسند الإمام أحمد من حديث معاذ بن أنس الجهني عن النبي ﷺ قال أفضل الفضائل أن تصل من قطعك وتعطي من حرمك وتصفح عمن شتمك.

وخرج الحاكم من حديث عقبة ابن عامر الجهني قال قال لي رسول الله ﷺ يا عقبة ألا أخبرك بأفضل أخلاق أهل الدنيا والآخرة تصل من قطعك وتعطي من حرمك وتعفو عمن ظلمك. وخرج الطبراني من حديث على أن النبي ﷺ قال ألا أدلكم على أكرم أخلاق أهل الدنيا والآخرة أن تصل من قطعك وتعطي من حرمك وتعفو عمن ظمك.

================

الحديث التاسع عشر

عن أبي العباس عبدالله بن عباس رضي الله عنهما قال كنت خلف النبي ﷺ يومًا فقال لي يا غلام إني أعلمك كلمات احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده تجاهك إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك إن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك رفعت الأقلام وجفت الصحف .

رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح في رواية غير الترمذي احفظ الله تجده أمامك تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك وما أصابك لم يكن ليخطئك واعلم أن النصر مع الصبر وأن الفرج مع الكرب وأن مع العسر يسرا.

هذا الحديث خرجه الترمذي من رواية حنش الصنعاني عن ابن عباس وخرجه الإمام أحمد من حديث حنش الصنعاني مع إسنادين آخرين منقطعين ولم يميز لفظ بعضها من بعض ولفظ حديثه يا غلام أو يا غليم أعلمك كلمات ينفعك الله بهن فقلت بلى فقال احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده أمامك تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة وإذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله قد جف القلم بما هو كائن فلو أن الخلق كلهم جميعا أرادوا أن ينفعوك بشيء لم يقضه الله لم يقدروا عليه وإن أرادوا أن يضروك بشيء لم يكتبه الله عليك لم يقدروا عليه واعلم أن في الصبر على ما تكره خيرًا كثيرًا وأن النصر مع الصبر وأن الفرج مع الكرب وأن مع العسر يسرا وهذا اللفظ أتم من اللفظ الذي ذكره الشيخ رحمه الله وعزاه إلى غير الترمذي واللفظ الذي ذكره الشيخ رواه عبد بن حميد في مسنده بإسناد ضعيف عن عطاء عن ابن عباس، وكذلك عزاه ابن الصلاح في الأحاديث الكلية التي هي أصل أربعين الشيخ رحمه الله إلى عبد بن حميد وغيره وقد روي هذا الحديث عن ابن عباس من طرق كثيرة من رواية ابنه على ومولاه عكرمة وعطاء بن أبي رباح وعمرو بن دينار وعبيد الله بن عبدالله وعمر مولى عفرة وابن أبي مليكة وغيرهم وأصح الطرق كلها طريق حنش الصنعاني التي خرجها الترمذي كذا قال ابن مندة وغيره وقد روي عن النبي ﷺ أنه وصى ابن عباس بهذه الوصية من حديث على بن أبي طالب وأبي سعيد الخدري وسهل بن سعد وعبد الله بن جعفر وفي أسانيدها كلها ضعف وذكر العقيلي أن أسانيد الحديث كلها لينة وبعضها أصلح من بعض وبكل حال فطريق حنش التي خرجها الترمذي حسنة جيدة وهذا الحديث يتضمن وصايا عظيمة وقواعد كلية من أهم أمور الدين حتى قال بعض العلماء تدبرت هذا الحديث فأدهشني وكدت أطيش فوا أسفا من الجهل بهذا الحديث وقلة التفهم لمعناه قلت وقد أفردت لشرحه جزء كبيرًا ونحن نذكر هاهنا مقاصد على وجه الاختصار إن شاء الله تعالى قوله ﷺ احفظ الله يعني احفظ حدوده وحقوقه وأوامره ونواهيه وحفظ ذلك هو الوقوف عند أوامره بالامتثال وعند نواهيه بالاجتناب وعند حدوده فلا يتجاوز ما أمر به وأذن فيه إلى ما نهى عنه فمن فعل ذلك فهو من الحافظين لحدود الله الذين مدحهم الله في كتابه وقال عز وجل {هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ. مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ وَجَاء بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ} ق وفسر الحفيظ هنا بالحافظ لأوامر الله وبالحافظ لذنوبه ليتوب منها ومن أعظم ما يجب حفظه من أوامر الله الصلاة وقد أمر الله بالمحافظة عليها فقال {حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى} البقرة ومدح المحافظين عليها بقوله {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} المعارج وقال النبي ﷺ من حافظ عليها كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة وفي حديث آخر من حافظ عليهن كن له نورا وبرهانا ونجاة يوم القيامة.

وكذلك الطهارة فإنها مفتاح الصلاة قال النبي ﷺ لا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن ومما يؤمر بحفظه الأيمان قال الله عز وجل {وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ} المائدة فإن الأيمان يقع الناس فيها كثيرًا ويهمل كثير منهم ما يجب بها فلا يحفظه ولا يلتزمه ومن ذلك حفظ الرأس والبطن كما في حديث ابن مسعود المرفوع الاستحياء من الله حق الحياء أن تحفظ الرأس وما وعى وتحفظ البطن وما حوى خرجه الإمام أحمد والترمذي وحفظ الرأس وما وعى يدخل فيه حفظ السمع والبصر واللسان من المحرمات وحفظ البطن وما حوى يتضمن حفظ القلب عن الإصرار على ما حرم الله قال الله عز وجل {وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ} البقرة وقد جمع الله ذلك كله في قوله {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} الإسراء ويتضمن أيضًا حفظ البطن من إدخال الحرام إليه من المآكل والمشارب ومن أعظم ما يجب حفظه من نواهي الله عز وجل اللسان والفرج وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال من حفظ ما بين لحييه وما بين رجليه دخل الجنة خرجه الحاكم.

وخرج الإمام أحمد من حديث أبي موسى رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال من حفظ ما بين فقميه وفرجه دخل الجنة وأمر الله عز وجل بحفظ الفرج ومدح الحافظين لها فقال {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} النور وقال {وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} الأحزاب وقال {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ. الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} المؤمنون إلى قوله {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ. إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} المؤمنون.

وقال أبو إدريس الخولاني أول ما وصى الله به آدم عند إهباطه إلى الأرض حفظ فرجه وقال لا تضعه إلا في حلال.

وقوله ﷺ يحفظك يعني أن من حفظ حدود الله وراعى حقوقه حفظه الله فإن الجزاء من جنس العمل كما قال تعالى {وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} البقرة وقال {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} البقرة وقال {إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ} محمد.

وحفظ الله لعبده يدخل فيه نوعان:

أحدهما حفظه له في مصالح دنياه كحفظه في بدنه وولده وأهله وماله قال الله عز وجل {له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله} الرعد.

قال ابن عباس هم الملائكة يحفظونه بأمر الله فإذا جاء القدر خلوا عنه.

وقال علي رضي الله عنه إن مع كل رجل ملكين يحفظانه مما لم يقدر فإذا جاء القدر خليا بينه وبينه وإن الأجل جنة حصينة وقال مجاهد ما من عبد إلا وله ملك يحفظه في نومه ويقظته من الجن والإنس والهوام فما من شيء يأتيه إلا قال له وراءك إلا شيئًا أذن الله فيه فيصيبه.

وخرج الإمام أحمد وأبو داود والنسائي من حديث ابن عمر قال لم يكن رسول الله ﷺ يدع هؤلاء الدعوات حين يمسي وحين يصبح اللهم إني أسألك العافية في الدنيا والآخرة اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي وأهل ومالي اللهم استر عوراتي وآمن روعاتي واحفظني من بين يدي ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي ومن فوقي وأعوذ بعظمتك أن أغتال من تحتي ومن حفظ الله في صباه وقوته حفظه الله في حال كبره وضعف قوته ومتعه بسمعه وبصره وحوله وقوته وعقله.

وكان بعض العلماء قد جاوز المائة سنة وهو ممتع بقوته وعقله فوثب يومًا وثبة شديدة فعوتب في ذلك فقال هذه جوارح حفظناها عن المعاصي في الصغر فحفظها الله علينا في الكبر.

وعكس هذا أن بعض السلف رأى شيخًا يسأل الناس فقال إن هذا ضعيف ضيع الله في صغره فضيعه الله في كبره وقد يحفظ الله العبد بصلاحه بعد موته في ذريته كما قيل في قوله تعالى {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا} الكهف أنهما حفظا بصلاح أبيهما قال سعيد بن المسيب لابنه لأزيدن في صلاتي من أجلك رجاء أن أحفظ فيك ثم تلا هذه الآية {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا}.

وقال عمر بن عبدالعزيز ما من مؤمن يموت إلا حفظه الله في عقبه وعقب عقبه.

وقال ابن المنكدر إن الله ليحفظ بالرجل الصالح ولده وولد ولده والدويرات التي حوله فما يزالون في حفظ من الله وستر ومتى كان العبد مشتغلًا بطاعة الله فإن الله يحفظه في تلك الحال.

وفي مسند الإمام أحمد عن النبي ﷺ قال كانت امرأة في بيت فخرجت في سرية من المسلمين وتركت ثنتي عشرة عنزة وصيصتها كانت تنسج بها قال ففقدت عنزة لها وصيصيتها فقالت يا رب إنك قد ضمنت لمن خرج في سبيلك أن تحفظ عليه وإني قد فقدت عنزا من غنمي وصيصيتي وإني أنشدك عنزة لي وصيصيتي قال وجعل النبي ﷺ يذكر شدة مناشدتها ربها تبارك وتعالى قال رسول الله ﷺ فأصبحت عنزها ومثلها وصيصيتها هي الصنارة التي يغزل بها وينسج فمن حفظ الله حفظه الله من كل أذى قال بعض السلف من اتقى الله فقد حفظ نفسه ومن ضيع تقواه فقد ضيع نفسه والله غنى عنه ومن عجيب حفظ الله لمن حفظه أن يجعل الحيوانات المؤذية بالطبع حافظة له من الأذى كما جرى لسفينة مولى النبي ﷺ حيث كسر به المركب وخرج إلى جزيرة فرأى الأسد فجعل يمشي معه حتى دله على الطريق فلما أوقفه عليها جعل يهمهم كأنه يودعه ثم رجع عنه.

ورؤي إبراهيم بن أدهم نائمًا في بستان وعنده حية في فمها طاقة نرجس فما زالت تذب عنه حتى استيقظ وعكس هذا أن من ضيع الله ضيعه الله فضاع بين خلقه حتى يدخل عليه الضرر والأذى ممن كان يرجو نفعه من أهله وغيرهم.

كما قال بعض السلف إني لأعصي الله فأعرف ذلك في خلق خادمي ودابتي النوع الثاني من الحفظ وهو أشرف النوعين حفظ الله للعبد في دينه وإيمانه فيحفظه في حياته من الشبهات المضلة ومن الشهوات المحرمة ويحفظ عليه دينه عند موته فيتوفاه على الإيمان.

قال بعض السلف إذا حضر الرجل الموت يقال للملك شم رأسه قال أجد في رأسه القرآن قال شم قلبه قال أجد في قلبه الصيام قال شم قدميه قال أجد في قدميه القيام قال حفظ نفسه فحفظه الله.

وفي الصحيحين عن البراء بن عازب عن النبي ﷺ أنه أمره أن يقول عند منامه إن قبضت نفسي فارحمها وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين وفي حديث عمر أن النبي ﷺ علمه أن يقول اللهم احفظني بالإسلام قائمًا واحفظني بالإسلام قاعدًا واحفظني بالإسلام راقدًا ولا تطمع في عدوًا ولا حاسدًا.

خرجه ابن حبان في صحيحه، وكان النبي ﷺ يودع من أراد سفرًا فيقول استودع الله دينك وأمانتك وخواتيم عملك وقال ﷺ إن الله إذا استودع شيئًا حفظه خرجه النسائي وغيره.

وفي الجملة فإن الله عز وجل يحفظ المؤمن الحافظ لحدود دينه ويحول بينه وبين ما يفسد عليه دينه بأنواع من الحفظ وقد لا يشعر العبد ببعضها وقد يكون كارهًا له كما قال في حق يوسف عليه السلام {كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين} يوسف.

قال ابن عباس في قوله تعالى {أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} قال يحول بين المؤمن وبين المعصية التي تجره إلى النار.

وقال الحسن وذكر أهل المعاصي هانوا عليه فعصوه ولو عزوا عليه لعصمهم.

وقال ابن مسعود إن العبد ليهم بالأمر من التجارة والإمارة حتى ييسر له فينظر الله إليه فيقول للملائكة اصرفوه عنه فإنه إن يسرته له أدخلته النار فيصرفه الله عنه فيظل يتطير بقوله سبني فلان وأهانني فلان وما هو إلا فضل الله عز جل.

وخرجه الطبراني من حديث أنس عن النبي ﷺ يقول الله عز وجل إن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا الفقر وإن بسط عليه أفسده ذلك وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا الغني ولو أفقرته لأفسده ذلك وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا الصحة ولو أسقمته لأفسده ذلك وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا السقم ولو أصححته لأفسده ذلك وإن من عبادي من يطلب بابًا من العبادة فأكفه عنه لكيلا يدخله العجب إني أدبر أمر عبادي بعلمي بما في قلوبهم إني عليم خبير.

وقال ﷺ احفظ الله تجده تجاهك وفي رواية أمامك معناه أن من حفظ حدود الله وراعى حقوقه وجد الله معه في كل أحواله حيث توجه يحوطه وينصره ويحفظه ويوفقه ويسدده إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون قال قتادة من يتق الله يكن معه ومن يكن الله معه فمعه الفئة التي لا تغلب والحارس الذي لا ينام والهادي الذي لا يضل بل كتب بعض السلف إلى أخ له أما بعد فإن كان الله معك فمن تخاف وإن كان عليك فمن ترجو وهذه المعية الخاصة هي المذكورة في قوله تعالى لموسى وهارون {لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} طه وقول موسى {كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} الشعراء.

وفي قول النبي ﷺ لأبي بكر وهما في الغار ما ظنك باثنين الله ثالثهما {لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} التوبة فهذه المعية الخاصة تقتضي النصر والتأييد والحفظ والإعانة بخلاف المعية المذكورة في قوله تعالى {مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} المجادلة، وقوله {وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ} النساء فإن هذه المعية تقتضي علمه واطلاعه ومراقبته لأعمالهم فهي مقتضية لتخويف العباد منه والمعية الأولي تقتضي حفظه وحياطته ونصره فمن حفظ الله وراعى حقوقه وجده أمامه وتجاهه على كل حال فاستأنس به واستغنى عن خلقه كما في حديث أفضل الإيمان أن يعلم العبد أن الله معه حيث كان وقد سبق وروي عن نبهان الحمال أنه دخل البرية وحده على طريق تبوك فاستوحش فهتف به هاتف لم تستوحش أليس حبيبك معك وقيل لبعضهم ألا تستوحش وحدك فقال كيف أستوحش وهو يقول أنا جليس من ذكرني وقيل لآخر نراك وحدك فقال من يكن الله معه كيف يكون وحده وقيل لآخر أما معك مؤنس قال بلى قيل أين هو قال أمامي ومعي وخلفي وعن يميني وعن شمالي وفوقي، وكان الشبلي ينشد:

إذا نحن أدجلنا وأنت أمامنا كفى لمطايانا بذكرك هاديا

، وقوله ﷺ تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة يعني أن العبد إذا اتقى الله وحفظ حدوده وراعى حقوقه في حال رخائه فقد تعرف بذلك إلى الله وصار بينه وبين ربه معرفة خاصة فعرفه ربه في الشدة روعي له تعرفه إليه في الرخاء فنجاه من الشدائد بهذه المعرفة وهذه معرفة خاصة تقتضي قرب العبد من ربه ومحبته له وإجابته لدعائه فمعرفة العبد لربه نوعان أحدهما المعرفة العامة وهي معرفة الإقرار به والتصديق والإيمان وهو عامة للمؤمنين والثاني معرفة خاصة تقتضي ميل القلب إلى الله بالكلية والانقطاع إليه والأنس به والطمأنينة بذكره والحياء منه والهيبة له وهذه المعرفة الخاصة هي التي يدور حولها العارفون كما قال بعضهم مساكين أهل الدنيا خرجوا منها وما ذاقوا أطيب ما فيها قيل له وما هو قال معرفة الله عز وجل.

وقال أحمد بن عاصم الأنطاكي أحب أن لا أموت حتى أعرف مولاي وليس معرفته الإقرار به ولكن المعرفة إذا عرفته استحييت منه ومعرفة الله أيضًا لعبده نوعان معرفة عامة وهي علمه تعالى بعباده واطلاعه على ما أسروه وما أعلنوه كما قال ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ق قال هو أعلم بكم إذا أنشأكم من الأرض وإذا أنتم أجنة في بطون أمهاتكم النجم والثاني معرفة خاصة وهي تقتضي محبته لعبده وتقريبه إليه وإجابة دعائه وإنجائه من الشدائد وهي المشار إليها بقوله ﷺ فيما يحكي عن ربه ولا يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه وفي رواية ولئن دعاني لأجيبنه ولما هرب الحسن من الحجاج دخل إلى بيت حبيب بن محمد فقال له حبيب يا أبا سعيد أليس بينك وبين ربك ما تدعوه به فيسترك من هؤلاء ادخل البيت فدخل ودخل الشرط على أثره فلم يروه فذكر ذلك للحجاج فقال بل كان في البيت إلا أن الله طمس أعينهم فلم يروه واجتمع الفضيل بن عياض بشعوانه العابدة فسألها الدعاء فقالت يا فضيل وما بينك وبينه ما إن دعوته أجابك فغشي على الفضيل وقيل لمعروف وما الذي هيجك إلى الانقطاع والعبادة وذكرت الموت والبرزخ والجنة والنار فقال معروف إن ملكا هذا كله بيده إن كانت بينك وبينه معرفة كفاك جميع هذا وفي الجملة فمن عامل الله بالتقوى والطاعة في حال رخائه عامله الله باللطف والإعانة في حال شدته.

وخرج الترمذي من حديث أبي هريرة عن النبي ﷺ من سره أن يستجيب الله له عند الشدائد فليكثر الدعاء في الرخاء.

وخرج ابن أبي حاتم وغيره من رواية أبي يزيد الرقاشي عن أنس يرفعه أن يونس عليه الصلاة والسلام لما دعا في بطن الحوت قالت الملائكة يا رب هذا صوت معروف من بلاد غريبة فقال الله عز وجل أما تعرفون ذلك قالوا ومن هو قال عبدي يونس قالوا عبدك يونس الذي لم يزل يرفع له عمل متقبل ودعوة مستجابة قال نعم قالوا يا رب أفلا ترحم ما كان يصنع في الرخاء فتنجيه من البلاء قال بلى قال فأمر الله الحوت فطرحه بالعراء وقال الضحاك بن قيس اذكروا الله في الرخاء يذكركم في الشدة إن يونس عليه الصلاة والسلام كان يذكر الله تعالى فلما وقع في بطن الحوت قال الله تعالى {فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ. لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} الصافات وإن فرعون كان طاغيًا ناسيًا لذكر الله فلما أدركه الغرق قال آمنت فقال الله تعالى {آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} يونس.

وقال سلمان الفارسي إذا كان الرجل دعا في السر فنزلت به ضراء فدعا الله تعالى قالت الملائكة صوت معروف فشفعوا له وإذا كان ليس بدعاء في السراء فنزلت به ضراء فدعا الله تعالى قالت الملائكة صوت ليس بمعروف فلا يشفعون له.

وقال رجل لأبي الدرداء أوصني فقال اذكر الله في السراء يذكرك الله عز وجل في الضراء.

وعنه أنه قال ادع الله في يوم سرائك لعله أن يستجيب لك في يوم ضرائك وأعظم الشدائد التي تنزل بالعبد في الدنيا الموت وما بعده أشد منه إن لم يكن مصير العبد إلى خير فالواجب على المؤمن الاستعداد للموت وما بعده في حال الصحة بالتقوى والأعمال الصالحة قال الله عز وجل {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ. وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} الحشر فمن ذكر الله في حال صحته ورخائه واستعد حينئذ للقاء الله عز وجل بالموت وما بعده ذكره الله عند هذه الشدائد فكان معه فيها ولطف به وأعانه وتولاه وثبته على التوحيد فلقيه وهو عنه راض ومن نسي الله في حال صحته ورخائه ولم يستعد حينئذ للقائه نسيه الله في هذه الشدائد بمعنى أنه أعرض عنه فأهمله فإذا نزل الموت بالمؤمن المستعد له أحسن الظن بربه وجاءته البشرى من الله فأحب لقاء الله وأحب الله لقاءه والفاجر بعكس ذلك وحينئذ يفرح المؤمن ويستبشر بما قدمه مما هو قادم عليه ويندم المفرط ويقول {يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ}.

قال أبو عبدالرحمن السلمي قبل موته كيف لا أرجو ربي وقد صمت له ثمانين رمضان.

وقال أبو بكر بن عياش لابنه عند موته أترى الله يضيع لأبيك أربعين سنة يختم القرآن كل ليلة.

وختم آدم بن أبي إياس القرآن وهو مسجي للموت ثم قال بحبي لك ألا رفقت بي في هذا المصرع كنت آملك لهذا اليوم كنت أرجوك لا إله إلا الله ثم قضى.

ولما احتضر زكريا بن عدي رفع يديه وقال اللهم إني إليك لمشتاق.

وقال عبدالصمد الزاهد عند موته سيدي لهذه الساعة خبأتك فلهذا اليوم اقتنيتك حقق حسن ظني بك.

وقال قتادة في قول الله عز وجل {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا} الطلاق قال من الكرب عند الموت.

وقال على بن أبي طلحة عن ابن عباس في هذه الآية ينجيه من كل كرب في الدنيا والآخرة.

وقال زيد بن أسلم في قوله عز وجل {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا} فصلت.

قال يبشر بذلك عند موته وفي قبره وحين يبعث فإنه لفي الجنة وما ذهبت فرحة البشارة من قلبه.

وقال ثابت البناني في هذه الآية بلغنا أن المؤمن حيث يبعثه الله من قبره ويتلقاه ملكاه اللذان كانا معه في الدنيا فيقولان له لا تخف ولا تحزن فيؤمن من الله خوفه ويقر الله عينه فما من عظيمة تغشى الناس يوم القيامة إلا هي للمؤمن قرة عين لما هداه الله ولما كان يعمل في الدنيا.

وقوله ﷺ إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله هذا منزع من قوله تعالى {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فإن السؤال هو دعاؤه والرغبة إليه والدعاء هو العبادة كذا روي عن النبي ﷺ من حديث النعمان بن بشير وتلا قوله تعالى {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} خرجه الإمام وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه.

وخرج الترمذي من حديث انس بن مالك عن النبي ﷺ الدعاء مخ العبادة فتضمن هذا الكلام أن يسأل الله عز وجل ولا يسأل غيره وأن يستعان بالله دون غيره وأما السؤال فقد أمر الله بسؤاله فقال واسألوا الله من فضله وفي الترمذي عن ابن مسعود مرفوعًا سلوا الله من فضله فإن الله يحب أن يسأل.

وفيه أيضًا عن أبي هريرة مرفوعًا من لا يسأل الله يغضب عليه وفي حديث آخر يسأل أحدكم ربه حاجته كلها حتى يسأل شسع نعله إذا انقطع.

وفي النهي عن مسئلة المخلوقين أحاديث كثيرة صحيحة وقد بايع النبي ﷺ جماعة من أصحابه على أن لا يسألوا الناس شيئًا منهم أبو بكر الصديق وأبو ذر وثوبان، وكان أحدهم يسقط السوط أو خطام ناقته فلا يسأل أحدًا أن يناوله إياه.

وخرج ابن أبي الدنى من حديث أبي عبيدة بن عبدالله بن مسعود أن رجلًا جاء إلى النبي ﷺ فقال يا رسول الله إن بني فلان أغاروا علي فذهبوا بابني وإبلي فقال له النبي ﷺ إن آل محمد كذا وكذا أهل بيت مالهم مد من طعام أو صاع فاسأل الله عز وجل فرجع إلى امرأته فقالت ما قال لك فأخبرها فقالت نعم ما رد عليك فما لبث أن رد الله عليه ابنه وإبله أوفر ما كانت فأتى النبي ﷺ فأخبره فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه وأمر الناس بمسئلة الله عز وجل والرغبة إليه وقرأ {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا. وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} الطلاق.

وقد ثبت في الصحيحين عن النبي ﷺ أن الله عز وجل يقول هل من داع فأستجيب له دعاءه هل من سائل فأعطيه سؤله هل من مستغفر فأغفر له.

وخرج المحاملي وغيره من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال قال الله تعالى من ذا الذي دعاني فلم أجبه وسألني فلم أعطه واستغفرني فلم أغفر له وأنا أرحم الراحمين.

واعلم أن سؤال الله عز وجل دون خلقه هو المتعين لأن السؤال فيه إظهار الذل من السائل والمسكنة والحاجة والافتقار وفيه الاعتراف بقدرة المسئول على رفع هذا الضر ونيل المطلوب وجلب المنافع ودرء المضار ولا يصلح الذل والافتقار إلا الله وحده لأنه حقيقة العبادة.

وكان الإمام أحمد يدعو ويقول اللهم كما صنت وجهي عن السجود لغيرك فصنه عن المسئلة لغيرك ولا يقدر على كشف الضر وجلب النفع سواك كما قال {وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ} يونس وقال {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ} فاطر.

والله سبحانه يحب أن يسئل ويرغب إليه في الحوائج ويلح في سؤاله ودعائه ويغضب على من لا يسأله ويستدعي من عباده سؤاله وهو قادر على إعطاء خلقه كلهم سؤلهم من غير أن ينقص من ملكه شيء والمخلوق بخلاف ذلك يكره أن يسأل ويحب أن لا يسأل لعجزه وفقره وحاجته.

ولهذا قال وهب بن منبه لرجل كان يأتي الملوك ويحك تأتي من يغلق عنك بابه ويظهر لك فقره ويواري عنك غناه وتدع من يفتح لك بابه نصف الليل ونصف النهار ويظهر لك غناه ويقول ادعني أستجب لك.

وقال طاووس لعطاء إياك أن تطلب حوائجك إلى من أغلق بابه دونك ويجعل دونها حجابه وعليك بمن بابه مفتوح إلى يوم القيامة أمرك أن تسأله ووعدك أن يجيبك وأما الاستعانة بالله عز وجل دون غيره من الخلق فلأن العبد عاجز عن الاستقلال بجلب مصالحه ودفع مضاره ولا معين له على مصالح دينه ودنياه إلا الله عز وجل فمن أعانه الله فهو المعان ومن خذله فهو المخذول وهذا تحقيق معنى قول لا حول ولا قوة إلا بالله فإن المعنى لا تحول للعبد من حال إلى حال ولاقوة له على ذلك إلا بالله وهذه كلمة عظيمة وهي كنز من كنوز الجنة فالعبد محتاج إلى الاستعانة بالله في فعل المأمورات وترك المحظورات والصبر على المقدورات كلها في الدنيا وعند الموت وبعده من أهوال البرزخ ويوم القيامة ولا يقدر على الإعانة على ذلك إلا الله عز وجل فمن حقق الاستعانة عليه في ذلك كله أعانه.

وفي الحديث الصحيح عن النبي ﷺ قال احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز ومن ترك الاستعانة بالله واستعان بغيره وكله الله إلى من استعان به فصار مخذولًا كتب الحسن إلى عمر بن العزيز لا تستعن بغير الله فيكلك الله إليه ومن كلام بعض السلف يا رب عجبت لمن يعرفك كيف يرجو غيرك وعجبت لمن يعرفك كيف يستعين بغيرك قوله ﷺ جف القلم بما هو كائن.

وفي رواية أخرى رفعت الأقلام وجفت الصحف هو كناية عن تقدم كتابة المقادير كلها والفراغ منها من أمد بعيد فإن الكتاب إذا فرغ من كتابه ورفعت الأقلام عنه وطال عهده فقد رفعت عنه الأقلام وجفت الأقلام التي كتب بها من مدادها وجفت الصحف التي كتب فيها بالمداد المكتوب به فيها وهذا من أحسن الكنايات وأبلغها وقد دل الكتاب والسنن الصحيحة الكثيرة على مثل هذا المعنى قال الله تعالى {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} الحديد.

وفي صحيح مسلم عن عبدالله بن عمرو عن النبي ﷺ قال إن الله كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة وفيه أيضًا عن جابر أن رجلًا قال يا رسول الله ففيم العمل اليوم أفيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير أم فيما يستقبل قال لا بل فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير قال ففيم العمل قال اعملوا فكل ميسر لما خلق له.

وخرج الإمام أحمد وأبو داود والترمذي من حديث عبادة بن الصامت عن النبي ﷺ قال إن أول ما خلق الله القلم ثم قال اكتب فكتب في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة والأحاديث في هذا المعنى كثيرة جدًا يطول ذكرها قوله ﷺ فلو أن الخلق جميعا أرادوا أن ينفعوك بشيء لم يقضه الله عليك لم يقدروا عليه وإن أرادوا أن يضروك بشيء لم يكتبه الله عليك لم يقدروا عليه هذه رواية الإمام أحمد ورواية الترمذي بهذا المعنى أيضًا والمراد إنما يصيب العبد في دنياه مما يضره أو ينفعه فكله مقدر عليه ولا يصيب العبد إلا ما كتب له من مقادير ذلك في الكتاب السابق ولو اجتهد على ذلك الخلق كلهم جميعا وقد دل القرآن على مثل هذا في قوله عز رجل قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا التوبة، وقوله ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها الحديد، وقوله قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم آل عمران.

وخرج الإمام أحمد من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال إن لكل شيء حقيقة وما بلغ عبد حقيقة الإيمان حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وإن ما أخطأه لم يكن ليصيبه.

وخرج أبو داود وابن ماجه من حديث زيد بن ثابت عن النبي ﷺ معنى ذلك أيضًا واعلم أن مدار جميع هذه الوصية على هذا الأصل وما ذكر قبله وبعده فهو متفرع عليه وراجع إليه فإن العبد إذا علم أن لن يصيبه إلا ما كتب الله له من خير وشر ونفع وضر وأن اجتهاد الخلق كلهم على خلاف المقدور غير مفيد البتة علم حينئذ أن الله وحده هو الضار النافع المعطي المانع فأوجب ذلك للعبد توحيد ربه عز وجل وإفراده بالطاعة وحفظ حدوده فإن المعبود إنما يقصد بعبادته جلب المنافع ودفع المضار ولهذا ذم الله من يعبد من لا ينفع ولا يضر ولا يغني عن عابده شيئًا فمن يعلم أنه لا ينفع ولا يضر ولا يعطي ولا يمنع غير الله أوجب له ذلك إفراده بالخوف والرجاء والمحبة والسؤال والتضرع والدعاء وتقديم طاعته على طاعة الخلق جميعا وأن يتقي سخطه ولو كان فيه سخط الخلق جميعا وإفراده بالاستعانة به والسؤال له وإخلاص الدعاء له في حال الشدة وحال الرخاء خلاف ما كان المشركون عليه من إخلاص الدعاء له عند الشدائد ونسيانه في الرخاء ودعاء من يرجون نفعه من دونه قال الله عز وجل {قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} الزمر.

وقوله ﷺ واعلم أن في الصبر على ما تكره خيرًا كثيرًا يعني أن ما أصاب العبد من المصائب المؤلمة المكتوبة عليه إذا صبر عليها كان له في الصبر خير كثير وفي رواية عمر مولى عفرة وغيره عن ابن عباس زيادة أخرى قبل هذا الكلام وهي فإن استطعت أن تعمل لله بالرضا في اليقين فافعل فإن لم تستطع فإن في الصبر على ما تكره خيرًا كثيرًا.

وفي رواية أخرى من رواية على بن عبدالله بن عباس عن أبيه لكن إسنادها ضعيف زيادة أخرى بعد هذا وهي قلت يا رسول الله كيف أصنع باليقين قال أن تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن لصيبك فإذا أنت أحكمت باب اليقين ومعنى هذا أن حصول اليقين للقلب بالقضاء السابق والتقدير الماضي يعني أن العبد يجهد على أن يرضي نفسه بما أصابه فمن استطاع أن يعمل في اليقين بالقضاء والقدر على الرضا بالمقدور فليفعل فإن لم يستطع الرضا فإن في الصبر على المكروه خيرًا كثيرًا فهاتان درجتان للمؤمن بالقضاء والقدر في المصائب أحدهما أن يرضى بذلك وهي درجة عالية رفيعة جدًا قال الله عز وجل {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ}.

قال علقمة هي المصيبة تصيب الرجل فيعلم أنها من عند الله فيسلم لها ويرضى.

وخرج الترمذي من حديث أنس عن النبي ﷺ قال إن الله إذا أحب قومًا ابتلاهم فمن رضي فله الرضا ومن سخط فله السخط، وكان النبي ﷺ يقول في دعائه أسألك الرضا بعد القضاء ومما يدعو المؤمن إلى الرضا بالقضاء تحقيق إيمانه بمعنى قول النبي ﷺ لا يقضي الله للمؤمن من قضاء إلا كان خيرًا له إن أصابته سراء شكر، وكان خيرًا له وإن أصابته ضراء صبر، وكان خيرًا له وليس ذلك إلا للمؤمن وجاء رجل إلى النبي ﷺ فسأله أن يوصيه وصية جامعة موجزة فقال لا تتهم الله في قضائه.

قال أبو الدرداء إن الله إذا قضى قضاء أحب أن يرضى به.

وقال ابن مسعود إن الله بقسطه وعدله جعل الروح والفرح في اليقين والرضا وجعل الهم والحزن في الشك والسخط في الرضا أن لا يتمنى غير ما هو عليه من شدة ورخاء كذا روي عن عمر وابن مسعود وغيرهما وقال عمر بن عبدالعزيز أصبحت ومالي سرور إلا في مواقع القضاء والقدر فمن وصل إلى هذه الدرجة كان عيشه كله في نعيم وسرور قال الله تعالى {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً}.

قال بعض السلف الحياة الطيبة هي الرضا والقناعة وقال عبدالواحد بن زيد الرضا باب الله الأعظم وجنة الدنيا ومستراح العابدين وأهل الرضا تارة يلاحظون حكمة المبتلي وخيرته لعبده في البلاء وأنه غير متهم في قضائه وتارة يلاحظون ثواب الرضا بالقضاء فينسيهم ألم المقضي به وتارة يلاحظون عظمة المبتلي وجلاله وكماله فيستغرقون في مشاهدة ذلك حتى لا يشعرون بالألم وهذا يصل إليه خواص أهل المعرفة والمحبة حتى ربما تلذذوا بما أصابهم لملاحظتهم صدوره عن حبيبهم كما قال بعضهم أوجدهم في عذابه عذوبة وسئل بعض التابعين عن حاله في مرضه فقال أحبه إليه أحب إلي وسئل سري هل يجد المحب ألم البلاء فقال لا وقال بعضهم:

عذابه فيك عذب *** وبعده فيك قرب

وأنت عندي كروحي *** بل أنت منها أحب

حسبي من الحب أني *** لما تحب أحب

والدرجة الثانية أن يصبر على البلاء وهذه لمن لم يستطع الرضا بالقضاء فالرضا فضل مندوب إليه مستحب والصبر واجب على المؤمن حتم وفي الصبر خير كثير فإن الله أمر به ووعد عليه جزيل الأجر قال الله عز وجل {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ} الزمر وقال {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ. الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ. أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} البقرة.

قال الحسن الرضا عزيز ولكن الصبر معول المؤمن والفرق بين الرضا والصبر أن الصبر كف النفس وحبسها عن السخط مع وجود الألم وتمني زوال ذلك وكف الجوارح عن العمل بمقتضى الجزع والرضا انشراح الصدر وسعته بالقضاء وترك تمني زوال الألم وإن وجد الإحساس بألم لكن الرضا يخففه ما يباشر القلب من روح اليقين والمعرفة وإذا قوي الرضا فقد يزيل الإحساس بالألم بالكلية كما سبق، وقوله ﷺ واعلم أن النصر مع الصبر هذا موافق لقول الله عز وجل {قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُوا اللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} البقرة، وقوله {فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} الأنفال.

وقال عمر لأشياخ من بني عبس بم قاتلتم الناس قالوا بالصبر لم نلق قومًا إلا صبرنا لهم كما صبروا لنا.

وقال بعض السلف كلنا يكره الموت وألم الجراح ولكن نتفاضل بالصبر.

وقال ابن بطال الشجاعة صبر ساعة.

وهذا في جهاد العدو الظاهر وهو جهاد الكفار، وكذلك جهاد العدو الباطن وهو جهاد النفس والهوى فإن جهادهما من أعظم الجهاد كما قال النبي ﷺ المجاهد من جاهد نفسه في الله.

وقال عبدالله بن عمر لمن سأله عن الجهاد أبدًا بنفسك فجاهدها وابدأ بنفسك فاغزها.

وقال بقية بن الوليد أخبرنا إبراهيم بن أدهم قال حدثنا الثقة عن على بن أبي طالب قال أول ما تنكرون من جهادكم أنفسكم.

وقال إبراهيم بن أبي علقمة لقوم جاءوا من الغزو قد جئتم من الجهاد الأصغر فما فعلتم في الجهاد الأكبر قالوا وما الجهاد الأكبر قال جهاد القلب.

ويروى هذا مرفوعًا من حديث جابر بإسناد ضعيف ولفظه قدمتم من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر قالوا وما الجهاد الأكبر قال مجاهدة العبد لهواه.

ويروى من حديث سعد بن أنس عن النبي ﷺ قال ليس عدوك الذي إذا قتلك أدخلك الجنة وإذا قتلته كان نورا لك وإنما أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك.

وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه في وصيته لعمر حين استخلفه إن أول ما أحذرك نفسك التي بين جنبيك فهذا الجهاد يحتاج أيضًا إلى صبر فمن صبر على مجاهدة نفسه وهواه وشيطانه غلبه وحصل له النصر والظفر وملك نفسه فصار ملكًا عزيزًا ومن جزع ولم يصبر على مجاهدة ذلك غلب وقهر وأسر وصار عبدًا ذليلا أسيرا في يد شيطانه وهواه كما قيل:

إذا المرء لم يغلب هواه أقامه *** بمنزلة فيها العزيز ذليل

قال ابن المبارك من صبر فما أقل ما يصبر ومن جزع فما أقل ما يتمتع فقوله ﷺ إن النصر مع الصبر يشمل النصر في الجهادين جهاد العدو الظاهر وجهاد العدو الباطن فمن صبر فيهما نصر وظفر بعدوه ومن لم يصبر فيهما وجزع قهر وصار أسيرا لعدوه أو قتيلا له، وقوله ﷺ وإن الفرج مع الكرب وهذا يشهد له قوله عز وجل {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ} الشورى وقول النبي ﷺ ضحك ربنا من قنوط عباده وقرب غيره.

خرجه الإمام أحمد وخرجه ابنه عبدالله في حديث طويل وفيه علم الله يوم الغيث أنه يشرف عليكم أذلين قنطين فيظل يضحك قد علم أن غيركم إلى قرب والمعنى أنه سبحانه يعجب من قنوط عباده عند احتباس القطر عنهم وقنوطهم ويأسهم من الرحمة وقد اقترب وقت فرجه ورحمته لعباده بإنزال الغيث عليهم وتغيره لحالهم وهم لا يشعرون وقال تعالى {فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ. وَإِن كَانُوا مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِم مِّن قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ} الروم وقال تعالى {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا} يوسف وقال تعالى {حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} البقرة وقال حاكيا عن يعقوب أنه قال لبنيه يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تيأسوا من روح الله ثم قص قصة اجتماعهم عقب ذلك وكم قص سبحانه من قصص تفريج كربات أنبيائه عند تناهي الكرب كإنجاء نوح ومن معه في الفلك وإنجاء إبراهيم من النار وفدائه لولده الذي أمر بذبحه وإنجاء موسى وقومه من اليم وإغراق عدوهم وقصة أيوب ويونس وقصص محمد ﷺ مع أعدائه وإنجائه منهم كقصته في الغار ويوم بدر ويوم أحد ويوم الأحزاب ويوم حنين وغير ذلك، وقوله ﷺ فإن مع العسر يسرا هو منتزع من قوله تعالى {سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا}، وقوله عز وجل {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا. إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا}.

وخرج البزار في مسنده وابن أبي حاتم واللفظ له من حديث أنس عن النبي ﷺ قال لو جاء العسر فدخل هذا الجحر لجاء اليسر حتى يدخل عليه فيخرجه فأنزل الله عز وجل {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا. إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا}.

وخرج البزار في مسنده وابن أبي حاتم واللفظ له من حديث أنس مرسلًا نحوه وفي حديثه فقال النبي ﷺ لن يغلب عسر يسرين وروى ابن أبي الدنيا بإسناده عن ابن مسعود قال لو أن العسر دخل في جحر لجاء اليسر حتى يدخل معه ثم قال قال الله تعالى {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا. إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا}.

وبإسناده أن أبا عبيدة حضر فكتب عمر يقول مهما ينزل بامريء شدة يجعل الله بعدها فرجا وإنه لن يغلب عسر يسرين وإنه يقول {اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} آل عمران.

ومن لطائف أسرار أقتران الفرج بالكرب واليسر بالعسر أن الكرب إذا اشتد وعظم وتناهى وحصل للعبد اليأس من كشفه من جهة المخلوقين وتعلق قلبه بالله وحده وهذا هو حقيقة التوكل على الله وهو من أعظم الأسباب التي تطلب بها الحوائج فإن الله يكفي من توكل عليه كما قال تعالى {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} الطلاق.

وروى آدم بن أبي إياس في تفسيره عن محمد بن إسحاق قال جاء مالك الأشجعي إلى النبي ﷺ فقال أسر ابني عوف فقال له أرسل إليه أن رسول الله ﷺ يأمرك أن تكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله فأتاه الرسول فأخبره فأكب عوف يقول لا حول ولا قوة إلا بالله وكانوا قد شدوه بالقد فسقط القد عنه فخرج فإذا هو بناقة لهم فركبها فأقبل فإذا هو بسرح القوم الذين كانوا قد شدوه فصاح بهم فاتبع آخرها أولها فلم يفاجأ أبويه إلا هو ينادي بالباب فقال أبوه عوف ورب الكعبة فقالت أمه واسوأتاه عوف كئيب بألم ما فيه من القد فاستبق الأب والخادم إليه فإذا عوف قد ملأ الفناء إبلًا فقص على أبيه أمره وأمر الإبل فأتى أبوه رسول الله ﷺ فأخبره بخبر عوف وخبر الإبل فقال له رسول الله ﷺ اصنع بها ما أحببت وما كنت صانعًا بإبلك ونزل ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على فهو حسبه الحشر قال الفضيل لو يئست من الخلق حتى لا تريد منهم شيئًا لأعطاك مولاك كل ما تريد وذكر إبراهيم بن أدهم عن بعضهم قال ما سأل السائلون مسئلة هي ألحلف من أن يقول العبد ما شاء الله قال يعني بذلك التفويض إلى الله عز وجل.

وقال سعيد بن سالم القداح بلغني أن موسى عليه الصلاة والسلام كانت له إلى الله حاجة فأبطأت عليه فقال ما شاء الله فإذا حاجته بين يديه فعجب فأوحى الله إليه أما علمت أن قولك ما شاء الله أنجح ما طلبت به الحوائج وأيضا فإن المؤمن إذا استبطأ الفرج وأيس منه بعد كثرة دعائه وتضرعه ولم يظهر عليه أثر الإجابة فرجع إلى نفسه باللائمة وقال لها إنما أتيت من قبلك ولو كان فيك خير لأجبت وهذا اللوم أحب إلى الله من كثير من الطاعات فإنه يوجب انكسار العبد لمولاه واعترافه له بأنه أهل لما نزل من البلاء وأنه ليس أهلا لإجابة الدعاء فلذلك تسرع إليه حينئذ إجابة الدعاء وتفريج الكرب فإنه تعالى عند المنكسرة قلوبهم من أجله قال وهب تعبد رجل زمانا ثم بدت له إلى الله حاجة فقام سبعين سبتًا يأكل في كل سبت إحدى عشرة تمرة ثم سأل الله حاجته فلم يعطها فرجع إلى نفسه فقال منك أتيت لو كان فيك خيرًا أعطيت حاجتك فنزل إليه عند ذلك ملك فقال له يا ابن آدم ساعتك هذه خير من عبادتك التي مضت وقد قضى الله حاجتك خرجه ابن أبي الدنيا ولبعض المتقدمين في هذا المعنى:

عسى ما ترى أن لا يدوم وإن ترى *** له فرجًا مما ألح به الدهر

عسى فرج يأتي به الله إنه *** له كل يوم في خليقته أمر إذا لاح عسر فارتج اليسر إنه *** قضى الله أن العسر يتبعه اليسر

================

الحديث العشرون

عن أبي مسعود عقبة بن عمرو الأنصاري البدري رضي الله عنه قال قال رسول الله ﷺ إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت . رواه البخاري.

هذا الحديث خرجه البخاري من رواية منصور بن المعتمر عن ربعي بن خراش عن أبي مسعود عن حذيفة عن النبي ﷺ فاختلف في إسناده لكن أكثر الحفاظ حكموا بأن القول قول من قال عن أبي مسعود منهم البخاري وأبو زرعة الرازي والدارقطني وغيرهم ويدل على صحة ذلك أنه قد روي من وجه آخر عن أبي مسعود من رواية مسروق عنه وخرجه الطبراني من حديث أبي الطفيل عن النبي ﷺ أيضًا.

فقوله ﷺ إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى يشير إلى أن هذا مأثور عن الأنبياء المتقدمين وأن الناس تداولوه بينهم وتوارثوه عنهم قرنا بعد قرن وهذا يدل على أن النبوة المتقدمة جاءت بهذا الكلام وأنه اشتهر بين الناس حتى وصل إلى أول هذه الأمة وفي بعض الروايات قال لم يدرك الناس من كلام النبوة الأولى إلا هذا خرجها عبيد بن زنجويه وغيره.

وقوله إذا لم تستح فاصنع ما شئت في معناه قولان:

أحدهما أنه ليس بمعنى الأمر أن يصنع ما شاء ولكنه على معنى الذم والنهي عنه وأهل هذه المقالة لهم طريقان أحدهما أنه أمر بمعنى التهديد والوعيد والمعني إذا لم يكن حياء فاعمل ما شئت فالله يجازيك عليه كقوله {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}، وقوله {فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُم مِّن دُونِهِ}.

وقول النبي ﷺ من باع الخمر فليشقص الخنازير يعني ليقطعها إما لبيعها أو لأكلها وأمثلته متعددة وهذا اختيار جماعة منهم أبو العباس بن ثعلبة والطريق الثاني أنه أمر ومعناه الخبر والمعنى أن من لم يستح صنع ما شاء فإن المانع من فعل القبائح هو الحياء فمن لم يكن له حياء انهمك في كل فحشاء ومنكر وما يمتنع من مثله من له حياء على حد قوله ﷺ من كذب على متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار فإن لفظه لفظ الأمر ومعناه الخبر وإن من كذب عليه يتبوأ مقعده من النار وهذا اختيار أبي عبيد والقاسم بن سلام رحمه الله وابن قتيبة ومحمد بن نصر المروزي وغيرهم.

وروى أبو داود عن الإمام أحمد ما يدل على مثل هذا القول وروى ابن أبي لهيعة عن أبي قبيل عن عبدالله بن عمرو عن النبي ﷺ قال إذا أبغض الله عبدًا نزع منه الحياء فإذا نزع منه الحياء لم تلقه إلا بغيضًا مبغضًا فإذا نزع منه الأمانة نزع منه الرحمة وإذا نزع منه الرحمة نزع منه ربقة الإسلام فإذا نزع منه ربقة الإسلام لم تلقه إلا شيطانًا مريدًا خرجه حميد بن زنجويه وخرجه ابن ماجه بمعناه بإسناد ضعيف عن ابن عمر مرفوعًا أيضًا.

وعن سلمان الفارسي قال إن الله إذا أراد بعبد هلاكا نزع منه الحياء فإذا نزع منه الحياء لم تلقه إلا مقيتا ممقتا فإذا كان مقيتا ممقتا نزع منه الأمانة فلم تلقه إلا خائنا مخونا فإذا كان خائنا مخونا نزع منه الرحمة فلم تلقه إلا فظا غليظا فإذا كان فظا غليظا نزع ربقة الإيمان من عنقه فإذا نزع ربقة الإيمان من عنقه لم تلقه إلا شيطانا لعينا ملعنا وعن ابن عباس قال الحياء والإيمان في قرن فإذا نزع الحياء تبعه الآخر خرجه كله حميد بن زنجويه في كتاب الأدب وقد جعل النبي ﷺ الحياء من الإيمان كما في الصحيحين عن ابن عمر أن النبي ﷺ مر على رجل وهو يعاتب أخاه في الحياء يقول إنك تستحي كأنه يقول قد أضر بك فقال رسول الله ﷺ دعه فإن الحياء من الإيمان.

وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال الحياء شعبة من الإيمان.

وفي الصحيحين عن عمران بن حصين عن النبي ﷺ قال الحياء لا يأتي إلا بخير وفي رواية لمسلم قال الحياء خير كله أو قال الحياء كله خير.

وخرج الإمام أحمد والنسائي من حديث الأشج المنقري قال قال لي رسول الله ﷺ إن فيك لخصلتين يحبهما الله قلت ما هما قال الحلم والحياء قلت أقديما كان أو حديثًا قال بل قديما قلت الحمد ﷺ الذي جعلني على خليقتين يحبهما الله وقال إسماعيل بن أبي خالد دخل عيينة بن حصن على النبي ﷺ وعنده رجل فاستسقى فأتى بماء فشرب فستره النبي ﷺ فقال ما هذا قال الحياء أوتوها ومنعتموها واعلم أن الحياء نوعان أحدهما ما كان خلقا وجبلة غير مكتسب وهو من أجل الأخلاق التي يمنحها الله العبد ويجبله عليها ولهذا قال ﷺ الحياء لا يأتي إلا بخير فإنه يكف عن ارتكاب القبائح ودناءة الأخلاق ويحث على استعمال مكارم الأخلاق ومعاليها فهو من خصال الإيمان بهذا الاعتبار وقد روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال من استحيا اختفى ومن اختفى اتقى ومن اتقى وقى وقال الجراح بن عبدالله الحكمي، وكان فارس أهل الشام تركت الذنوب حياء أربعين سنة ثم أدركني الورع وعن بعضهم قال رأيت المعاصي نذالة فتركتها مروءة فاستحالت ديانة النوع الثاني ما كان مكتسبا من معرفة الله ومعرفة عظمته وقربه من عباده واطلاعه عليهم وعلمه بخائنة الأعين وما تخفي الصدور فهذا من أعلى خصال الإيمان بل هو من أعلى درجات الإحسان وقد تقدم أن النبي ﷺ قال لرجل استحي من الله كما تستحي من رجل من صالح عشيرتك وفي حديث ابن مسعود الاستحياء من الله أن تحفظ الرأس وما وعى والبطن وماحوى وأن تذكر الموت والبلى ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله خرجه الإمام أحمد والترمذي مرفوعًا وقد يتولد الحياء من مطالعة نعمه تعالى ورؤية التقصير في شكرها فإذا سلب العبد الحياء المكتسب والغريزي لم يبق له ما يمنعه من ارتكاب القبيح والأخلاق الدنيئة فصار كأنه لا إيمان له وقد روي من مراسيل الحسن عن النبي ﷺ قال الحياء حياءان طرف من الإيمان والآخر عجز ولعله من كلام الحسن كذلك قال بشير بن كعب العدوي لعمران بن حصين إنا نجد في بعض الكتب أن منه سكينة ووقارا لله ومنه ضعف فغضب عمران وقال أحدثك عن رسول الله ﷺ وتعارض فيه والأمر كما قاله عمران رضي الله عنه فإن الحياء الممدوح في كلام النبي ﷺ إنما يريد به الخلق الذي يحث عل فعل الجميل وترك القبيح فأما الضعف والعجز الذي يوجب التقصير في شيء من حقوق الله أو حقوق عباده فليس هو من الحياء فإنما هو ضعف وخور وعجز ومهانة والله أعلم.

والقول الثاني في معنى قوله إذا لم تستح فاصنع ما شئت أنه أمر بفعل ما يشاء على ظاهر أمره وأن المعنى إذا كان الذي يريد فعله مما لا يستحي من فعله لا من الله ولا من الناس لكونه من أفعال الطاعات أو من جميل الأخلاق والآداب المستحسنة فاصنع منه حينئذ ما شئت وهذا قول جماعة من الأئمة منهم إسحاق المروزي الشافعي وحكى مثله عن الإمام أحمد ووقع كذلك في بعض نسخ مسائل أبي داود المختصرة عنه والذي في النسخ المعتمدة التامة كما حكيناه عنه من قبل، وكذلك رواه عنه الخلال في كتاب الأدب ومن هذا قول بعض السلف وقد سئل عن المروءة فقال أن لا تعمل في السر شيئًا تستحي منه في العلانية وسيأتي قول النبي ﷺ الإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس في موضعه من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى وروي عبدالرازق في كتابه عن معمر عن أبي إسحاق عن رجل من مزينة قال قيل يا رسول الله ما أفضل ما أوتي الرجل المسلم قال الخلق الحسن قال فما شر ما أوتي الرجل المسلم قال إذا كرهت أن يرى عليك شيء في نادى القوم فلا تفعله إذا خلوت وفي صحيح ابن حبان عن أسامة بن شريك قال قال رسول الله ﷺ ما كره منك شيء فلا تفعله إذا خلوت.

وخرج الطبراني من حديث أبي مالك الأشعري قال قلت يا رسول الله ما تمام البر قال أن تعمل في السر عمل العلانية وخرجه أيضًا من حديث أبي عامر السكوني قال قلت يا رسول الله فذكره وروى عبدالغني ابن سعيد الحافظ في كتاب أدب المحدث بإسناده عن حرملة بن عبدالله قال أتيت النبي ﷺ لأزداد من العلم فقمت بين يديه فقلت يا رسول الله ما تأمرني أن أعمل به قال ائت المعروف واجتنب المنكر وانظر الذي سمعته أذنك من الخير الذي يقوله القوم لك إذا قمت من عندهم فأته وانظر الذي تكره أن يقوله القوم لك إذا قمت من عندهم فاجتنبه قال فنظرت فإذا هما أمران لم يتركا شيئًا إتيان المعروف واجتناب المنكر.

وخرج ابن سعد في طبقاته بمعناه وحكى أبو عبيد في معنى الحديث قولًا آخر حكاه عن جرير قال معناه أن يريد الرجل أن يعمل الخير فيدعه حياء من الناس كأنه يخاف الرياء يقول فلا يمنعك الحياء من المضي لما أردت كما جاء في الحديث إذا جاءك الشيطان وأنت تصلي فقال إنك ترى فزدها طولا ثم قال أبو عبيد وهذا الحديث ليس يجيء سياقه ولا لفظه على هذا التفسير ولا على هذا يحملها الناس قلت لو كان على ما قاله جرير لكان لفظ الحديث إذا استحييت مما لا يستحيا منه فافعل ما شئت ولا يخفى بعد هذا من لفظ الحديث ومعناه والله أعلم.

===========

الحديث الحادي والعشرون

عن أبي عمرو وقيل أبي عمرة سفيان بن عبدالله رضي الله عنه قال قلت يا رسول الله قل لي في الإسلام قولًا لا أسأل عنه أحدًا غيرك قال قل آمنت بالله ثم استقم . رواه مسلم.

هذا الحديث خرجه مسلم من رواية هشام بن عروة عن أبيه عن سفيان وسفيان هو ابن عبدالله الثقفي الطائفي له صحبة، وكان عاملا لعمر بن الخطاب على الطائف وقد روي عن سفيان بن عبدالله من وجوه أخر بزيادات فخرجه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه من رواية الزهري عن محمد بن عبدالرحمن بن ماعز وعند الترمذي من رواية عبدالرحمن بن ماعز عن سفيان بن عبدالله قال قلت يا رسول الله حدثني بأمر أعتصم به قال قل ربي الله ثم استقم قلت يا رسول الله ما أخوف ما تخاف على فأخذ بلسان نفسه قال هذا وقال الترمذي حسن صحيح وخرجه الإمام أحمد والنسائي من رواية عبدالله بن سفيان الثقفي عن أبيه أن رجلًا قال يا رسول الله مرني بأمر في الإسلام لا أسأل عنه أحدًا بعدك قال قل آمنت بالله ثم استقم قلت فما أتقي فأومأ إلى لسانه وقال سفيان بن عبدالله للنبي ﷺ قل لي في الإسلام قولًا لا أسأل عنه أحد بعدك طلب منه أن يعلمه كلاما جامعا لأمر الإسلام كافيا حتى لا يحتاج بعده إلى غيره فقال له النبي ﷺ قل آمنت بالله ثم استقم وفي الرواية الأخرى قل ربي الله ثم استقم هذا منتزع من قوله عز وجل {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} فصلت، وقوله عز وجل {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ. أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} الأحقاف.

وخرج النسائي في تفسيره من رواية سهيل بن أبي حزم حدثنا ثابت عن أنس فقال قد قالها الناس ثم كفروا أن النبي ﷺ قرأ {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} فمن مات عليها فهو من أهل الاستقامة وخرجه الترمذي ولفظه فقال قد قالها الناس ثم كفر أكثرهم فمن مات عليها فهو ممن استقام وقال حسن غريب وسهيل تكلم فيه من قبل حفظه.

وقال أبو بكر الصديق في تفسيره ثم استقاموا قال لم يشركوا بالله شيئًا، وعنه قال لم يلتفتوا إلى إله غيره، وعنه قال ثم استقاموا على أن الله ربهم وعن ابن عباس بإسناد ضعيف قال نص آية في كتاب الله قالوا ربنا الله ثم استقاموا على شهادة أن لا إله إلا الله وروى نحوه عن أنس ومجاهد والأسود بن هلال وزيد بن أسلم والسدي وعكرمة وغيرهم وروي عن عمر بن الخطاب أنه قرأ هذه الآية على المنبر {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} فصلت.

فقال لم يروغوا روغان الثعلب وروي علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} فصلت قال استقاموا على أداء فرائضه وعن أبي العالية قال ثم أخلصوا له الدين والعمل وعن قتادة قال استقاموا على طاعة الله.

وكان الحسن إذا قرأ هذه الآية قال اللهم أنت ربنا فارزقنا الاستقامة ولعل من قال أن المراد الاستقامة على التوحيد إنما أراد التوحيد الكامل الذي يحرم صاحبه على النار وهو تحقيق معنى لا إله إلا الله فإن الإله هو المعبود الذي يطاع فلا يعصي خشية وإجلالًا ومهابة ومحبة ورجاء وتوكلًا ودعاء والمعاصي قادحة كلها في هذا التوحيد لأنها إجابة لداعي الهوى وهو الشيطان قال الله عز وجل {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} الجاثية.

قال الحسن وغيره هو الذي لا يهوى شيئًا إلا ركبه هذا ينافي الاستقامة على التوحيد وأما على رواية من روى قل آمنت بالله فالمعنى أظهر لأن الإيمان يدخل فيه الأعمال الصالحة عند السلف ومن تابعهم من أهل الحديث وقال الله عز وجل {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} هود فأمره أن يستقيم ومن تاب معه وأن لا يجاوزوا ما أمروا به وهو الطغيان وأخبر أنه بصير بأعمالكم مطلع عليها قال تعالى {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ} الشورى.

وقال قتادة أمر محمد ﷺ أن يستقيم على أمر الله.

وقال الثوري على القرآن وعن الحسن قال لما نزلت هذه الآية شمر رسول الله ﷺ فما رؤي ضاحكًا.

خرجه ابن أبي حاتم وذكر القشيري عن بعضهم أنه رأى النبي ﷺ في المنام فقال له يا رسول الله قلت شيبتني هود وأخواتها فما شيبك منها قال قوله {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} هود.

وقال عز وجل {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ} فصلت.

وقد أمر الله تعالى بإقامة الدين عمومًا كما قال {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} الشورى وأمر بإقامة الصلاة في غير موضع من كتابه كما أمر بالاستقامة على التوحيد في نيتك الآيتين والاستقامة في سلوك الصراط المستقيم وهو الدين القويم من غير تعويج عنه يمنة ولا يسرة ويشمل ذلك فعل الطاعات كلها الظاهرة والباطنة وترك المنهيات كلها كذلك فصارت هذه الوصية جامعة لخصال الدين كلها وفي قوله عز وجل {فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ} فصلت.

إشارة إلى أنه لا بد من تقصير في الاستقامة المأمور بها فيجير ذلك الاستغفار المقتضي للتوبة والرجوع إلى الاستقامة فهو كقول النبي ﷺ لمعاذ اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها وقد أخبر النبي ﷺ أن الناس لن يستطيعوا الاستقامة حق الاستقامة كما خرجه الإمام أحمد وابن ماجه من حديث ثوبان عن النبي ﷺ قال استقيموا ولن تحصوا وأعلموا أن خير أعمالكم الصلاة ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن.

وفي رواية الإمام أحمد رحمه الله سددوا وقاربوا ولا يحافظ على الصلاة إلا مؤمن.

وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال سددوا وقاربوا فالسداد هو حقيقة الاستقامة وهو الإصابة في جميع الأقوال والأعمال والمقاصد كالذي يرمي إلى غرض فيصيبه وقد أمر النبي ﷺ عليًا أن يسأل الله عز وجل السداد والهدى وقال له اذكر بالسداد تسديدك السهم وبالهدى هدايتك الطريق والمقاربة أن يصيب ما قرب من الغرض إذا لم يصب الغرض نفسه ولكن بشرط أن يكون مصممًا على قصد السداد وإصابة الغرض فتكون مقاربته عن غير عمد. ويدل عليه قول النبي ﷺ في حديث الحكم ابن حزم الكلبي أيها الناس إنكم لن تعملوا ولن تطيقوا كل ما أمرتكم ولكن سددوا وأبشروا والمعني اقصدوا التسديد والإصابة والاستقامة فإنهم لو سددوا في العمل كله لكانوا قد قعلوا ما أمروا به كله فأصل الاستقامة استقامة القلب على التوحيد كما فسر أبو بكر الصديق وغيره قوله إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فصلت بأنهم لم يلتفتوا إلى غيره فمتى استقام القلب على معرفة الله وعلى خشيته وإجلاله ومهابته ومحبته وإرادته ورجائه ودعائه والتوكل عليه والإعراض عما سواه استقامت الجوارح كلها على طاعته فإن القلب هو ملك الأعضاء وهي جنوده فإذا استقام الملك استقامت جنوده ورعاياه، وكذلك فسر قوله تعالى {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا} الروم بإخلاص القصد لله وإرادته لا شريك له وأعظم ما يراعي استقامته بعد القلب من الجوارح اللسان فإنه ترجمان القلب والمعبر عنه ولهذا لما أمر النبي ﷺ بالاستقامة وصاه بعد ذلك بحفظ لسانه ففي مسند الإمام أحمد عن أنس عن النبي ﷺ قال لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه وفي رواية الترمذي عن أبي سعيد مرفوعًا وموقوفا إذا أصبح ابن آدم فإن الأعضاء كلها نفكر اللسان فتقول اتق الله فينا فإنما نحن بك فإن استقمت استقمنا وإن اعوججت اعوججنا.

=================

الحديث الثاني والعشرون

عن أبي عبدالله جابر بن عبدالله الأنصاري رضي الله عنهما أن رجلًا سأل رسول الله ﷺ فقال أرأيت إذا صليت المكتوبات وصمت رمضان وأحللت الحلال وحرمت الحرام ولم أزد على ذلك شيئًا أدخل الجنة قال نعم .

رواه مسلم ومعنى حرمت الحرام اجتنبته ومعنى أحللت الحلال فعلته معتقدا حله.

هذا الحديث خرجه مسلم من رواية أبي الزبير عن جابر وزاد في آخره قال والله لا أزيد عن ذلك شيئًا وخرجه أيضًا من رواية الأعمش عن أبي صالح وأبي سفيان عن جابر قال قال النعمان بن قوقل يا رسول الله أرأيت إذا صليت المكتوبة وحرمت الحرام وأحللت الحلال ولم أزد على ذلك شيئًا أدخل الجنة قال النبي ﷺ نعم وقد فسر بعضهم تحليل الحلال باعتقاد حله وتحريم الحرام باعتقاد حرمته مع اجتنابه ويحتمل أن يراد بتحليل الحلال إتيانه ويكون الحلال ههنا عبارة عما ليس بحرام فدخل فيه الواجب والمستحب والمباح ويكون المعنى أنه يفعل ما ليس بمحرم عليه ولا يتعدى ما أبيح له إلى غيره ويجتنب المحرمات وقد روي عن طائفة من السلف منهم ابن مسعود وابن عباس في قوله عز وجل {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} البقرة يقالوا يحلون حلاله ويحرمون حرامه ولا يحرفونه عن مواضعه والمراد بالتحريم والتحليل فعل الحلال واجتناب الحرام كما ذكر في هذا الحديث وقد قال الله تعالى في حق الكفار الذين كانوا يغيرون تحريم الشهور الحرم {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُحِلِّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِّيُوَاطِؤُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ اللَّهُ} التوبة والمراد أنهم كانوا يقاتلون في الشهر الحرام عامًا فيحلونه بذلك ويمتنعون من القتال فيه عامًا فيحرمونه بذلك وقال الله عز وجل {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} المائدة وهذه الآية نزلت بسبب قوم امتنعوا من تناول بعض الطيبات زهدا في الدينا وتقشفا وبعضهم حرم ذلك على نفسه إما بيمين حلف بها أو بتحريمه على نفسه.

وذلك كله لا يوجب تحريمه في نفس الأمر وبعضهم امتنع عنه من غير يمين ولا تحريم فسمى الجميع تحريمًا حيث قصد الامتناع منه إضرارًا بالنفس وكفا لها عن شهواتها ويقال في الأمثال فلان لا يحلل ولا يحرم إذا كان لا يمتنع من فعل حرام ولا يقف عند ما أبيح له وإن كان يعتقد تحريم الحرام فيجعلون من فعل الحرام ولا يتحاشى منه محللًا وإن كان لا يعتقد حله وبكل حال فهذا الحديث يدل على أن من قام بالواجبات وانتهى عن المحرمات دخل الجنة.

وقد تواترت الأحاديث عن النبي ﷺ بهذا المعنى أو ما هو قريب منه كما خرج النسائي وابن حبان والحاكم من حديث أبي هريرة وأبي سعيد عن النبي ﷺ قال ما من عبد يصلي الصلوات الخمس ويصوم رمضان ويخرج الزكاة ويجتنب الكبائر السبع إلا فتحت له أبواب الجنة يدخل من أيها شاء ثم تلا {إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيمًا}.

وخرج الإمام أحمد والنسائي من حديث أبي أيوب الأنصاري عن النبي ﷺ قال ما من عبد عبدالله لا يشرك به شيئًا وأقام الصلاة وآتى الزكاة وصام رمضان واجتنب الكبائر فله الجنة أو دخل الجنة.

وفي المسند عن ابن عباس رضي الله عنهما أن ضمام بن ثعلبة وفد على النبي ﷺ فذكر له الصلوات الخمس والصيام والزكاة والحج وشرائع الإسلام كلها فلما فرغ قال أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله وسأؤدي هذه الفرائض وأجتنب ما نهيتني عنه لا أزيد ولا أنقص فقال رسول الله ﷺ إن صدق دخل الجنة وخرجه الطبراني من وجه آخر وفي حديثه قال والخامسة لا أرب لي فيها يعني الفواحش ثم قال لأعملن بها ومن أطاعني فقال رسول الله ﷺ لئن صدق ليدخلن الجنة وفي صحيح البخاري عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أن رجلًا قال للنبي ﷺ أخبرني بعمل يدخلني الجنة قال تعبد الله لا تشرك به شيئًا وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصل الرحم وخرجه مسلم إلا أن عنده أنه قال أخبرني بعمل يدنيني من الجنة ويباعدني من النار وعنده في رواية فلما أدبر قال رسول الله ﷺ إن تمسك بما أمر به دخل الجنة.

وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن أعرابيًا قال يا رسول الله دلني على عمل إذا عملته دخلت الجنة قال تعبد الله لا تشرك به شيئًا وتقيم الصلاة المكتوبة وتؤدي الزكاة المفروضة وتصوم رمضان قال والذي بعثك بالحق لا أزيد على هذا شيئًا أبدًا ولا أنقص منه فلما ولي قال النبي ﷺ من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا.

وفي الصحيحين عن طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه أن أعرابيًا جاء إلى رسول الله ﷺ ثائر الرأس فقال يا رسول الله أخبرني ماذا فرض الله علي من الصلاة فقال الصلوات الخمس إلا أن تطوع شيئًا فقال أخبرني بما فرض الله على من الصيام فقال شهر رمضان إلا أن تطوع شيئًا فقال أخبرني بما فرض الله على من الزكاة فأخبره رسول الله ﷺ بشرائع الإسلام فقال والذي أكرمك بالحق لا أتطوع شيئًا ولا أنقص مما فرض الله على شيئًا فقال رسول الله ﷺ أفلح إن صدق أو دخل الجنة إن صدق ولفظه للبخاري وفي صحيح مسلم عن أنس رضي الله عنه أن أعرابيًا سأل النبي ﷺ فذكره بمعناه وزاد فيه حج البيت من استطاع إليه سبيلا فقال والذي بعثك بالحق لا أزيد عليهن ولا أنقص منهن فقال النبي ﷺ لئن صدق ليدخلن الجنة ومراد الأعرابي أنه لا يزيد على الصلاة المكتوبة والزكاة المفروضة وصيام رمضان وحج البيت شيئًا من التطوع ليس مراده أنه لا يعمل بشيء من شرائع الإسلام وواجباته غير ذلك وهذه الأحاديث لم يذكر فيها اجتناب المحرمات لأن السائل إنما سأله عن الأعمال التي يدخل بها عاملها الجنة.

وخرج الترمذي من حديث أبي أمامة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله ﷺ يخطب في حجة الوداع يقول أيها الناس اتقوا الله وصلوا خمسكم وصوموا شهركم وأدوا زكاة أموالكم وأطيعوا إذا أمركم تدخلوا جنة ربكم وقال حسن صحيح وخرجه الإمام أحمد وعنده اعبدوا ربكم بدل قوله اتقوا الله وخرجه بقي بن مخلد في مسنده من وجه آخر ولفظ حديثه صلوا خمسكم وصوموا شهركم وحجوا بيتكم وأدوا زكاة أموالكم طيبة بها أنفسكم تدخلوا جنة ربكم.

وخرج الإمام أحمد بإسناده عن ابن المنتفق قال أتيت النبي ﷺ وهو بعرفات فقلت ثنتان أسألك عنهما ما ينجيني من النار وما يدخلني الجنة فقال لئن كنت أوجزت في المسألة لقد أعظمت وأطولت فاعقل عني إذن اعبد الله لا تشرك به شيئًا وأقم الصلاة المكتوبة وأد الزكاة المفروضة وصم رمضان وما تحب أن يفعله الناس بك فافعله بهم وما تكره أن يؤتى إليك فذر الناس منه وفي رواية له أيضًا قال اتق الله ولا تشرك به شيئًا وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتحج البيت وتصوم رمضان ولم يزد على ذلك وقيل إن هذا الصحابي هو واقد بن المنتفق واسمه لقيط فهذه الأعمال أسباب مقتضية لدخول الجنة وقد يكون ارتكاب المحرمات موانع ويدل على هذا ما خرجه الإمام أحمد من حديث عمرو بن مرة الجهني قال جاء رجل إلى رسول الله ﷺ فقال يا رسول الله شهدت أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله وصليت الخمس وأديت زكاة مالي وصمت شهر رمضان فقال رسول الله ﷺ من مات على هذا كان مع النبيين والصديقيين والشهداء يوم القيامة هكذا ونصب أصبعيه ما لم يعق والديه وقد ورد ترتب دخول الجنة على فعل بعض هذه الأعمال كالصلاة ففي الحديث المشهور من صلى الصلوات لوقتها كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة وفي الحديث الصحيح من صلى البردين دخل الجنة وهذا كله من ذكر السبب المقتضي الذي لا يعمل عليه إلا باستجماع شروطه وانتفاء موانعه ويدل هذا على ما خرجه الإمام أحمد عن بشير بن الخصاصية قال أتيت النبي ﷺ لأبايعه فشرط على شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله وأن أقيم الصلاة وأؤدي الزكاة وأن أحج حجة الإسلام وأن أصوم رمضان وأن أجاهد في سبيل الله فقلت يا رسول الله فأما اثنتان فوالله ما أطيقهما الجهاد والصدقة فقبض رسول الله ﷺ يده ثم حركها فقال فلا جهاد ولا صدقة فبم تدخل الجنة قلت إذا يا رسول الله أبايعك فبايعته عليهن كلهن ففي هذا الحديث أنه لا يكفي في دخول الجنة هذه الخصال بدون الجهاد والزكاة وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة أن ارتكاب بعض الكبائر يمنع دخول الجنة كقوله لا يدخل الجنة قاطع، وقوله لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر، وقوله لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا والأحاديث التي جاءت في منع دخول الجنة بالدين حتى يقضي.

وفي الصحيح أن المؤمنين إذا جازوا على الصراط حبسوا على قنطرة يقتص منهم مظالم بينهم كانت في الدنيا وقال بعض السلف إن الرجل ليحبس على باب الجنة مائة عام بالذنب كان يعمله في الدنيا فهذه كلها موانع ومن هنا يظهر معنى الأحاديث التي جاءت في ترتب دخول الجنة على مجرد التوحيد ففي الصحيحين عن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال ما من عبد قال لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة قلت وإن زنى وإن سرق قال وإن زنى وإن سرق قالها ثلاثًا ثم قال في الرابعة على رغم أنف أبي ذر فخرج أبو ذر يقول وإن رغم أنف أبي ذر وفيهما عن عبادة بن الصامت عن النبي ﷺ قال من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدًا عبده ورسوله وأن عيسى عبدالله ورسوله وكلمة ألقاها إلى مريم وروح منه وأن الجنة حق والنار حق أدخله الله الجنة على ما كان من العمل وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة أو أبي سعيد بالشك عن النبي ﷺ أنه قال أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله لا يلقى الله بهما عبد غير شاك فيهما فتحجب عنه الجنة وفيه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال له يومًا من لقيت يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنا بها قلبه فبشره بالجنة وفي المعنى أحاديث كثيرة جدًا.

وفي الصحيحين أن النبي ﷺ قال يومًا لمعاذ ما من عبد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله إلا حرمه الله على النار وفيهما عن عتبان بن مالك عن النبي ﷺ قال إن الله قد حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بها وجه الله وقال طائفة من العلماء إن كلمة التوحيد سبب مقتض لدخول الجنة والنجاة من النار لكن له شروط وهي الإتيان بالفرائض وموانع وهي اجتناب الكبائر قال الحسن للفرزدق إن للاإله إلا الله شروطا فإياك وقذف المحصنة وروي عنه أنه قال هذا العمود فأين الطنب يعني أن كلمة التوحيد عمود الفسطاط ولكن لا يثبت الفسطاط بدون أطنابه وهي فعل الواجبات وترك المحرمات قيل للحسن إن ناسا يقولون من قال لا إله إلا الله دخل الجنة فقال من قال لا إله إلا الله فأدى حقها وفرضها دخل الجنة وقيل لوهب بن منبه أليس لا إله إلا الله مفتاح الجنة قال بلى ولكن ما من مفتاح إلا وله أسنان فإن جئت بمفتاح له أسنان فتح لك وإلا لم يفتح لك ويشبه ما روي عن ابن عمر أنه سئل عن لا إله إلا الله هل يضر معها عمل كما لا ينفع مع تركها عمل فقال ابن عمر اعمل ولا تغتر وقالت طائفة منهم الضحاك والزهري كان هذا قبل الفرائض والحدود فمن هؤلاء من أشار إلى أنها نسخت ومنهم من قال بل ضم إليها شروط زيدت عليها وزيادة الشروط هل هي نسخ أم لا فيه خلاف مشهور بين الأصوليين وفي هذا كله نظر فإن كثيرًا من هذه الأحاديث متأخر بعد الفرائض والحدود وقال الثوري نسختها الفرائض والحدود فيحتمل أن يكون مراده ما أراده هؤلاء ويحتمل أن يكون مراده أن وجوب الفرائض والحدود تبين بها أن عقوبات الدنيا لا تسقط بمجرد الشهادتين فكذلك عقوبات الآخرة ومثل هذا البيان وإزالة الإيهام كان السلف يسمونه نسخا وليس هو نسخا في الاصطلاح المشهور وقالت طائفة هذه النصوص المطلقة جاءت مقيدة بأن يقولها بصدق وإخلاص وإخلاصها وصدقها يمنع الإصرار على معصيته وجاء من مراسيل الحسن عن النبي ﷺ من قال لا إله إلا الله مخلصًا دخل الجنة قيل وما إخلاصها قال أن تحجزك عما حرم الله وروي ذلك مسندا من وجوه أخر ضعيفة ولعل الحسن أشار بكلامه الذي حكيناه عنه من قبل إلى هنا فإن تحقق القلب بمعنى لا إله إلا الله وصدقه فيها وإخلاصه بها يقتضي أن يرسخ فيه تأله الله وحده إجلالا وهيبة ومخافة ومحبة ورجاء وتعظيما وتوكلا ويمتليء بذلك وينتفي عنه تأله ما سواه من المخلوقين ومتى كان كذلك لم يبق فيه محبة ولا إرادة ولا طلب لغير ما يريد الله ويحبه ويطلبه وينتفي بذلك من القلب جميع أهواء النفوس وإراداتها وسواس الشيطان فمن أحب شيئًا أو أطاعه وأحب عليه وأبغض عليه فهو إلهه فمن كان لا يحب ولا يبغض إلا لله ولا يوالي ولا يعادي إلا لله فالله إلهه حقا ومن أحب لهواه وأبغض له ووالى عليه وعادى عليه فإلهه هواه كما قال تعالى {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} قال الحسن هو الذي لا يهوى شيئًا إلا ركبه وقال قتادة هو الذي كلما هوى شيئًا ركبه وكلما اشتهى شيئًا أتاه لا يحجزه عن ذلك ورع ولا تقوي ويروى من حديث أبي أمامة مرفوعًا ما تحت ظل السماء إله يعبد أعظم عند الله من هوى متبع، وكذلك من أطاع الشيطان في معصية الله فقد عبده كما قال الله عز وجل {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} يس فتبين بهذا أنه لا يصح تحقيق معنى قول لا إله إلا الله إلا لمن لم يكن في قلبه إصرار على محبة ما يكرهه الله ولا على إرادة ما لا يريده الله ومتى كان في القلب شيء من ذلك كان ذلك نقصا في التوحيد وهو نوع من الشرك الخفي ولهذا قال مجاهد في قوله تعالى {لاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا} قال لا تحبوا غيري.

وفي صحيح الحاكم عن عائشة رضي الله عنها عن النبي ﷺ قال الشرك أخفى من دبيب الذر على الصفا في الليلة الظلماء وأدناه على أن تحب على شيء من الجور وتبغض على شيء من العدل وهل الدين إلا الحب والبغض قال الله عز وجل {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} وهذا نص في أن محبة ما يكرهه الله وبغض ما يحبه متابعة للهوى والموالاة على ذلك والمعاداة عليه من الشرك الخفي.

وخرج ابن أبي الدنيا من حديث أنس مرفوعًا لا تزال لا إله إلا الله تمنع العباد من سخط الله ما لم يؤثروا دنياهم على صفقة دينهم فإذا آثروا صفقة دنياهم على دينهم ثم قالوا لا إله إلا الله ردها الله عليهم وقال الله كذبتم فتبين بهذا المعنى قوله ﷺ من شهد أن لا إله إلا الله صادقا من قلبه حرمه الله على النار وإن من دخل النار من أهل هذه الكلمة فلقلة صدقه في قولها فإن هذه الكلمة إذا صدقت طهرت القلب من كل ما سوى الله فمن صدق في قول لا إله إلا الله لم يحب سواه ولم يرج إلا إياه ولم يخش إلا الله ولم يتوكل إلا على الله ولم يبق له بقية من إيثار نفسه وهواه ومتى بقي في القلب أثر لسوي الله فمن قلة الصدق في قولها نار جهنم تطفأ بنور إيمان الموحدين كما في الحديث المشهور تقول النار للمؤمن جز يا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبي.

وفي مسند الإمام أحمد عن جابر عن النبي ﷺ قال لا يبقى بر ولا فاجر إلا دخلها فتكون على المؤمنين بردا وسلاما كما كانت على إبراهيم حتى أن للنار ضجيجا من بردهم فهذا ميراث ورثة المؤمنين من حال إبراهيم عليه الصلاة والسلام فنار المحبة في قلوب المؤمنين تخاف منها نار جهنم قال الجنيد رحمه الله قالت النار يا رب لو لم أطعك هل كنت تعذبني بشيء هو أشد مني قال نعم كنت أسلط عليك ناري الكبرى قالت وهل نار أعظم مني وأشد قال نعم نار محبتي أسكنتها قلوب أوليائي المؤمنين وفي هذا يقول بعضهم:

ففي فؤاد المحب نار الهوى *** أحر نار الجحيم أبردها ويشهد لهذا المعنى حديث معاذ عن النبي ﷺ قال من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة فإن المحتضر لا يكاد يقولها إلا بإخلاص وتوبة وندم على ما مضى وعزم على أن لا يعود لمثله ورجح هذا القول الخطابي في مصنف له في التوحيد وهو حسن.

===============

الحديث الثالث والعشرون

عن أبي مالك الحارث بن عاصم الأشعري رضي الله عنه قال قال رسول الله ﷺ الطهور شطر الإيمان والحمد لله تملأ الميزان وسبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السماء والأرض والصلاة نور والصدقة بزهان والصبر ضياء والقرآن حجة لك أوحجة عليك كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها . رواه مسلم.

هذا الحديث أخرجه مسلم من رواية يحيى بن أبي كثير أن زيد بن سلام حدثه أن سلاما حدثه عن أبي مالك الأشعري قال قال رسول الله ﷺ فذكر الحديث وفي أكثر نسخ مسلم والصبر ضياء وفي بعضها والصيام ضياء وقد اختلف في سماع يحيى بن أبي كثير من زيد بن سلام فأنكره يحيى بن معين وأثبته الإمام أحمد وفي هذه الرواية التصريح بسماعه منه.

وخرج هذا الحديث النسائي وابن ماجه من رواية معاوية بن سلام عن أخيه زيد بن سلام عن جده أبي سلام عن عبدالرحمن بن غنم عن أبي مالك فزاد في إسناده عبدالرحمن بن غنم ورجح هذه الرواية بعض الحفاظ وقال معاوية بن سلام أعلم بحديث أخيه زيد من يحيى بن أبي كثير ويقول ذلك أنه قد روي عن عبدالرحمن بن غنم عن أبي مالك من وجه آخر وحينئذ فتكون رواية منقطعة وفي حديث معاوية بعض المخالفة لحديث يحيى بن أبي كثير فإنه لفظ حديثه عند ابن ماجه إسباغ الوضوء شطر الإيمان والحمد لله تملأ الميزان والتسبيح والتكبير تملآن السماء والأرض والصلاة نور والزكاة برهان والصبر ضياء والقرآن حجة لك أو عليك كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها.

وخرج الترمذي حديث يحيى بن أبي كثير الذي خرجه مسلم فلفظ حديثه الوضوء شطر الإيمان وباقي حديثه مثل سياق مسلم الذي خرجه الإمام أحمد والترمذي من حديث رجل من بني سليم قال عدهن رسول الله ﷺ في يدي أو في يده التسبيح نصف الميزان والحمد لله تملؤه والتكبير تملأ ما بين السماء والأرض والصوم نصف الصبر والطهور نصف الإيمان، وقوله ﷺ الطهور شطر الإيمان فسر بعضهم الطهور ها هنا بترك الذنوب كما في قوله تعالى {إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ}، وقوله {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} المدثر، وقوله {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} البقرة.

وقال الإيمان نوعان فعل وترك فنصفه فعل المأمورات ونصفه ترك المحظورات وهو تطهير النفس بترك المعاصي وهذا القول محتمل لولا أن رواية الوضوء شطر الإيمان ترده، وكذلك رواية إسباغ الوضوء وأيضا ففيه نظر من جهة المعنى فإن كثيرًا من الأعمال تطهر النفس من الذنوب السابقة كالصلاة فكيف لا تدخل في اسم الطهور ومتى دخلت الأعمال أو بعضها في اسم الطهور لم يتحقق كون ترك الذنوب شطر الإيمان والصحيح الذي عليه الأكثرون أن المراد بالطهور ها هنا التطهير بالماء من الإحداث، وكذلك بدأ مسلم بتخريجه في أبواب الوضوء، وكذلك خرجه النسائي وابن ماجه وغيرهما وعلى هذا فاختلف الناس في معنى كون الطهور بالماء شطر الإيمان فمنهم من قال المراد بالشطر الجزء لا أنه النصف بعينه فيكون الطهور جزءا من الإيمان وهذا فيه ضعف لأن الشطر إنما يعرف استعماله لغة في النصف ولأن في حديث الرجل من سليم الطهور نصف الإيمان كما سبق ومنهم من قال المعنى أنه يضاعف ثواب الوضوء إلى نصف ثواب الإيمان لكن من غير تضعيف وفي هذا نظر وبعد ومنهم من قال الإيمان يكفر الكبائر كلها والوضوء يكفر الصغائر فهو شطر الإيمان بهذا الاعتبار وهذا يرده حديث من أساء في الإسلام أخذ بما عمل في الجاهلية وقد سبق ذكره منهم من قال الوضوء يكفر الذنوب مع الإيمان فصار نصف الإيمان وهذا ضعيف ومنهم من قال المراد بالإيمان ها هنا الصلاة كما في قوله عز وجل {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} البقرة والمراد صلاتكم إلى بيت المقدس فإذا كان المراد بالإيمان الصلاة فالصلاة لا تقبل إلا بطهور فصار الطهور شطر الإيمان بهذا الاعتبار حكى هذا التفسير محمد بن نصر المروزي في كتاب الصلاة عن إسحق بن راهوية عن يحيى بن آدم وأنه قال في معنى قولهم لا أدري نصف العلم إنما هو أدري ولا أدري فأحدهما نصف الآخر قلت كل شيء كان تحته نوعان فأحدهما نصف له وسواء كان عدد النوعين على السواء أو أحدهما أزيد من الآخر ويدل على هذا حديث قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين والمراد قراءة الصلاة ولهذا فسرها بالفاتحة والمراد أنها مقسومة للعبادة والمسئلة فالعبادة حق الرب والمسئلة حق العبد وليس المراد قسمة كلماتها على السواء وقد ذكر هذا الخطابي واستشهد بقول العرب نصف السنة سفر ونصفها حضر قال وليس على تساوي الزمانين فيهما لكن على انقسام الزمانين هنا وإن تفاونت مدتاهما ويقول شريح وقد قيل كيف أصبحت قال أصبحت ونصف الناس على غضبان يريد أن الناس بين محكوم له ومحكوم عليه فالمحكوم عليه غضبان عليه والمحكوم له راض عنه فهما حزبان مختلفان ويقول الشاعر:

إذا مت كان الناس نصفين شامت *** بموتي ومثن الذي كنت أفعل

ومراده أنهم ينقسمون قسمين قلت ومن هذا المعنى حديث أبي هريرة المرفوع في الفرائض أنها نصف العلم أخرجه ابن ماجه فإن أحكام المكلفين نوعان نوع يتعلق بالحياة ونوع يتعلق بما بعد الموت وهذا هو الفرائض.

وقال ابن مسعود الفرائض ثلث العلم ووجه ذلك الحديث الذي خرجه أبو داود وابن ماجه من حديث عبدالله بن عمرو مرفوعًا العلم ثلاثة وما سوى ذلك فهو فضل آية محكمة أو سنة قائمة أو فريضة عادلة وروي عن مجاهد أنه قال المضمضة والاستنشاق نصف الوضوء ولعله أراد أن الوضوء قسمان أحدهما مذكور في القرآن والثاني مأخوذ من السنة وهو المضمضة والاستنشاق وأراد أن المضمضة والاستنشاق يطهران باطن الجسد وغسل سائر الأعضاء يطهر ظاهره فهما نصفان بهذا الاعتبار ومنه قول ابن مسعود الصبر نصف الإيمان واليقين الإيمان كله وجاء من رواية يزيد الرقاشي عن أنس مرفوعًا الإيمان نصفان نصف في الصبر ونصف في الشكر فلما كان الإيمان يشمل فعل الواجبات وترك المحرمات ولا ينال ذلك كله إلا بالصبر كان الصبر نصف الإيمان فهكذا يقال في الوضوء إنه نصف الصلاة وأيضا فالصلاة تكفر الذنوب والخطايا بشرط إسباغ الوضوء وإحسانه فصار شطر الصلاة بهذا الاعتبار أيضًا كما في صحيح مسلم عن عثمان رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال ما من مؤمن مسلم يتطهر فيتم الطهور الذي كتب عليه فيصلي هذه الصلوات الخمس إلا كانت كفارة لما بينهن وفي رواية له من أتم الوضوء كما أمره الله فالصلوات المكتوبة كفارات لما بينهن وأيضا فالصلاة مفتاح الجنة والوضوء مفتاح الصلاة كما خرجه الإمام أحمد والترمذي من حديث جابر مرفوعًا وكل من الصلاة والوضوء موجب لفتح أبواب الجنة كما في صحيح مسلم عن عقبة بن عامر سمع النبي ﷺ يقول ما من مسلم يتوضأ فيحسن وضوءه ثم يقوم فيصلي ركعتين يقبل عليهما بقلبه ووجهه إلا وجبت له الجنة وعن عقبة عن عمر عن النبي ﷺ قال ما منكم من أحد يتوضأ فيبلغ أو يسبغ الوضوء ثم يقول أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء.

وفي الصحيحين عن عبادة رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال من قال أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدًا عبده ورسوله وأن عيسى عبدالله وابن أمته وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه وأن الجنة حق والنار حق أدخله الله من أي أبواب الجنة الثمانية شاء فإذا كان الوضوء مع الشهادتين موجبا لفتح أبواب الجنة صار الوضوء نصف الإيمان بالله ورسوله بهذا الاعتبار وأيضا فالوضوء من خصال الإيمان الخفية التي لا يحافظ عليها إلا مؤمن كما في حديث ثوبان وغيره عن النبي ﷺ لا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن والغسل من الجنابة قد ورد أنه أداء الأمانة كما خرجه العقيلي من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال خمس من جاء بهن مع الإيمان دخل الجنة من حافظ على الصلوات الخمس طيب النفس على وضوئهن وركوعهن وسجودهن ومواقيتهن وأعطى الزكاة من ماله طيب النفس بها قال، وكان يقول وايم الله لا يفعل ذلك إلا مؤمن وصام رمضان وحج البيت من استطاع إليه سبيلا وأدى الأمانة قالوا يا أبا ذر وما أداء الأمانة قال الغسل من الجنابة فإن الله لم يأتمن ابن آدم على شيء من دينه غيرها.

وخرج ابن ماجه من حديث أبي أيوب عن النبي ﷺ قال الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة وأداء الأمانة كفارة لما بينهن قيل وما أداء الأمانة قال الغسل من الجنابة فإن تحت كل شعرة جنابة، وحديث أبي الدرداء الذي قبله جعل فيه الوضوء من أجزاء الصلاة وجاء في حديث أخرجه البزار من رواية شبابة بن سوار حدثنا مغيرة بن مسلم عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة مرفوعًا الصلاة ثلاثة أثلاث الطهور ثلث والركوع ثلث والسجود ثلث فمن أداها بحقها قبلت منه وقبل منه سائر عمله ومن ردت عليه صلاته رد عليه سائر عمله وقال تفرد به المغيرة والمحفوظ عن أبي صالح عن كعب من قوله فعلى هذا القسم الوضوء ثلث الصلاة إلا أن يجعل الركوع والسجود كالشيء الواحد لتقاربهما في الصورة فيكون الوضوء نصف الصلاة أيضًا ويحتمل أن يقال خصال الإيمان من الأعمال والأقوال كلها تطهر القلب وتزكيه وأما الطهارة بالماء فهي تختص بتطهير الجسد وتنظيفه فصارت خصال الإيمان قسمين أحدهما يطهر الظاهر والآخر يطهر الباطن فهما نصفان بهذا الاعتبار والله أعلم بمراده ومراد رسوله في ذلك كله، وقوله ﷺ والحمد لله تملأ الميزان وسبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السموات والأرض فهذا شك من الراوي في لفظه وفي رواية مسلم والنسائي وابن ماجه والتسبيح والتكبير ملء السماء والأرض وفي حديث الرجل من بني سليم التسبيح نصف الميزان والحمد لله تملؤه والتكبير يملأ ما بين السماء والأرض.

وخرج الترمذي من حديث الأفريقي عن عبدالله بن يزيد عن عبدالله بن عمرو عن النبي ﷺ قال التسبيح نصف الميزان والحمد لله تملؤه ولا إله إلا الله ليس لها دون الله حجاب حتى تصل إليه وقال ليس إسناده بالقوي قلت اختلف في إسناده على الأفريقي فروي عنه عن أبي علقمة عن أبي هريرة عن النبي ﷺ وفيه زيادة والله أكبر ملء السموات والأرض وروى جعفر الفريابي في كتاب الذكر وغيره من حديث علي رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال الحمد لله ملء الميزان وسبحان الله نصف الميزان ولا إله إلا الله والله أكبر ملء السموات والأرض وما بينهن.

وخرج الفريابي أيضًا من حديث معاذ رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال كلمتان إحداهما من قالها لم يكن له ناهية دون العرش والأخرى تملأ ما بين السماء والأرض لا إله إلا الله والله أكبر فقد تضمنت هذه الأحاديث فضل هذه الكلمات الأربع التي هي أفضل الكلام وهي سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر فأما الحمد لله فاتفقت الأحاديث كلها على أنه يملأ الميزان وقد قيل إنه ضرب مثل وأن المعنى لو كان الحمد جسما لملأ الميزان وقيل بل الله عز وجل يمثل أعمال بني آدم وأقوالهم صورا ترى يوم القيامة وتوزن كما قال النبي ﷺ يأتي القرآن يوم القيامة تقدمه البقرة وآل عمران كأنهما غمامتان أو غيابتان أو فرقان من طير صواف وقال كلمتان حبيبتان إلى الرحمن ثقيلتان في الميزان خفيفتان على اللسان سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم وقال أثقل ما يوضع في الميزان الخلق الحسن المؤمن يأتيه عمله الصالح في قبره في أحسن صورة والكافر يأتيه عمله في أقبح صورة وروي أن الصلاة والزكاة والصيام وأعمال البر تكون حول الميت في قبره تدافع عنه وأن القرآن يصعد فيشفع له وأما سبحان الله ففي رواية مسلم سبحان الله والحمد لله تملأ أو تملآن ما بين السماء والأرض فشك الراوي في الذي يملأ ما بين السماء والأرض هل هو الكلمتان أو إحداهما وفي رواية النسائي وابن ماجه التسبيح والتكبير ملء السماء والأرض وهذه الرواية أسند وهل المراد أنهما معا يملآن ما بين السماء والأرض أو أن كلا منهما يملأ ذلك هذا محتمل وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه والرجل الآخر أن التكبير وحده يملأ ما بين السماء والأرض وبكل حال فللتسبيح دون التحميد من الفضل كما جاء صريحا في حديث على وأبي هريرة وعبد الله بن عمرو والرجل من بني سليم رضي الله عنهم أن التسبيح نصف الميزان والحمد لله تملؤه وسبب ذلك أن التحميد إثبات المحامد كلها لله فدخل في ذلك إثبات صفات الكمال ونعوت الجلال كلها والتسبيح هو تنزيه الله عن النقائص والعيوب والآفات والإثبات أكمل من السلب ولهذا لم يرد التسبيح مجردا لكن مقرونا بما يدل على إثبات الكمال فتارة يقرن بالحمد كقوله سبحان الله وبحمده سبحان الله والحمد لله وتارة باسم من الأسماء الدالة على العظمة والجلال كقوله سبحان الله العظيم فإن كان حديث أبي مالك يدل على أن الذي يملأ ما بين السماء والأرض هو مجموع التسبيح والتكبير فالأمر ظاهر وإن كان المراد أن كلا منهما يملأ ذلك فإن الميزان أوسع مما ما بين السماء والأرض فما يملأ الميزان فهو أكثر مما يملأ ما بين السماء والأرض ويدل عليه أنه صح عن سلمان رضي الله عنه أنه قال يوضع الميزان يوم القيامة فلو وزن فيه السموات والأرض لوسعهما فتقول الملائكة يا رب لمن تزن هذا فيقول الله تعالى لمن شئت من خلقي فتقول الملائكة سبحانك ما عبدناك حق عبادتك وخرجه الحاكم مرفوعًا وصححه ولكن الموقوف هو المشهور وأما التكبير ففي حديث أبي هريرة والرجل من بني سليم أنه وحده يملأ السموات والأرض وما بينهما وفي حديث على أن التكبير مع التهليل يملأ ما بين السماء والأرض وما بينهن وأما التهليل وحده فإنه يصل إلى الله من غير حجاب بينه وبينه.

وخرج الترمذي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال ما قال عبد لا إله إلا الله مخلصًا إلا فتحت له أبواب السماء حتى يفضي إلى العرش ما اجتنبت الكبائر وقال أبو أمامة ما من عبد يهلل تهليلة فينهنهها شيء دون العرش وورد أنه لا يعدلها شيء في الميزان في حديث البطاقة المشهور وقد خرجه أحمد والنسائي وفي آخره عند الإمام أحمد ولا يثقل شيء بسم الله الرحمن الرحيم.

وفي المسند عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي ﷺ أنه قال إن نوحا عليه السلام لما حضرته الوفاة قال لابنه آمرك بلا إله إلا الله فإن السموات السبع والأرضين السبع لو وضعت في كفة ووضعت لا إله إلا الله في كفة رجحت بهن لا إله إلا الله وفيه أيضًا عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي ﷺ قال إن موسى عليه الصلاة والسلام قال يا رب علمني شيئًا أذكرك به وأدعوك به قال يا موسى قل لا إله إلا الله قال كل عبادك يقول هذا إنما أريد شيئًا تخصني به قال يا موسى لو أن السموات السبع وعامرهن غيري والأرضين السبع في كفة ولا إله إلا الله في كفة مالت بهن لا إله إلا الله وقد اختلف أي الكلمتين أفضل أكلمة الحمد أم كلمة التهليل وقد حكى هذا الاختلاف ابن عبدالبر وغيره وقال النخعي كانوا يرون أن الحمد أكثر الكلام تضعيفا وقال الثوري ليس يضاعف من الكلام مثل الحمد والحمد يتضمن إثبات جميع أنواع الكمال لله فيدخل فيه التوحيد.

وفي مسند الإمام أحمد عن أبي سعيد وأبي هريرة عن النبي ﷺ قال إن الله اصطفى من الكلام أربعا سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر فمن قال سبحان الله كتبت له عشرون حسنة وحطت عنه عشرون سيئة ومن قال الله أكبر مثل ذلك ومن قال لا إله إلا الله مثل ذلك ومن قال الحمد لله مثل ذلك ومن قال الحمد لله رب العالمين من قبل نفسه كتبت له ثلاثون حسنة وحطت عن ثلاثون سيئة وقد روي هذا عن كعب من قوله وقيل إنه أصح من المرفوع، وقوله ﷺ والصلاة نور والصدقة برهان والصبر ضياء وفي بعض نسخ صحيح مسلم والصيام ضياء فهذه الأنواع الثلاثة من الأعمال أنوار كلها لكن منها ما يختص بنوع من أنواع النور فالصلاة نور مطلق وروي بإسنادين فيهما نظر عن أنس عن النبي ﷺ قال الصلاة نور المؤمن فهي للمؤمنين في الدنيا نور في قلوبهم وبصائرهم تشرق بها قلوبهم وتستنير بصائرهم ولهذا كانت قرة عين المتقين كما كان النبي ﷺ يقول جعلت قرة عيني في الصلاة خرجه أحمد والنسائي وفي رواية الجائع يشبع والظمآن يروي وأنا لا أشبع من حب الصلاة.

وفي المسند عن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال جبريل للنبي ﷺ إن الله قد حبب إليك الصلاة فخذ منها ما شئت.

وخرج أبو داود من حديث رجل من خزاعة أن النبي ﷺ قال يا بلال أقم الصلاة وأرحنا بها قال مالك بن دينار قرأت في التوراة يا ابن آدم لا تعجز أن تقوم بين يدي في صلاتك باكيا أنا الذي اقتربت بقلبك وبالغيب رأيت نوري يعني ما يفتح للمصلي في الصلاة من الرقة والبكاء.

وخرج الطبراني من حديث عبادة بن الصامت مرفوعًا إذا حافظ العبد على صلاته فأقام وضوءها وركوعها وسجودها والقراءة فيها قالت له حفظك الله كما حفظتني وصعد بها إلى السماء ولها نور تنتهي إلى الله عز وجل فتشفع لصاحبها وهي نور للمؤمنين ولاسيما صلاة الليل كما قال أبو الدرداء صلوا ركعتين في ظلم الليل لظلمة القبور وكانت رابعة قد فترت عن وردها بالليل مدة فأتاها آت في منامها فأنشدها صلاتك نور والعباد رقود ونومك ضد للصلاة عنيد وهي في الآخرة نور للمؤمنين في ظلمات القيامة وعلى الصراط فإن الأنوار تقسم لهم على حسب أعمالهم.

وفي المسند وصحيح ابن حبان عن عبدالله بن عمر عن النبي ﷺ أنه ذكر الصلاة فقال من حافظ عليها كانت له نورا وبرهانا ونجاة يوم القيامة ومن لم يحافظ عليها لم تكن له نورا ولا برهانا ولا نجاة.

وخرج الطبراني بإسناد فيه نظر من حديث ابن عباس وأبي هريرة رضي الله عن النبي ﷺ من صلى الصلوات الخمس في جماعة جاز على الصراط كالبرق اللامع في أول زمرة من السابقين وجاء يوم القيامة ووجهه كالقمر ليلة البدر وأما الصدقة فهي برهان والبرهان هو الشعاع الذي يلي وجه الشمس ومنه حديث أبي موسى أن روح المؤمن تخرج من جسده لها برهان كبرهان الشمس ومنه سميت الحجة القاطعة برهانا لوضوح دلاتها على ما دلت عليه فكذلك الصدقة برهان على صحة الإيمان وطيب النفس بها علامة على وجود حلاوة الإيمان وطعمه كما في حديث عبدالله بن معاوية العامري عن النبي ﷺ ثلاث من فعلهن فقد طعم طعم الإيمان من عبدالله وحده وأنه لا إله إلا الله وأدى زكاة ماله طيبة بها نفسه وافدة عليه في كل عام وذكر الحديث خرجه أبو داود وقد ذكرنا قريبًا حديث أبي الدرداء فيمن أدى زكاة ماله طيبة بها نفسه قال، وكان يقول لا يفعل ذلك إلا مؤمن وسبب هذا أن المال تحبه النفوس وتبخل به فإذا سمحت بإخراجه لله عز وجل دل ذلك عل صحة إيمانها بالله ووعده ووعيده ولهذا منعت العرب الزكاة بعد النبي ﷺ وقاتلهم الصديق على منعها والصلاة أيضًا برهان على صحة الإسلام.

وخرج الإمام أحمد والترمذي من حديث كعب بن عجزه عن النبي ﷺ قال الصلاة برهان وقد ذكرنا في شرح حديث أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة أن الصلاة هي الفارقة بين الكفر والإسلام والإيمان وهي أيضًا أول ما يحاسب به المرء يوم القيامة فإن تمت صلاته فقد أفلح وأنجح وقد سبق حديث عبدالله بن عمرو فيمن حافظ عليها أنها تكون له نورا وبرهانا ونجاة يوم القيامة وأما الصبر فإنه ضياء والضياء هو النور الذي يحصل فيه نوع حرارة وإحراق كضياء الشمس بخلاف القمر فإنه نور محض فيه إشراق بغير إحراق قال الله عز وجل {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُورًا} يونس ومن هنا وصف الله شريعة موسى بأنها ضياء كما قال {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاء وَذِكْرًا لِّلْمُتَّقِينَ} الأنبياء وإن كان قد ذكر أن في التوراة نورا كما قال {إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ} لكن الغالب على شريعتهم الضياء لما فيها من الآصار والأغلال والأثقال ووصف شريعة محمد ﷺ بأنها نور لما فيها من الحنيفية السمحة قال الله تعالى {قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ} المائدة وقال {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} الأعراف.

ولما كان الصبر شاقا على النفوس يحتاج إلى مجاهدة النفس وحبسها وكفها عما تهواه كان ضياء فإن معنى الصبر في اللغة الحبس ومنه قتل الصبر وهو أن يحبس الرجل حتى يقتل.

والصبر المحمود أنواع منه صبر على طاعة الله عز وجل، ومنه صبر عن معاصي الله عز وجل، ومنه صبر على أقدار الله عز وجل والصبر على الطاعات وعن المحرمات أفضل من الصبر على الأقدار المؤلمة صرح بذلك السلف منهم سعيد بن جبير وميمون بن مهران وغيرهما.

وقد روي بإسناد ضعيف من حديث على مرفوعًا أن الصبر على المعصية يكتب به للعبد ثلاثمائة درجة وأن الصبر على الطاعة تكتب به ستمائة درجة وأن الصبر عن المعاصي يكتب له به تسعمائة درجة وقد خرجه ابن أبي الدنيا وابن جرير الطبري.

وأفضل أنواع الصبر الصيام فإنه يجمع الصبر على الأنواع الثلاثة لأنه صبر على طاعة الله عز وجل وصبر عن معاصي الله لأن العبد يترك شهواته لله ونفسه قد تنازعه إليها ولهذا جاء في الحديث الصحيح أن الله عز وجل يقول كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به لأنه ترك شهوته وطعامه وشرابه من أجلي.

وفيه أيضًا صبر على الأقدار المؤلمة بما قد يحصل للصائم من الجوع والعطش، وكان النبي ﷺ يسمى شهر الصيام شهر الصبر وقد جاء في حديث الرجل من بني سليم عن النبي ﷺ أن الصوم نصف الصبر وربما عسر الوقوف على سر كونه نصف الصبر أكثر من عسر الوقوف على سر كون الطهور شطر الإيمان، وقوله ﷺ والقرآن حجة لك أو حجة عليك قال الله عز وجل {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا} الإسراء.

قال بعض السلف ما جالس أحد القرآن فقام عنه سعالمًا بل إما أن يربح أو أن يخسر ثم تلا هذه الآية.

وروي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي ﷺ قال يمثل القرآن يوم القيامة رجلًا فيؤتى بالرجل قد حمله فخالف أمره فيتمثل له خصمًا فيقول يا رب حملته إياي فبئس حاملي تعدي حدودي وضيع فرائضي وركب معصيتي وترك طاعتي فما يزال يقذف عليه بالحجج حتى يقال شأنك به فيأخذه بيده فما يرسله حتى يكبه على منخره في النار ويؤتى بالرجل الصالح كان قد حمله فيمتثل خصمًا دونه فيقول يا رب حملته إياي فخير حامل حفظ حدودي وعمل بفرائضي واجتنب معصيتي واتبع طاعتي فما يزال يقذف له بالحجج حتى يقال شأنك به فيأخذه بيده فما يرسله حتى يلبسه حلة الإستبرق ويعقد عليه تاج الملك ويسقيه كأس الخمر.

وقال ابن مسعود رضي الله عنه القرآن شافع مشفع وحامل مصدق فمن جعله أمامه قاده إلى الجنة ومن جعله خلف ظهره قاده إلى النار.

وعنه قال يجيء القرآن يوم القيامة فيشفع لصاحبه فيكون قائدًا إلى الجنة أو يشهد عليه فيكون سائقًا إلى النار.

وقال أبو موسى الأشعري إن هذا القرآن كائن لكم أجرًا وكائن عليكم وزرًا فاتبعوا القرآن ولا يتبعكم القرآن فإنه من اتبع القرآن هبط به على رياض الجنة ومن اتبعه القرآن زج في قفاه فقذفه في النار.

قوله ﷺ كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها.

وخرج الإمام أحمد وابن حبان من حديث كعب بن عجرة عن النبي ﷺ قال الناس غاديان فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها.

وفي رواية أخرى خرجها الطبراني الناس غاديان فبائع نفسه فموبقها وقائد نفسه فمعتقها وقال الله عز وجل {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا. فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا. قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا. وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} الشمس والمعنى قد أفلح من زكى نفسه بطاعة الله وخاب من دساها بالمعاصي فالطاعة تزكي النفس وتطهرها فترتفع بها والمعاصي تدسى النفس وتقمعها فتنخفض وتصير كالذي يدس في التراب.

ودل الحديث على أن كل إنسان إما ساع في هلاك نفسه أو في فكاكها فمن سعى في طاعة الله فقد باع نفسه لله وأعتقها من عذابه ومن سعى في معصية الله تعالى فقد باع نفسه بالهوان وأوبقها بالآثام الموجبة لغضب الله وعقابه قال الله تعالى {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ} إلى قوله {فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} التوبة وقال تعالى {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ} البقرة وقال تعالى {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} الزمر.

وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله ﷺ حين أنزل الله عليه {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} يا معشر قريش اشتروا أنفسكم من الله لا أغني عنكم من الله شيئًا يا بني عبدالمطلب لا أغني عنكم من الله شيئًا وفي رواية للبخاري يا بني عبد مناف اشتروا أنفسكم من الله يا بني عبدالمطلب اشتروا أنفسكم من الله لا أغني عنكم من الله شيئًا يا عمة رسول الله يا فاطمة بنت محمد اشتريا أنفسكما من الله لا أملك لكما من الله شيئًا وفي رواية لمسلم أنه دعا قريشا فاجتمعوا فعم وخص فقال يا بني كعب بن لؤي أنقذوا أنفسكم من النار يا بني مرة بن كعب أنقذوا أنفسكم من النار يا بني عبد شمس أنقذوا أنفسكم من النار يا بني عبد مناف أنقذوا أنفسكم من النار يا بني هاشم أنقذوا أنفسكم من النار يا بني عبدالمطلب أنقذوا أنفسكم من النار يا فاطمة أنقذي نفسك من النار فإني لا أملك لكم من الله شيئًا.

وخرج الطبراني والخرائطي من حديث ابن عباس مرفوعًا من قال إذا أصبح سبحان الله وبحمده ألف مرة فقد اشترى نفسه من الله، وكان من آخر يومه عتيقا من النار وقد اشترى جماعة من السلف أنفسهم من الله عز وجل بأموالهم فمنهم من تصدق بماله كله كحبيب بن أبي محمد ومنهم من تصدق بوزنه فضة ثلاث مرات أو أربعا كخالد بن الطحاوي ومنهم من كان يجتهد في الأعمال الصالحة ويقول إنما أنا أسير أسعى في فكاك رقبتي منهم عمرو بن عتبة، وكان بعضهم يسبح كل يوم اثني عشر ألف تسبيحة بقدر ديته كأنه قد قتل نفسه فهو يفتكها بديتها قال الحسن المؤمن في الدنيا كالأسير يسعى في فكاك رقبته لا يأمن شيئًا حتى يلقى الله عز وجل.

وقال ابن آدم إنك تغدو وتروح في طلب الأرباح فليكن همك نفسك فإنك لن تربح مثلها أبدًا قال أبو بكر بن عياش قال لي رجل مرة وأنا شاب خلص رقبتك ما استطعت في الدنيا من رق الآخرة فإن أسير الآخرة غير مفكوك أبدًا قال فوالله ما نسيتها بعد، وكان بعض السلف يبكي ويبكي ويقول ليس لي نفسان إنما لي نفس واحدة إذا ذهبت لم أجد أخرى. وقال محمد بن الحنفية إن الله عز وجل جعل الجنة ثمنا لأنفسكم فلا تبيعوها بغيرها وقال أيضًا من كرمت نفسه عليه لم يكن للدنيا عنده قدر وقيل من أعظم الناس قدرا قال من لم ير الدنيا كلها لنفسه خطرا وأنشد بعض المتقدمين أثامن بالنفس النفيسة ربها وليس لها في الخلق كلهم ثمن بها تملك الأخرى فإن أنا بعتها بشيء من الدنيا فذاك هو الغبن لئن ذهبت نفسي بدنيا أصيبها لقد ذهبت نفسي وقد ذهب الثمن.

===========

الحديث الرابع والعشرون

عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه عن النبي ﷺ فيما يرويه عن ربه عز وجل أنه قال يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعا فاستغفروني أغفر لكم يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئًا يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئًا يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل واحد مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر ياعبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيرًا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه.

هذا الحديث خرجه مسلم من رواية سعيد بن عبدالعزيز عن ربيعة بن زيد عن أبي إدريس الخولاني عن أبي ذر وفي آخره قال سعيد بن عبدالعزيز كان أبو إدريس الخولاني إذا حدث بهذا الحديث جثى على ركبتيه وخرجه مسلم أيضًا من رواية قتادة عن أبي قلابة عن أبي أسماء عن أبي ذر عن النبي ﷺ ولم يسقه بلفظهم ولكنه قال وساق الحديث بنحو سياق أبي إدريس، وحديث أبي إدريس أتم وخرجه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه من رواية شهر بن حوشب عن عبدالرحمن بن غنم عن أبي ذر قال قال رسول الله ﷺ يقول الله تعالى يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاسألوني الهدي أهدكم وكلكم فقير إلا من أغنيته فاسألوني أرزقكم وكلكم مذنب إلا من عافيته فمن علم منكم أني ذو قدرة على المغفرة واستغفرني غفرت له ولا أبالي ولو أن أولكم وآخركم وحيكم وميتكم ورطبكم ويابسكم اجتمعوا على أتقى قلب عبد من عبادي ما زاد ذلك في ملكي جناح بعوضة ولو أن أولكم وآخركم وحيكم وميتكم ورطبكم ويابسكم اجتمعوا في صعيد واحد فيسأل كل إنسان منكم ما بلغت أمنيته فأعطيت كل سائل منكم ما نقص ذلك من ملكي إلا كما لو أن أحدكم مر بالبحر فغمس فيه إبرة ثم رفعها إليه ذلك بأني جواد واجد ماجد أفعل ما أريد عطائي كلام وعذابي كلام إنما أمري لشيء إذا أردته أن أقول له كن فيكون وهذا لفظ الترمذي وقال حديث حسن وخرجه الطبراني بمعناه من حديث أبي موسى الأشعري عن النبي ﷺ إلا أن إسناده ضعيف، وحديث أبي ذر قال الإمام أحمد هو أشرف حديث لأهل الشام فقوله ﷺ فيما يرويه عن ربه يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي يعني أنه منع نفسه من الظلم لعباده كما قال عز وجل {وَمَا أَنَا بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} ق وقال {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعَالَمِينَ} آل عمران وقال {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعِبَادِ} غافر وقال {وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} فصلت وقال {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا} يونس وقال إن الله لا يظلم مثقال ذرة النساء وقال ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما طه والهضم أن ينقص من جزاء حسناته والظلم أن يعاقب بذنوب غيره ومثل هذا كثير في القرآن وهو مما يدل على أن الله قادر على الظلم ولكن لا يفعله فضلًا منه وجودا وكرما وإحسانا إلى عباده وقد فسر كثير من العلماء الظلم بأنه وضع الأشياء في غير مواضعها وأما من فسره بالتصرف في ملك الغير بغير إذنه وقد نقل نحوه عن إياس بن معاوية وغيره فإنهم يقولون إن الظلم مستحيل عليه وغيره متصور في حقه لأن كل ما يفعله فهو تصرف في ملكه وبنحو ذلك أجاب أبو الأسود الدؤلي لعمران بن حصين حين سأله عن القدر.

وخرج أبو داود وابن ماجه من حديث أبي سنان سعيد بن سنان عن وهب بن خالد الحمصي عن ابن الديلمي أنه سمع أبي بن كعب يقول لو أن الله تعالى عذب أهل سمواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم ولو رحمهم لكانت رحمته خيرًا لهم من أعمالهم وأنه أتى ابن مسعود فقال له مثل ذلك ثم أتى زيد بن ثابت فحدثه عن النبي ﷺ بمثل ذلك وفي هذا الحديث نظر ووهب بن خالد ليس بذلك المشهور بالعلم وقد يحمل على أنه لو أراد تعذيبهم لقدر لهم ما يعذبهم عليه فيكون غير ظالم لهم حينئذ وكونه خلق أفعال العباد وفيها الظلم لا يقتضي وصفه بالظلم سبحانه وتعالى كما أنه لا يوصف بسائر القبائح التي يفعلها العباد وهي خلقه وتقديره فإنه لا يوصف إلا بأفعاله لا يوصف بأفعال عباده فإن أفعال عباده مخلوقاته ومفعولاته وهو لا يوصف بشيء منها إنما يوصف بما قام به من صفاته وأفعاله والله أعلم.

وقوله وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا يعني أنه تعالى حرم الظلم على عباده ونهاهم أن يتظالموا فيما بينهم فحرام على كل عبد أن يظلم غيره مع أن الظلم في نفسه محرم مطلقا وهو نوعان أحدهما ظلم النفس وأعظمه الشرك كما قال تعالى {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} لقمان فإن المشرك جعل المخلوق في منزلة الخالق فعبده وتألهه فهو وضع الأشياء في غير مواضعها وأكثر ما ذكر في القرآن وعيد للظالمين إنما أريد به المشركون كما قال الله عز وجل {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} البقرة ثم يليه المعاصي على اختلاف أجناسها من كبائر وصغائر والثاني ظلم العبد لغيره وهو المذكور في هذا الحديث وقد قال النبي ﷺ في خطبته في حجة الوداع إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا وروي عنه أنه خطب بذلك في يوم النحر من يوم عرفة وفي اليوم الثاني من أيام التشريق وفي رواية ثم قال اسمعوا مني تعيشوا ألا لا تظالموا إنه لا يحل مال امريء مسلم إلا عن طيب نفس منه.

وفي الصحيحين عن ابن عمر عن النبي ﷺ أنه قال إن الظلم ظلمات يوم القيامة وفيهما عن أبي موسى عن النبي ﷺ قال إن الله ليملي الظالم حتى إذا أخذه لم يفلته ثم قرأ {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} هود.

وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال من كانت عنده مظلمة لأخيه فليتحلل منها فإنه ليس ثم دينار ولا درهم من قبل أن يؤخذ لأخيه من حسناته فإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات أخيه فطرحت عليه قوله يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعا فاستغفروني أغفر لكم هذا يقتضي أن جميع الخلق مفتقرون إلى الله تعالى في جلب مصالحهم ودفع مضارهم في أمور دينهم ودنياهم وإن العباد لا يملكون لأنفسهم شيئًا من ذلك كله وإن من لم يتفضل الله عليه بالهدي والرزق فإنه يحرمهما في الدنيا ومن لم يتفضل الله عليه بمغفرة ذنوبه أوبقته خطاياه في الآخرة قال الله تعالى {مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُّرْشِدًا} الكهف ومثل هذا كثير في القرآن وقال تعالى {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} فاطر وقال {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} هود وقال تعالى حاكيا عن آدم وزوجه عليهما السلام أنهما قالا {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} الأعراف وعن نوح عليه الصلاة والسلام أنه قال {وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ} هود وقد استدل إبراهيم الخليل عليه السلام بتفرد الله بهذه الأمور على أنه لا إله غيره وإن كل ما أشرك معه باطل فقال لقومه {أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ. أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ. فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ. الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ. وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ. وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ. وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ. وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ. رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} الشعراء فإن من تفرد بخلق العبد وبهدايته وبرزقه وإحيائه وإماتته في الدنيا وبمغفرة ذنوبه في الآخرة مستحق أن يفرد بالإلهية والعبادة والسؤال والتضرع والاستكانة له قال الله عز وجل {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُم مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُم مِّن شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} الروم.

وفي الحديث دليل على أن الله يحب أن يسأله العباد جميع مصالح دينهم ودنياهم من الطعام والشراب والكسوة وغير ذلك كما يسألونه الهداية والمغفرة وفي الحديث ليسأل أحدكم ربه حاجته كلها حتى شسع نعله إذا انقطع.

وكان بعض السلف يسأل الله في صلاته كل حوائجه حتى ملح عجينة وعلف شاته وفي الإسرائيليات أن موسى عليه الصلاة والسلام قال يا رب إنه ليعرض لي الحاجة من الدنيا فأستحي أن أسألك قال سلني حتى ملح عجينك وعلف حمارك فإن كل ما يحتاج العبد إليه إذا سأله من الله فقد أظهر حاجته فيه وافتقاره إلى الله وذاك يحبه الله.

وكان بعض السلف يستحي من الله أن يسأله شيئًا من مصالح الدنيا والاقتداء بالسنة أولى، وقوله كلكم ضال إلا من هديته قد ظن بعضهم أنه معارض لحديث عياض بن حمار عن النبي ﷺ يقول الله عز وجل خلقت عبادي حنفاء وفي رواية مسلمين فاجتالتهم الشياطين وليس كذلك فإن الله خلق بني آدم وفطرهم على قبول الإسلام والميل إليه دون غيره والتهيؤ والاستعداد له بالقوة لكن لا بد للعبد من تعليم الإسلام بالفعل فإنه قبل التعلم جاهل لا يعلم كما قال عز وجل {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا} النحل وقال لنبيه ﷺ ووجدك ضالا فهدى الضحي والمراد وجدك غير عالم بما علمك من الكتاب والحكمة كما قال تعالى {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا} الشورى فالإنسان يولد مفطورًا على قبول الحق فإن هداه الله تعالى سبب له من يعلمه الهدى فصار مهديًا بالفعل بعد أن كان مهديًا بالقوة وإن خذله الله قيض له من يعلمه ما يغير فطرته كما قال ﷺ كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه.

وأما سؤال المؤمن من الله الهداية فإن الهداية نوعان هداية مجملة وهي الهداية للإسلام والإيمان وهي حاصلة للمؤمن وهداية مفصلة وهي هداية إلى معرفة تفاصيل أجزاء الإيمان والإسلام وإعانته على فعل ذلك وهذا يحتاج إليه كل مؤمن ليلًا ونهارا ولهذا أمر الله عباده أن يقرأوا في كل ركعة من صلاتهم قوله اهدنا الصراط المستقيم الفاتحة.

وكان النبي ﷺ يقول في دعائه بالليل اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم ولهذا يشمت العاطس فيقال له يهديكم الله كما جاءت به السنة وإن أنكره من أنكره من فقهاء العراق ظنًا منهم أن المسلم لا يحتاج أن يدعى له بالهدى وخالفهم جمهور العلماء اتباعًا للسنة في ذلك وقد أمر النبي ﷺ عليًا أن يسأل الله السداد والهدى وعلم الحسن أن يقول في قنوت الوتر اللهم اهدني فيمن هديت وأما الاستغفار من الذنوب فهو طلب المغفرة والعبد أحوج شيء إليه لأنه يخطيء بالليل والنهار وقد تكرر في القرآن ذكر التوبة والاستغفار والأمر بهما والحث عليهما.

وخرج الترمذي وابن ماجه من حديث أنس رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون.

وخرج البخاري من حديث أبي هريرة عن النبي ﷺ قال والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه كل يوم مائة مرة.

وخرج من حديث الأغر المزني سمع النبي ﷺ يقول يا أيها الناس توبوا إلى ربكم فإني أتوب إليه في اليوم مائة مرة.

وخرجه النسائي ولفظه يا أيها الناس توبوا إلى ربكم واستغفروه فإني أتوب إلى الله وأستغفره كل يوم مائة مرة.

وخرج الإمام أحمد من حديث حذيفة يقال كان في لساني ذرب على أهلي لم أعده إلى غيره فذكرت ذلك للنبي ﷺ فقال أين أنت من الاستغفار يا حذيفة إني لأستغفر الله كل يوم مائة مرة.

ومن حديث أبي بكر عن النبي ﷺ قال إني أستغفر الله مائة مرة وأتوب إليه.

وخرج النسائي من حديث أبي موسى قال كنا جلوسا فجاء النبي ﷺ قال ما أصبحت غداة قط إلا استغفرت الله مائة مرة.

وخرج الإمام أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه من حديث ابن عمر قال إن كنا لنعد لرسول الله ﷺ في المجلس الواحد مائة مرة يقول رب اغفر لي وتب على إنك أنت التواب الرحيم.

وخرج النسائي من حديث أبي هريرة قال لم أكثر أن يقول أستغفر الله وأتوب إليه من رسول الله ﷺ.

وخرج الإمام أحمد من حديث عائشة رضي الله عنها عن النبي ﷺ أنه كان يقول اللهم اجعلني من الذين إذا أحسنوا استبشروا وإذا أساءوا استغفروا.

وسنذكر بقية الكلام في الاستغفار فيما بعد إن شاء الله تعالى.

وقوله يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني يعني أن العباد لا يقدرون أن يوصلوا إلى الله نفعا ولاضرا فإن الله تعالى في نفسه غني حميد لا حاجة له بطاعات العباد ولا يعود نفعها إليه وإنما هم ينتفعون بها ولا يتضرر بمعاصيهم وإنما هم يتضررون بها قال الله تعالى {وَلاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ اللَّهَ شَيْئاً} آل عمران وقال {وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا} آل عمران، وكان النبي ﷺ يقول في خطبته ومن يعص الله ورسوله فقد غوى ولا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئًا قال الله عز وجل {وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ لِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا} النساء وقال حاكيًا عن موسى {وَقَالَ مُوسَى إِن تَكْفُرُواْ أَنتُمْ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ} إبراهيم وقال {وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} آل عمران وقال {لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ} الحج.

والمعنى أنه تعالى يحب من عباده أن يتقوه ويطيعوه كما أنه يكره منهم أن يعصوه ولهذا يفرح بتوبة التائبين أشد من فرح من ضلت راحلته التي عليها طعامه وشرابه بفلاة من الأرض وطلبها حتى أعيى وأيس منها واستسلم للموت وأيس من الحياة ثم غلبته عينه فنام واستيقظ وهي قائمة عنده وهذا أعلى ما يتصوره المخلوق من الفرح هذا كله مع غناه عن طاعات عباده وتوباتهم إليه وإنه إنما يعد نفعها إليهم دونه ولكن هذا من كمال جوده وإحسانه إلى عباده ومحبته لنفعهم ودفع الضر عنهم فهو يحب من عباده أن يعرفوه ويحبوه ويخافوه ويتقوه ويطيعوه ويتقربوا إليه ويحب أن يعلموا أنه لا يغفر الذنوب غيره وأنه قادر على مغفرة ذنوب عباده كما في رواية عبدالرحمن بن غنم عن أبي ذر لهذا الحديث من علم منكم أني ذو قدرة على المغفرة ثم استغفرني غفرت له ولا أبالي.

وفي الصحيح عن النبي ﷺ أن عبدًا أذنب ذنبا فقال يا رب إني فعلت ذنبا فاغفر لي فقال الله علم عبدي أن له ربا يغفر الذنوب ويأخذ بالذنب قد غفرت لعبدي وفي حديث على بن أبي طالب رضي الله عنه النبي ﷺ أنه لما ركب دابته حمد الله ثلاثًا وكبر ثلاثًا وقال سبحانك إني ظلمت نفسي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت ثم ضحك وقال إن ربك ليعجب من عبده إذا قال رب اغفر لي ذنوبي يعلم أنه لا يغفر الذنوب غيري خرجه الإمام أحمد والترمذي وصححه.

وفي الصحيح عن النبي ﷺ قال والله لله أرحم بعباده من الوالدة بولدها كان بعض أصحاب ذي النون يطوف ينادي آه أين قلبي من وجد قلبي فدخل يومًا بعض السكك فوجد صبيا يبكي أمه تضربه ثم أخرجته من الدار وأغلقت الباب دونه فجعل الصبي يلتفت يمينا وشمالًا لا يدري أين يذهب ولا أين يقصد فرجع إلى باب الدار فجعل يبكي ويقول يا أماه من يفتح لي الباب إذا أغلقت بابك عني ومن يدنيني إذا طردتيني ومن الذي يدنيني إذا غضبت علي فرحمته أمه فنظرت من خلل الباب فوجدت ولدها تجري الدموع على خديه متمعكا في التراب ففتحت الباب وأخذته حتى وضعته في حجرها وجعلت تقبله وتقول يا قرة عيني ويا عزيز نفسي أنت الذي حملتني على نفسك وأنت الذي تعرضت لما حل بك لو كنت أطعتني لم تلق مني مكروها فتواجد الفتى ثم صاح وقال قد وجدت قلبي قد وجدت قلبي وتفكروا في قوله تعالى {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ} آل عمران فإن فيه إشارة إلى أن المذنبين ليس لهم من يلجأون إليه ويعولون عليه في مغفرة ذنوبهم غيره.

وكذلك قوله في حق الثلاثة الذين خلفوا {حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} التوبة فرتب توبته على ظنهم أن لا ملجأ من الله إلا إليه فإن العبد إذا خاف من مخلوق هرب منه وفر إلى غيره وأما من خاف من الله فما له من ملجأ يلجأ إليه ولا مهرب يهرب إليه إلا هو فيهرب منه إليه كما كان النبي ﷺ يقول في دعائه لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك.

وكان يقول أعوذ برضاك من سخطك وبعفوك من عقوبتك وبك منك.

قال الفضيل بن عياض رضي الله عنه ما من ليلة اختلط ظلامها وأرخى الليل سربال سترها إلا نادى الجليل جل جلاله من أعظم مني جودا والخلائق لي عاصون وأنا لهم مراقب أكلؤهم في مضاجعهم كأنهم لم يعصوني وأتولى حفظهم كأنهم لم يذنبوا فيما بيني وبينهم أجود بالفضل على العاصي وأتفضل على المسيء من ذا الذي دعاني فلم أستجب إليه أم من ذا الذي سألني فلم أعطه أم من الذي أناخ ببابي فنحيته أنا الفضل ومني الفضل أنا الجواد ومني الجود وأنا الكريم ومني الكرم ومن كرمي أن أغفر للعاصين بعد المعاصي ومن كرمي أن أعطي العبد ما سألني وأعطيه ما لم يسألني ومن كرمي أن أعطي التائب كأنه لم يعصني فأين إلى غيره يهرب الخلائق وأين عن بابه يلتجيء العاصون خرجه أبو نعيم ولبعضهم في المعنى قائلا:

أسأت ولم أحسن وجئتك تائبًا *** وأني لعبد عن مواليه يهرب ؟

يؤمل غفرانا فإن خاب ظنه *** فما أحد منه على الأرض أخيب

فقوله بعد هذا يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئًا ولو كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئًا هو إشارة إلى أن ملكه لا يزيد بطاعة الخلق ولو كانوا كلهم بررة أتقياء قلوبهم على قلب أتقى رجل منهم ولا ينقص ملكه بمعصية العاصين ولو كان الجن والإنس كلهم عصاة فجرة قلوبهم على قلب أفجر رجل منهم فإنه سبحانه الغني بذاته عمن سواه وله الكمال المطلق في ذاته وصفاته وأفعاله فملكه ملك كامل لا نقص فيه بوجه من الوجوه على أي وجه كان ومن الناس من قال إن إيجاده لخلقه على هذا الوجه الموجود أكمل من إيجاده على غيره وهو خير من وجوده على غيره وما فيه من الشر فهو شر إضافي نسبي بالنسبة إلى بعض الأشياء دون بعض وليس شرًا مطلقا بحيث يكون عدمه خيرًا من وجوده من كل وجه بل وجوده خير من عدمه وقال هذا معنى قوله بيده الخير ومعنى قول النبي ﷺ والشر ليس إليك يعني أن الشر المحض الذي عدمه خير من وجوده ليس موجودًا في ملكك فإن الله تعالى أوجد خلقه على ما تقتضيه حكمته وعدله وخص قومًا من خلقه بالفضل وترك آخرين منهم في العدل لما له في ذلك من الحكمة البالغة وهذا فيه نظر وهو يخالف ما في الحديث من أن جميع الخلق لو كانوا على صفة أكمل خلقه من البر والتقوى لم يزد ذلك في ملكه شيئًا ولا قدر جناح بعوضة ولو كانوا على صفة أنقص خلقه من الفجور لم ينقص ذلك من ملكه شيئًا فدل على أن ملكه كامل على أي وجه كان لا يزدا ولا يكمل بالطاعة ولا ينقص بالمعاصي ولا يؤثر فيه شيئًا وفي هذا الكلام دليل على أن الأصل في التقوى والفجور هي القلوب فإذا بر القلب واتقي برت الجوارح وإذا فجر القلب فجرت الجوارح كما قال النبي ﷺ التقوى ههنا وأشار إلى صدره فقوله لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسئلته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر فالمراد بهذا ذكر كمال قدرته سبحانه وكمال ملكه وإن ملكه وخزائنه لا تنفذ ولا تنقص بالعطاء ولو أعطي الأولين والآخرين من الجن والإنس جميع ما سألوه في مقام واحد وفي ذلك حث الخلق على سؤاله وإنزال حوائجهم به.

وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال يد الله ملأي لا تغيضها نفقة سحاء الليل والنهار أفرأيتم ما أنفق ربكم منذ خلق السموات والأرض فإنه لم يغض ما في يمينه وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال إذا دعا أحدكم فلا يقل اللهم اغفر لي إن شئت ولكن ليعزم وليعظم الرغبة فإن الله لا يتعاظمه شيء وقال أبو سعيد الخدري إذا دعوتم الله فارفعوا في المسئلة فإن ما عنده لا ينفذه شيء وإذا دعوتم فاعزموا فإن الله لا مستكره له وفي بعض الإسرائيليات يقول الله عز وجل أيؤمل غيري للشدائد والشدائد بيدي وأنا الحي القيوم ويرجي غيري ويطرق بابه بالبكرات وبيدي مفاتيح الخزائن وبابي مفتوح لمن دعاني من ذا الذي أملني لنائبة فقطعت به أو من ذا الذي رجاني لعظيم فقطعت به أو من ذا الذي طرق بابي فلم أفتحه له أنا غاية الآمال فكيف تنقطع الآمال دوني أبخيل أنا فيبخلني عبدي أليس الدنيا والآخرة والكرم والفضل كله لي فما يمنع المؤملين أن يؤملوني لو جمعت أهل السموات والأرض ثم أعطيت كل واحد منهم ما أعطيت الجميع وبلغت كل واحد أمله لم ينقص ذلك من ملكي عضو ذرة كيف ينقص ملك أنا قيمه فيا بؤسا للقانطين من رحمتي ويا بؤسا لمن عصاني وتوثب على محارمي، وقوله ولم ينقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر لتحقيق أن ما عنده لا ينقص البتة كما قال تعالى {مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللَّهِ بَاقٍ} فإن البحر إذا غمس فيه إبرة ثم أخرجت لم تنقص من البحر بذلك شيئا، وكذلك لو فرض أنه شرب منه عصفور مثلًا فإنه لا ينقص البحر البتة ولهذا ضرب الخضر لموسى عليهما السلام هذا المثل في نسبة علمهما إلى علم الله عز وجل وهذا لأن البحر لا يزال تمد مياه الدنيا وأنهارها الجارية فمهما أخذ منه لم ينقصه شيء لأنه يمده ما هو أزيد مما أخذ منه وهكذا طعام الجنة وما فيها فإنه لا ينقص كما قال تعالى {وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ. لاَّ مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ} الواقعة وقد جاء كلما نزعت ثمرة عاد مكانها مثلها وروي مثلاها فهي لا تنقص أبدًا ويشهد لذلك قول النبي ﷺ في خطبة الكسوف ورأيت الجنة فتناولت منها عنقودا ولو أخذته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا خرجاه في الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما وخرجه الإمام أحمد من حديث جابر ولفظه ولو أتيتكم به لأكل منه من بين السماء والأرض لا ينقصونه شيئًا وهكذا لحم الطير الذي يأكله أهل الجنة يستخلف ويعود كما كان حيا لا ينقص منه شيء وقد روي هذا الحديث عن النبي ﷺ من وجوه فيها ضعف وقاله كعب وروي أيضًا عن أبي أمامة الباهلي من قوله قال أبو أمامة، وكذلك الشراب يشرب منه حتى تنتهي نفسه ثم يعود مكانه ورؤي بعض العلماء الصالحين بعد موته بمدة في المنام فقال ما أكلت منذ فارقتكم إلا بعض فرخ أما علمتم أن طعام الجنة لا ينفد وقد تبين في الحديث الذي خرجه الترمذي وابن ماجه السبب الذي لأجله لا ينقص ما عند الله بالعطاء بقوله ذلك بأني جواد واجد ماجد أفعل ما أريد عطائي كلام وعذابي كلام إنما أمري لشيء إذا أردت إنما أقول له كن فيكون وهذا مثل قوله تعالى {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} يس، وقوله تعالى {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} النحل.

وفي مسند البزار بإسناد فيه نظر من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال خزائن الله الكلام فإذا أراد الله شيئًا قال له كن فكان فهو سبحانه إذا أراد شيئًا من عطاء أو عذاب أو غير ذلك قال له كن فيكون فكيف يتصور أن ينقص هذا، وكذلك إذا أراد أن يخلق شيئًا قال له كن فيكون كما قال {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} آل عمران وفي بعض الآثار الإسرائيلية أوحى الله تعالى إلى موسى عليه الصلاة والسلام يا موسى لا تخافن غيري ما دام لي السلطان وسلطاني دائم لا ينقطع يا موسى لا تهتمن برزقي أبدًا ما دامت خزائني مملوءة لا تفنى أبدًا يا موسى لا تأنس بغيري ما وجدتني أنيسا لك متى طلبتني وجدتني يا موسى لا تأمن مكري ما لم تجز الصراط إلى الجنة وقال بعضهم:

لا تخضعن لمخلوق على طمع *** فإن ذاك مضر منك بالدين

واسترزق الله مما في خزائنه *** فإنما هي بين الكاف والنون

، وقوله يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها يعني أنه سبحانه يحصي أعمال عباده ثم يوفيهم إياها بالجزاء عليها وهذا كقوله فمن يعمل مثقال ذرة خيرًا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرًا يره الزلزلة، وقوله ووجدوا ما عملوا حاضرًا ولا يظلم ربك أحدًا الكهف، وقوله يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا آل عمران، وقوله يوم يبعثهم الله جميعا فينبئهم بما عملوا أحصاه الله ونسوه المجادلة، وقوله ثم أوفيكم إياها الظاهر أن المراد توفيتها يوم القيامة كما قال تعالى {وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} آل عمران.

ويحتمل أن المراد يوفي عباده جزاء أعمالهم في الدنيا والآخرة كما في قوله من يعمل سوء يجز به النساء وقد روي عن النبي ﷺ أنه فسر ذلك بأن المؤمنين يجازون بسيئاتهم في الدينا وتدخر لهم حسناتهم في الآخرة فيوفون أجورهم وأما الكافر فإنه يعجل له في الدنيا ثواب حسناته وتدخر له سيئاته فيعاقب بها في الآخرة ويوفيه جزاءها من خير أو شر فالشر يجازى به مثله من غير زيادة إلا أن يعفو الله عنه والخير تضاعف الحسنة عنه بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة لا يعلم قدرها إلا الله كما قال تعالى {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ} الزمر.

وقوله: فمن وجد خيرًا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه إشارة إلى أن الخير كله فضل من الله على عبده من غير استحقاق له والشر كله من عند ابن آدم من اتباع هوى نفسه كما قال عز وجل {مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ} النساء.

وقال علي رضي الله عنه لا يرجو عبد إلا ربه ولا يخافن إلا ذنبه.

فالله سبحانه إذا أراد توفيق عبد وهدايته أعانه ووفقه لطاعته، وكان ذلك فضلًا منه ورحمة وإذا أراد خذلان عبد وكله إلى نفسه وخلى بينه وبينها فأغواه الشيطان لغفلته عن ذكر الله واتبع هواه، وكان أمره فرطا، وكان ذلك عدلا منه فإن الحجة قائمة على العبد بإنزال الكتاب وإرسال الرسول فما بقي لأحد من الناس على الله حجة بعد الرسل فقوله بعد هذا فمن وجد خيرًا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه إن كان المراد من وجد ذلك في الدنيا فإنه يكون حينئذ مأمورًا بالحمد لله على ما وجده من جزاء الأعمال الصالحة الذي عجل له في الدنيا كما قال من عمل صالحًا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون النحل ويكون مأمورًا بلوم نفسه على ما فعلت من الذنوب التي وجد عاقبتها في الدنيا كما قال تعالى {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} السجدة فالمؤمن إذا أصابه في الدنيا بلاء رجع إلى نفسه باللوم ودعاه ذلك إلى الرجوع إلى الله بالتوبة والاستغفار.

وفي المسند وسنن أبي داود عن النبي ﷺ قال إن المؤمن إذا أصابه سقم ثم عافاه الله منه كان كفارة لما مضى من ذنوبه وموعظة له فيما يستقبل من عمره وإن المنافق إذا مرض وعوفي كان كالبعير عقله أهله وأطلقوه لا يدري بما عقلوه ولا بما أطلقوه وقال سلمان الفارسي إن المسلم ليبتلى فيكون كفارة لما مضى ومستعتبا فيما بقى وإن الكافر يبتلى فمثله كمثل البعير أطلق فلم يدر لما أطلق وعقل وإن كان المراد من وجد خيرًا أو غيره في الآخرة كان إخبارا منه بأن الذين يجدون الخير في الآخرة يحمدون الله على ذلك وأن من وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه حين لا ينفعه اللوم فيكون الكلام لفظه لفظ الأمر ومعناه الخبر كقوله ﷺ من كذب على متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار والمعنى أن الكاذب عليه يتبوأ مقعده من النار وقد أخبر الله تعالى عن أهل الجنة أنهم يحمدون الله على ما رزقهم من فضله فقال ونزعنا ما في صدورهم من غل تجري من تحتهم الأنهار وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله الأعراف وقال تعالى {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاء} الزمر وقال تعالى {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ. الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ} فاطر وأخبر عن أهل النار أنهم يلومون أنفسهم ويمقتونها أشد المقت فقال تعالى {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم} إبراهيم وقال تعالى {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ} غافر.

وقد كان السلف الصالح يجتهدون في الأعمال الصالحة حذرا من لوم النفس عند انقطاع الأعمال على التقصير.

وفي الترمذي عن أبي هريرة مرفوعًا ما من ميت يموت إلا ندم إن كان محسنًا ندم على أن لا يكون ازداد وإن كان مسيئًا ندم أن لا يكون استعتب.

وقيل لمسروق لو قصرت عن بعض ما تصنع من الاجتهاد فقال والله لو أتاني آت فأخبرني أن لا يعذبني لاجتهدت في العبادة قيل كيف ذاك قال حتى تعذرني نفسي إن دخلت النار أن لا ألومها أما بلغك في قول الله تعالى {وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} القيامة إنما لاموا أنفسهم حين صاروا إلى جهنم فاعتنقتهم الزبانية وحيل بينهم وبين ما يشتهون وانقطعت عنهم الأماني ورفعت عنهم الرحمة وأقبل كل امريء منهم يلوم نفسه.

وكان عامر بن عبد قيس يقول والله لأجتهدن ثم والله لأجتهدن فإن نجوت فبرحمة الله وإلا لم ألم نفسي.

وكان زياد بن عياش يقول لابن المنكدر ولصفوان بن سليم الجد الجد والحذر الحذر فإن يكن الأمر على ما نرجو كان ما عملتما فضلًا وإلا لم تلوما أنفسكما. وكان مطرف بن عبدالله يقول اجتهدوا في العمل فإن يكن الأمر ما نرجو من رحمة الله وعفوه كانت لنا درجات وإن يكن الأمر شديدًا كما نخاف ونحذر لم نقل {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} فاطر نقول قد عملنا فلم ينفعنا ذلك.

============

الحديث الخامس والعشرون

عن أبي ذر رضي الله عنه أيضًا أن ناسا من أصحاب رسول الله ﷺ قالوا للنبي ﷺ يا رسول الله ذهب أهل الدثور بالأجور يصلون كما نصلي ويصومون كما نصوم ويتصدقون بفضول أموالهم قال أوليس قد جعل الله لكم ما تصدقون إن بكل تسبيحة صدقة وكل تكبيرة صدقة وكل تحميدة صدقة وكل تهليلة صدقة وأمر بالمعروف صدقة ونهي عن منكر صدقة وفي بضع أحدكم صدقة قالوا يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر قال أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر . رواه مسلم

هذا الحديث خرجه مسلم من رواية يحيى بن معمر عن أبي الأسود الديلمي عن أبي ذر رضي الله عنه وقد روي معناه عن أبي ذر من وجوه كثيرة بزيادة ونقصان وسنذكر بعضها فيما بعد إن شاء الله تعالى وفي الحديث دليل على أن الصحابة رضي الله عنهم لشدة حرصهم على الأعمال الصالحة وقوة رغبتهم في الخير كانوا يحزنون على ما يتعذر عليهم فعله من الخير مما يقدر عليه غيرهم فكان الفقراء يحزنون على فوات الصدقة بالأموال التي يقدر عليها الأغنياء ويحزنون على التخلف عن الخروج في الجهاد لعدم القدرة على آلته وقد أخبر الله عنهم بذلك في كتابه فقال ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون التوبة وفي هذا الحديث أن الفقراء غبطوا أهل الدثور والدثور هي الأموال مما يحصل لهم من أجر الصدقة بأموالهم فدلهم النبي ﷺ على صدقات يقدرون عليها.

وفي الصحيحين عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن فقراء المهاجرين أتوا النبي ﷺ فقالوا ذهب أهل الدثور بالدرجات العلي والنعيم المقيم فقال وما ذاك قالوا يصلون كما نصلي ويصومون كما نصوم ويتصدقون ولا نتصدق ويعتقون ولا نعتق فقال رسول الله ﷺ أفلا أعلمكم شيئًا تدركون به من قد سبقكم وتسبقون به من بعدكم ولا يكون أحد أفضل منكم إلا من صنع مثل ما صنعتم قالوا بلى يا رسول الله قال تسبحون وتكبرون وتحمدون دبر كل صلاة ثلاثًا وثلاثين مرة قال أبو صالح فرجع فقراء المهاجرين إلى رسول الله ﷺ فقالوا سمع إخواننا أهل الأموال بما فعلنا ففعلوا مثله فقال رسول الله ﷺ ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء وقد روي نحو هذا الحديث من رواية جماعة من الصحابة منهم على وأبو ذر وأبو الدرداء وابن عمر وابن عباس وغيرهم ومعنى هذا أن الفقراء ظنوا أن لا صدقة إلا بالمال وهم عاجزون عن ذلك فأخبرهم النبي ﷺ أن جميع أنواع فعل المعروف والإحسان صدقة وفي صحيح مسلم عن حذيفة عن النبي ﷺ قال كل معروف صدقة وخرجه البخاري من حديث جابر عن النبي ﷺ قال الصدقة تطلق على جميع أنواع المعروف والإحسان حتى أن فضل الله الواصل منه إلى عباده صدقة منه عليهم وقد كان بعض السلف ينكر ذلك ويقول إنما الصدقة ممن يطلب جزاءها وأجرها والصحيح خلاف ذلك وقد قال النبي ﷺ في قصر الصلاة في السفر صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته خرجه مسلم وقال من كانت له صلاة بليل فغلب عليه نوم فنام عنها كتب الله له أجر صلاته، وكان نومه صدقه من الله تصدق بها عليه خرجه النسائي وغيره من حديث عائشة رضي الله عنها وخرجه ابن ماجه من حديث أبي الدرداء.

وفي مسند بقي بن مخلد والبزار من حديث أبي ذر مرفوعًا ما من يوم ولا ليلة ولا ساعة إلا لله فيها صدقة يمن بها على من يشاء من عباده وما من الله على عبد مثل أن يلهمه ذكره وقال خالد بن معدان إن الله يتصدق كل يوم بصدقة وما تصدق الله على أحد من خلقه بشيء خير من أن يتصدق عليه بذكره والصدقة بغير المال نوعان أحدهما ما فيه تعدية الإحسان إلى الخلق فتكون صدقة عليهم وربما كان أفضل من الصدقة بالمال وهذا كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإنه دعاء إلى الله طاعة وكف عن معاصيه وذلك خير من النفع بالمال، وكذلك تعليم العلم وإقراء القرآن وإزالة الأذى عن الطريق والسعي في جلب النفع للناس ودفع الأذى عنهم، وكذلك الدعاء للمسلمين والاستغفار لهم.

وخرج ابن مردويه بإسناد فيه ضعف عن ابن عمر مرفوعًا من كان له مال فليتصدق من ماله ومن كان له قوة فليتصدق من قوته ومن كان له علم فليتصدق من علمه ولعله موقوف.

وخرج الطبراني بإسناد فيه ضعف عن سمرة عن النبي ﷺ أفضل الصدقة صدقة اللسان قيل يا رسول الله وما صدقة اللسان قال الشفاعة تفك بها الأسير وتحقن بها الدم وتجر بها المعروف والإحسان إلى أخيك وتدفع عنه الكريهة وقال عمرو بن دينار بلغنا أن رسول الله ﷺ قال ما من صدقة أحب إلى الله من قول ألم تسمع إلى قوله تعالى {قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَآ أَذًى} البقرة خرجه ابن أبي حاتم.

وفي مراسيل الحسن عن النبي ﷺ إن من الصدقة أن تسلم على الناس وأنت طليق الوجه خرجه ابن أبي الدنيا.

وقال معاذ تعليم العلم لمن لا يعلمه صدقة وروي مرفوعًا ومن أنواع الصدقة كف الأذى عن الناس.

ففي الصحيحين عن أبي ذر رضي الله عنه قال قلت يا رسول الله أي الأعمال أفضل قال الإيمان بالله والجهاد في سبيل الله قلت فأي الرقاب أفضل قال أنفسها عند أهلها وأكثرها ثمنا قلت فإن لم أفعل قال تعين صانعا وتصنع لأخرق قلت يا رسول الله أرأيت إن ضعفت عن بعض العمل قال تكف شرك عن الناس فإنها صدقة.

وقد روي في حديث أبي ذر زيادات أخرى فخرج الترمذي من حديث أبي ذر عن النبي ﷺ قال تبسمك في وجه أخيك لك صدقة وأمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر صدقة وإرشادك الرجل في أرض الضلال لك صدقة وإماطتك الحجر والشوك والعظم عن الطريق لك صدقة وإفراغك من دلوك في دلو أخيك لك صدقة.

وخرج ابن حبان في صحيحه من حديث أبي ذر رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال ليس من نفس ابن آدم إلا عليها صدقة في كل يوم طعلت فيه الشمس قيل يا رسول الله ومن أين لنا صدقة نتصدق بها قال إن أبواب الجنة لكثيرة التسبيح والتكبير والتحميد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتميط الأذى عن الطريق وتسمع الأصم وتهدي الأعمى وتدل المستدل على حاجته وتسعى بشدة ساقيك مع اللهفان المستغيث وتحمل بشدة ذراعيك مع الضعيف فهذا كله صدقة منك على نفسك.

وخرج الإمام أحمد من حديث أبي ذر قال قلت يا رسول الله ذهب الأغنياء بالأجر يتصدقون ولا نتصدق قال وأنت فيك صدقة رفعك العظم عن الطريق صدقة وهدايتك الطريق صدقة عونك الضعيف بفضل قوتك صدقة وبيانك عن الأغتم صدقة ومباضعتك امرأتك صدقة قلت يا رسول الله نأتي شهوتنا ونؤجر قال أرأيت لو جعلت ذلك في حرام أكان تأثم قال قلت نعم قال أفتحتسبون بالشر ولا تحتسبون بالخير.

وفي رواية أخرى فقال النبي ﷺ إن فيك صدقة كثيرة فذكر فضل سمعك وفضل بصرك وفي رواية أخرى للإمام أحمد قال إن من أبواب الصدقة التكبير وسبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله وأستغفر الله وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتعزل الشوكة عن الطريق والعظم والحجر وتهدي الأعمى وتسمع الأصم والأبكم حتى يفقه وتدل المستدل على حاجة له قد علمت مكانها وتسعى بشدة ساقيك إلى اللهفان المستغيث وترفع بشدة ذراعيك مع الضعيف كل ذلك من أبواب الصدقة منك على نفسك ولك في جماع زوجتك أجر قلت كيف يكون لي أجر في شهوتي فقال رسول الله ﷺ أرأيت لو كان لك ولد فأدرك ورجوت خيره فمات أكنت تحتسب به قلت نعم قال فأنت خلقته قلت بل الله خلقه قال أفأنت هديته قلت بل الله هداه قال أفأنت كنت ترزقه قلت بلى الله كان يرزقه قال كذلك فضعه في حلاله وجنبه حرامه فإن شاء الله أحياه وإن شاء أماته ولك أجر ظاهر هذا السياق يقتضي أنه يؤجر على جماعه لأهله بنية طلب الولد الذي يترتب الأجر على تربيته وتأديبه في حياته ويحتسبه عند موته وأما إذا لم ينو شيئًا بقضاء شهوته فهذا قد تنازع الناس في دخوله في هذا الحديث.

وقد صح الحديث بأن نفقة الرجل على أهله صدقة.

ففي الصحيحين عن أبي مسعود الأنصاري عن النبي ﷺ قال نفقة الرجل على أهله صدقة وفي رواية لمسلم وهو يحتسبها وفي لفظ للبخاري وإذا أنفق الرجل على أهله وهو يحتسبها عند الله كما في حديث سعد بن أبي وقاص عن النبي ﷺ قال إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها حتى اللقمة ترفعها إلى في امرأتك.

وفي صحيح مسلم عن ثوبان عن النبي ﷺ قال أفضل الدنانير دينار ينفقه الرجل على عياله ودينار ينفقه على فرسه في سبيل الله ودينار ينفقه الرجل على أصحابه في سبيل الله قال أبو قلابة عند رواية هذا الحديث بدأ بالعيال وأي رجل أعظم أجرا من رجل ينفق على عيال له صغار يعفهم الله به ويغنيهم الله به.

وفيه أيضًا عن سعد عن النبي ﷺ قال إن نفقتك على عيالك صدقة وإن ما تأكل امرأتك من مالك صدقة وهذا قد ورد مقيدا في الرواية الأخرى بابتغاء وجه الله.

وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال دينار أنفقته في سبيل الله ودينار أنفقته في رقبة ودينار تصدقت به على مسكين ودينار أنفقته على أهلك أفضلها الدينار الذي أنفقته على أهلك.

وخرج الإمام أحمد وابن حبان في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله ﷺ تصدقوا فقال رجل عندي دينار فقال تصدق به على نفسك قال عندي دينار آخر قال تصدق به على زوجتك قال عندي دينار آخر قال تصدق به على ولدك قال عندي دينار آخر قال تصدق به على خادمك قال عندي دينار آخر قال أنت أبصر.

وخرج الإمام أحمد من حديث المقدام بن معدي كرب عن النبي ﷺ قال ما أطعمت نفسك فهو لك صدقة وما أطعمت ولدك فهو لك صدقة وما أطعمت زوجك فهو لك صدقة وما أطعمت خادمك فهو لك صدقة وفي هذا المعنى أحاديث كثيرة يطول ذكرها.

وفي الصحيحين عن أنس رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال ما من مسلم يغرس غرسا أو يزرع زرعا فيأكل منه إنسان أو طير أو دابة إلا كان له صدقة وفي صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال ما من مسلم يغرس غرسا إلا كان ما أكل منه له صدقة وما سرق منه له صدقة وما أكل السبع منه فهو له صدقة وما أكلت الطيور فهو له صدقة ولا ينقصه أحد إلا كان له صدقة وفي رواية له أيضًا فلا يأكل منه إنسان ولا دابة ولا طائر إلا كان له صدقة إلى يوم القيامة.

وفي المسند بإسناد ضعيف عن معاذ بن أنس الجهني عن النبي ﷺ قال من بنى بنيانا في غير ظلم ولا اعتداء أو غرس غراسا في غير ظلم ولا اعتداء إلا كان له أجر جاريا ما انتفع به أحد من خلق الرحمن وذكر البخاري في تاريخه من حديث جابر مرفوعًا من حفر ماء لم تشرب منه كبد حرا من جن ولا إنس ولا سبع ولا طائر إلا آجره الله يوم القيامة وظاهر هذه الأحاديث كلها يدل على أن هذه الأشياء تكون صدقة يثاب عليها الزارع والغارس ونحوهما من غير قصد ولا نية، وكذلك قول النبي ﷺ أرأيت لو وضعها في الحرام أكان عليه وزر فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر يدل بظاهره على أنه يؤجر في إتيان أهله من غير نية فإن الباضع لأهله كالزارع في الأرض التي يحرث ويبذر فيها وقد ذهب إلى هذا طائفة من العلماء ومال إليه أبو محمد بن قتيبة في الأكل والشرب والجماع واستدل بقول النبي ﷺ إن المؤمن ليؤجر في كل شيء حتى في اللقمة يرفعها إلى فيه وهذا اللفظ الذي استدل به غير معروف إنما المعروف قول النبي ﷺ لسعد إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها حتى اللقمة ترفعها إلى في امرأتك وهو مقيد بإخلاص النية لله فتحمل الأحاديث المطلقة عليه والله أعلم.

ويدل عليه أيضًا قول الله عز وجل {لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} النساء فجعل ذلك خيرًا ولم يرتب عليه الأجر إلا مع نية الإخلاص.

وأما إذا فعله رياء فإنه يعاقب عليه وإنما يحمل التردد إذا فعله بغير نية صالحة ولا فاسدة.

وقد قال أبو سليمان الداراني من عمل عمل خير من غير نية كفاه نية اختياره للإسلام على غيره من الأديان فظاهر هذا أنه يثاب عليه من غير نية بالكلية لأنه بدخوله في الإسلام مختار لأعمال الخير في الجملة فيثاب على كل عمل يعمله منها بتلك النية والله أعلم.

وقوله أرأيت لو وضعها في الحرام أكان عليه وزر فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر هذا يسمى عند الأصوليين قياس العكس ومنه قول ابن مسعود رضي الله عنه قال قال النبي ﷺ كلمة وقلت أنا أخرى قال من مات يشرك بالله شيئًا دخل النار وقلت من مات لا يشرك بالله دخل الجنة.

والنوع الثاني من الصدقة التي ليست مالية ما نفعه قاصر على فاعله كأنواع الذكر من التكبير والتسبيح والتحميد والتهليل والاستغفار، وكذلك المشي إلى المساجد صدقة ولم يذكر في شيء من الأحاديث الصلاة والصيام والحج والجهاد أنه صدقة وأكثر هذه الأعمال أفضل من الصدقات المالية لأنه إنما ذكر جوابا لسؤال الفقراء الذين سألوه عما يقاوم تطوع الأغنياء بأموالهم وأما الفرائض فإنهم قد كانوا كلهم مشتركين فيها وقد تكاثرت النصوص بتفضيل الذكر على الصدقة بالمال وغيره من الأعمال كما في حديث أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم وخير لكم من إنفاق الذهب والفضة وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم قالوا بلى يا رسول الله قال ذكر الله عز وجل.

خرجه الإمام أحمد والترمذي وذكره مالك في الموطأ موقوفا على أبي الدرداء.

وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيى ويميت وهو على كل شيء قدير في يوم مائة مرة كانت له عدل عشر رقاب وكتبت له مائة حسنة ومحيت عنه مائة سيئة وكانت له حرزا من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا أحد عمل أكثر من ذلك.

وفيهما أيضًا عن أبي أيوب عن النبي ﷺ أنه قال من قالها عشر مرات كان كمن أعتق أربعة أنفس من ولد إسماعيل.

وخرج الإمام أحمد والترمذي من حديث أبي سعيد أن النبي ﷺ سئل أي العباد أفضل درجة عند الله يوم القيامة قال الذاكرون الله كثيرًا قلت يا رسول الله ومن الغازي في سبيل الله قال لو ضرب بسيفه في الكفار والمشركين حتى ينكسر ويختضب دما لكان الذاكرون الله أفضل منه درجة ويروي نحوه من حديث معاذ وجابر مرفوعًا والصواب وقفه على معاذ من قوله.

وخرج الطبراني من حديث أبي الوازع عن أبي بردة عن أبي موسى عن النبي ﷺ قال لو أن رجلًا في حجره دراهم يقسمها وآخر يذكر الله كان الذاكر أفضل قلت الصحيح عن أبي الوازع عن أبي برزة الأسلمي من قوله خرجه جعفر الفريابي.

وخرج أيضًا من حديث أنس عن النبي ﷺ قال من كبر مائة وسبح مائة وهلل مائة كانت خيرًا له من عشر رقبات يعتقها ومن سبع بدنات ينحرها.

وخرج ابن أبي الدنيا بإسناده عن أبي الدرداء أنه قيل له إن رجلًا أعتق مائة نسمة فقال إن مائة نسمة من مال رجل كثير وأفضل من ذلك إيمان ملزوم بالليل والنهار وأن لا يزال لسان أحدكم رطبًا من ذكر الله عز وجل وعن أبي الدرداء أيضًا قال لأن أقول الله أكبر مائة مرة أحب إلى من أن أتصدق بمائة دينار، وكذلك قال سلمان الفارسي وغيره من الصحابة والتابعين إن الذكر أفضل من الصدقة بعدده من المال.

وخرج الإمام أحمد والنسائي من حديث أم هانئ أن النبي ﷺ قال لها سبحي الله مائة تسبيحة فإنها تعدل مائة رقبة من ولد إسماعيل واحمدي الله مائة تحميدة فإنها تعدل لك مائة فرس ملجمة مسرجة تحملين عليهن في سبيل الله وكبري الله مائة تكبيرة فإنها تعدل مائة بدنة مقلدة متقبلة وهللي الله مائة تهليلة لا أحسبه إلا قال تملأ ما بين السماء والأرض ولا يرفع يومئذ لأحد مثل عملك إلا أن يأتي بمثل ما أتيت وخرجه أحمد أيضًا وابن ماجه وعندهما وقولي لا إله إلا الله مائة مرة لا تذر ذنبا ولا يسبقها العمل وخرجه الترمذي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي ﷺ بنحوه.

وخرج الطبراني من حديث ابن عباس مرفوعًا قال ما من صدقة أفضل من ذكر الله عز وجل.

وخرج الفريابي بإسناد فيه نظر عن أبي أمامة مرفوعًا ومن فاته الليل أن يكابده ويبخل بماله أن ينفقه وجبن عن العدو أن يقاتله فليكثر من سبحان الله وبحمده فإنها أحب إلى الله عز وجل من جبل ذهب أو جبل فضة ينفقه في سبيل الله عز وجل. وخرج البزار بإسناد مقارب من حديث ابن عباس مرفوعًا قال في حديثه فليكثر ذكر الله ولم يزد على ذلك وفي المعنى أحاديث أخر متعددة.

=========

الحديث السادس والعشرون

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله ﷺ كل سلامى من الناس عليه صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس تعدل بين اثنين صدقة وتعين الرجل في دابته فتحمله عليها أو ترفع له عليها متاعه صدقة والكلمة الطيبة صدقة وبكل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة وتميط الأذى عن الطريق صدقة . رواه البخاري ومسلم

هذا الحديث خرجاه من رواية همام بن منبه عن أبي هريرة وخرجه البزار من رواية أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال للإنسان ثلاثمائة وستون عظما أو ستة وثلاثون سلامي عليه في كل يوم صدقة قالوا فمن لم يجد قال يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر قالوا فمن لم يستطع قال يرفع عظما عن الطريق قالوا فمن لم يستطع قال فليعن ضعيفا قالوا فمن لم يستطع ذلك قال فليدع الناس من شره.

وخرج مسلم من حديث عائشة عن النبي ﷺ قال خلق الله ابن آدم على ستين وثلاثمائة مفصل فمن ذكر الله وحمد الله وهلل الله وسبح الله وعزل حجرا عن طريق المسلمين أو عزل شوكة أو عزل عظما أو أمر بمعروف أو نهي عن منكر عدد تلك الستين والثلاث المائة السلامي أمسى من يومه وقد زحزح نفسه من النار.

وخرج مسلم أيضًا من رواية أبي الأسود الديلمي عن أبي ذر عن النبي ﷺ قال يصبح على كل سلامي أحدكم صدقة فكل تسبيحة صدقة وكل تحميدة صدقة وكل تهليلة صدقة وكل تكبيرة صدقة وأمر بالمعروف صدقة ونهي عن المنكر صدقة ويجزي من ذلك ركعتا الضحي يركعهما.

وخرج الإمام أحمد وأبو داود من حديث بريدة عن النبي ﷺ قال في الإنسان ثلاثمائة وستون مفصلا عليه أن يتصدق عن كل مفصل منه بصدقة قالوا ومن يطيق ذلك يا نبي الله قال النخاعة في المسجد يدفنها والشيء ينحيه عن الطريق فإن لم يجد فركعتا الضحى يجزئك.

وفي الصحيحين عن أبي موسى عن النبي ﷺ قال على كل مسلم صدقة قالوا فإن لم يجد قال فيعمل بيده فينفع نفسه ويتصدق قالوا فإن لم يستطع أو لم يفعل قال يعين ذا الحاجة الملهوف قالوا فإن لم يفعل قال فليأمر بالمعروف قالوا فإن لم يفعل قال فليمسك عن الشر فإنه صدقة.

وخرج ابن حبان في صحيحه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي ﷺ قال على كل منسم من ابن آدم صدقة كل يوم فقال رجل من القوم ومن يطيق هذا قال أمر بالمعروف ونهي عن المنكر صدقة والحمل على الضعيف صدقة وكل خطوة يخطوها أحدكم إلى الصلاة صدقة وخرجه البزار وغيره وفي مسنده رواية على كل ميسم من الإنسان صدقة كل يوم أو صلاة فقال رجل هذا أشد ما يتشابه فقال إن أمرا بالمعروف ونهيا عن المنكر صلاة أو صدقة وحملك عن الضعيف صلاة إنحاؤك القذر عن الطريق صلاة وكل خطوة يخطوها إلى الصلاة صلاة وفي رواية البزار وإماطة الأذى عن الطريق صدقة أو قال صلاة قال بعضهم يريد بالميسم كل عضو على حدة مأخوذ من الوسم وهو العلامة إذ ما من عظم ولا عرق ولا عصب إلا وعليه أثر صنع الله عز وجل فيجب على العبد الشكر على ذلك والحمد لله على خلقه سويا صحيحا وهذا هو المراد بقوله عليه الصلاة والسلام كل يوم لأن الصلاة تحتوي على الحمد والشكر والثناء.

وخرج الطبراني من وجه آخر عن ابن عباس رفع الحديث إلى النبي ﷺ قال على كل سلامي أو على كل عضو من بني آدم في كل يوم صدقة ويجزي من ذلك كله ركعتا الضحي ويروى من حديث أبي الدرداء عن النبي ﷺ قال على كل نفس في كل يوم صدقة قيل فإن كان لا يجد شيئًا قال أليس بصيرا شهما فصيحا صحيحا قال بلى قال يعطي من قليلة وكثيرة وإن نصرك للمنقوص صدقة وإن سمعك للمنقوص سمعه صدقة وقد ذكرنا في شرح الحديث الماضي حديث أبي ذر الذي خرجه ابن حبان في صحيحه أن النبي ﷺ قال ليس من نفس ابن آدم إلا عليها صدقة في كل يوم طلعت فيه الشمس قيل يا رسول الله ومن أين لنا صدقة نتصدق بها قال إن أبواب الخير لكثيرة التسبيح والتحميد والتكبير والتهليل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتميط الأذى عن الطريق وتسمع الأصم وتهدي الأعمى وتدل المستدل على حاجته وتسعى بشدة ساقيك مع اللهفان المستغيث وتحمل بشدة ذراعيك مع الضعيف فهذا كله صدقة منك على نفسك فقوله ﷺ على كل سلامي من الناس عليه صدقة قال أبو عبيد السلامي في الأصل عظم يكون في فرسن البعير قال فكأن معنى الحديث على كل عظم من عظام ابن آدم صدقة يشير أبو عبيد إلى أن السلامي اسم لبعض العظام الصغار التي في الإبل ثم عبر بها عن العظام في الجملة بالنسبة إلى الآدمي وغيره فمعنى الحديث عنده على كل عظم من عظام بني آدم صدقة وقال غيره السلامي عظم في طرف اليد والرجل وكني بذلك عن جميع عظام الجسد والسلامي جمع وقيل هو مفرد وقد ذكر علماء الطب أن جميع عظام البدن مائتان وثمانية وأربعون عظما تسمى السمسمانيات وبعضهم يقول هي ثلاثة مائة وستون عظما يظهر منها للحس مائتان وخمسة وستون عظما والباقية صغار لا تظهر وتسمى السمسمانية وهذه الأحاديث تصدق هذا القول ولعل السلامي عبر بها عن هذه العظام الصغار كما أنها في الأصل اسم لأصغر ما في البعير من العظام ورواية البزار لحديث أبي هريرة يشهد بهذا حيث قال فيها أو ستة وثلاثون سلامي وقد خرجه غير البزار وقال فيه إن في ابن آدم ستمائة وستين عظما وهذه الرواية غلط وفي حديث عائشة وبريدة ذكر ثلاث مائة وستين مفصلا ومعنى الحديث أن تركب هذه العظام وسلامتها من أعظم نعم الله على عبده فيحتاج كل عظم منها إلى صدقة يتصدق ابن آدم عنه ليكون ذلك شكرا لهذه النعمة قال الله عز وجل {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ. الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ. فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ} الانفطار وقال عز وجل {قُلْ هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ} الملك وقال {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} النحل وقال {أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ. وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ} البلد.

قال مجاهد هذه نعم من الله متظاهرة يقررك بها كيما تشكر.

وقرأ الفضل هذه الآية ليلة فبكى فسئل عن بكائه فقال هل بت ليلة شاكرًا لله أن جعل لك عينين تبصر بهما؟ هل بت ليلة شاكرًا لله أن جعل لك لسانًا تنطق به؟ وجعل يعدد من هذا الضرب.

وروى ابن أبي الدنيا بإسناده عن سلمان الفارسي قال إن رجلًا بسط له من الدنيا فانتزع ما في يديه فجعل يحمد الله عز وجل ويثني عليه حتى لم يكن له فراش إلا بوري فجعل يحمد الله ويثني عليه وبسط للآخر من الدنيا فقال لصاحب البوري أرأيتك أنت على ما تحمد الله عز وجل قال أحمد الله على ما لو أعطيت به ما أعطى الخلق لم أعطهم إياه قال وما ذاك قال أرأيت بصرك أرأيت لسانك أرأيت يديك أرأيت رجليك وبإسناده عن أبي الدرداء أنه كان يقول الصحة غناء الجسد.

وعن يونس بن عبيد أن رجلًا شكا إليه ضيق حاله فقال له يونس أيسرك أن لك ببصرك هذا الذي تبصر به مائة ألف درهم قال الرجل لا قال فبيدك مائة ألف درهم قال لا قال فرجليك قال لا قال فذكره نعم الله عليه فقال يونس أرى عندك مئين ألوفًا وأنت تشكو الحاجة.

وعن وهب بن منبه قال مكتوب في حكمة آل داود العافية الملك الخفي.

وعن بكر المزني قال يا ابن آدم إن أردت أن تعلم قدر ما أنعم الله عليك فغمض عينيك وفي بعض الآثار كم من نعمة لله في عرق ساكن وفي صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي ﷺ قال نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ فهذه النعم مما يسأل الإنسان عن شكرها يوم القيامة ويطالب بها كما قال تعالى {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ}.

وخرج الترمذي وابن حبان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال إن أول ما يسأل عنه العبد يوم القيامة من النعيم فيقال له ألم نصح لك جسمك ونروك من الماء البارد.

وقال ابن مسعود رضي الله عنه النعيم الأمن والصحة وروي عنه مرفوعًا وقال على بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله ثم لتسئلن يومئذ عن النعيم التكاثر قال النعيم صحة الأبدان والأسماع والأبصار يسأل الله العباد فيما استعملوها وهو أعلم بذلك منهم وهو قوله تعالى {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً}.

وخرج الطبراني من رواية أيوب بن عقبة وفيه ضعف عن عطاء عن ابن عمر عن النبي ﷺ من قال لا إله إلا الله كان له بها عهد عند الله ومن قال سبحان الله وبحمده كتب له بها مائة ألف حسنة وأربعة وعشرون ألف حسنة فقال رجل كيف نهلك بعد هذا يا رسول الله قال إن الرجل ليأتي يوم القيامة بالعمل لو وضع على جبل لأثقله فتقوم النعمة من نعم الله فتكاد أن تستنفد ذلك كله إلا أن يتطاول الله برحمته وروي ابن أبي الدنيا بإسناد فيه ضعف أيضًا عن أنس عن النبي ﷺ قال يؤتى بالنعم يوم القيامة وبالحسنات والسيئات فيقول الله لنعمة من نعمه خذي حقك من حسناته فما تترك له حسنة إلا ذهبت بها وبإسناده عن وهب بن منبه قال عبدالله عابد خمسين عامًا فأوحى الله عز وجل إني قد غفرت لك قال يا رب وما تغفر لي ولم أذنب فأذن الله عز وجل لعرق في عنقه فضرب عليه فلم ينم ولم يصل ثم سكن وقام فأتاه ملك فشكا إليه ما لقي من ضربات العرق فقال الملك إن ربك عز وجل يقول عبادتك خمسين سنة لم تعدل سكون ذلك العرق.

وخرج الحاكم هذا المعنى مرفوعًا من رواية سلمان بن هرم الفرشي عن محمد بن المنكدر عن جابر عن النبي ﷺ أن جبرائيل أخبره أن عابدا عبدالله على رأس جبل في البحر خمسمائة سنة ثم سأل ربه أن يقبضه وهو ساجد قال فنحن نمن عليه إذا هبطنا وإذا عرجنا ونجد في العلم أنه يبعث يوم القيامة فيوقف بين يدي الله عز وجل فيقول الله عز وجل ادخلو عبدي الجنة برحمتي فيقول العبد يا رب بعملي ثلاث مرات ثم يقول الله للملائكة قيسوا عبدي بنعمتي عليه وبعمله فيجدون نعمة البصر قد أحاطت بعبادة خمسمائة سنة وبقيت نعم الجسد له فيقول أدخلوا عبدي النار فيجر إلى النار فينادي ربه برحمتك أدخلني الجنة برحمتك أدخلني الجنة فيدخله الجنة قال جبرائيل إنما الأشياء برحمة الله يا محمد وسلمان بن هرم قال العقيلي هو مجهول وحديثه غير محفوظ وروى الخرائطي بإسناد فيه نظر عن عبدالله بن عمرو مرفوعًا يؤتى بالعبد يوم القيامة فيوقف بين يدي الله عز وجل فيقول للملائكة انظروا في عمل عبدي ونعمتي عليه فينظرون فيقولون ولا بقدر نعمة واحدة من نعمك عليه فيقول انظروا في عمله سيئه وصالحه فينظرون فيجدونه كفافا فيقول عبدي قد قبلت حسناتك وغفرت سيئاتك وقد وهبت لك نعمتي فيما بين ذلك والمقصود أن الله تعالى أنعم على عباده بما لا يحصونه كما قال تعالى {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا} إبراهيم النحل وطلب منهم الشكر والرضا به منهم قال سليمان التيمي إن الله أنعم على العباد على قدره وكلفهم الشكر على قدرهم حتى رضي منهم من الشكر بالاعتراف بقلوبهم بنعمه وبالحمد بألسنتهم عليها كما خرجه أبو داود والنسائي من حديث عبدالله بن غنام رضي الله عنه عن النبي ﷺ أنه قال من قال حين يصبح اللهم ما أصبح بي من نعمة أو بأحد من خلقك فمنك وحدك لا شريك لك فلك الحمد ولك الشكر فقد أدى شكر ذلك اليوم ومن قالها حين يمسي أدى شكر ليلته وفي رواية النسائي عن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما.

وخرج الحاكم من حديث عائشة رضي الله عنها عن النبي ﷺ قال ما أنعم الله على عبد نعمة فعلم أنها من عند الله إلا كتب الله شكرها قبل أن يشكرها وما أذنب عبد ذنبا فندم عليه إلا كتب الله له مغفرته قبل أن يستغفره وقال أبو عمرو الشيباني قال موسى عليه الصلاة والسلام يوم الطور يا رب إن أنا صليت فمن قبلك وإن أنا تصدقت فمن قبلك وإن أنا بلغت رسالتك فمن قبلك فكيف أشكرك قال الآن شكرتني وعن الحسن قال قال موسى عليه السلام يا رب كيف يستطيع ابن آدم أن يؤدي شكر ما صنعت إليه خلقته بيدك ونفخت فيه من روحك وأسكنته جنتك وأمرت الملائكة فسجدوا له فقال يا موسى علم أن ذلك مني فحمدني عليه فكان ذلك شكرا لما صنعته وعن أبي الجلد قال قرأت في مسئلة داود عليه السلام أنه قال يا رب كيف لي أن أشكرك وأنا لا أصل إلى شكرك إلا بنعمتك قال فأتاه الوحي أن يا داود أليس تعلم أن الذي بك من النعم مني قال بلى قال فإني أرضى بذلك منك شكرا قال وقرأت في مسئلة موسى عليه السلام قال يا رب كيف لي أن أشكرك وأصغر نعمة وضعتها عندي من نعمك لا يجازى بها عملي كله قال فأتاه الوحي قال يا موسى الآن شكرتني وقال أبو بكر بن عبدالله ما قال عبد قط الحمد لله مرة إلا وجبت عليه نعمة بقوله الحمد لله فما جزى تلك النعمة جزاءها أن يقول الحمد لله فجاءت نعمة أخرى فلا تنفد نعماء الله وقد روى ابن ماجه من حديث أنس رضي الله عنه مرفوعًا إلى رسول الله ﷺ ما أنعم الله على عبد نعمة فقال الحمد لله إلا كان الذي أعطى أفضل مما أخذ وروينا نحوه من حديث شهر بن حوشب عن أسماء بنت يزيد مرفوعًا أيضًا وروي هذا عن الحسن البصري من قوله وكتب بعض عمال عمر بن عبدالعزيز إليه إني بأرض قد كثرت فيها النعم حتى لقد أشفقت على أهلها من ضعف الشكر فكتب إليه عمر إني قد كنت أراك أعلم بالله لما أنت إن الله لم ينعم على عبد نعمة فحمد الله عليها إلا كان حمده أفضل من نعمته لو كنت لا تعرف ذلك إلا في كتاب الله المنزل قال الله تعالى {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ} النمل وقال تعالى {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا} إلى قوله {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ} الزمر أي نعمة أفضل من دخول الجنة وقد ذكر ابن أبي الدنيا في كتاب الشكر عن بعض العلماء أنه صوب هذا القول أعني قول من قال إن الحمد أفضل من النعمة وعن ابن عيينة أنه خطأ قائله وقال لا يكون فعل العبد أفضل من فعل الرب عز وجل ولكن الصواب قول من صوبه فإن المراد بالنعم النعم الدنيوية كالعافية والرزق والصحة ودفع المكروه ونحو ذلك والحمد لله هو من النعم الدينية وكلاهما نعمة من الله لكن نعمة الله على عبده بهدايته لشكر نعمه بالحمد عليها أفضل من النعمة الدنيوية على عبده فإن النعم الدنيوية إن لم يقترن بها الشكر كانت بلية كما قال أبو حازم كل نعمة لا تقرب من الله فهي بلية فإذا وفق الله عبده للشكر على نعمه الدنيوية بالحمد أو غيره من أنواع الشكر كانت هذه النعمة خيرًا من تلك النعم وأحب إلى الله عز وجل فإن الله يحب المحامد ويرضى عن عبده أن يأكل الأكلة فيحمده عليها ويشرب الشربة فيحمده عليها والثناء بالنعم والحمد عليها وشكرها عند أهل الجود والكرم أحب إليهم من أموالهم فهم يبذلونها طلبا للثناء والله عز وجل أكرم الأكرمين وأجود الأجودين فهو يبذل نعمه لعباده ويطلب منهم الثناء بها وذكرها منهم والحمد عليها ويرضى منهم بذلك شكرا عليها وإن كان ذلك كله من فضله عليهم وهو غير محتاج إلى شكرهم لكنه يحب ذلك من عباده حيث كان صلاح العبد وفلاحه وكماله فيه ومن فضله سبحانه أنه نسب الحمد والشكر إليهم وإن كان من أعظم نعمه عليهم وهذا كما أنه أعطاهم ما أعطاهم من الأموال واستقرض منهم بعضه ومدحهم بإعطائه والكل ملكه ومن فضله ولكن كرمه اقتضى ذلك.

ومن هنا يعلم معنى الأثر الذي جاء مرفوعًا وموقوفا الحمد لله حمدا يوافي نعمه ويكافيء مزيده ولنرجع الآن إلى تفسير حديث كل سلامي من الناس عليه صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس يعني أن الصدقة على ابن آدم من هذه الأعضاء في كل يوم من أيام الدنيا فإن اليوم قد يعبر به عن مدة أزيد من ذلك كما يقال يوم صفين وكانت مدة أيام وعن مطلق الوقت كما قال تعالى {أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ} هود.

وقد يكون ذلك ليلًا ونهارًا فإذا قيل كل يوم تطلع فيه الشمس علم أن هذه الصدقة على ابن آدم في كل يوم يعيش فيه من أيام الدنيا وظاهر الحديث يدل على أن هذا الشكر بهذه الصدقة واجب على المسلم كل يوم ولكن الشكر على درجتين إحداهما واجب وهو أن يأتي بالواجبات ويتجنب المحرمات فهذا لا بد منه ويكفي في شكر هذه النعم ويدل على ذلك ما خرجه أبو داود من حديث أبي الأسود الديلي قال كنا عند أبي ذر فقال يصبح على كل سلامي من أحدكم في كل يوم صدقة فله بكل صلاة صدقة وصيام صدقة وحج صدقة وتسبيح صدقة وتكبير وتحميد صدقة فعد رسول الله ﷺ من هذه الأعمال الصالحات وقال يجزيء أحدكم من ذلك ركعتا الضحى وقد تقدم في حديث أبي موسى المخرج في الصحيحين فإن لم يفعل فليمسك عن الشر فإنه له صدقة وهذا يدل على أنه يكفيه أن لا يفعل شيئًا من الشر وإنما يكون مجتنبا للشر إذا قام بالفرائض واجتنب المحارم فإن أعظم الشر ترك الفرائض ومن هنا قال بعض السلف الشكر ترك المعاصي قال بعضهم الشكر أن لا يستعان بشيء من النعم على معصيته وذكر أبو حازم الزاهد شكر الجوارح كلها أن تكف عن المعاصي وتستعمل في الطاعات ثم قال وأما من شكر بلسانه ولم يشكر بجميع أعضائه فمثله كمثل رجل له كساء فأخذ بطرفه فلم يلبسه فلم ينفعه ذلك من البرد والحر والثلج والمطر وقال عبدالرحمن بن زيد بن أسلم لينظر العبد في نعم الله عليه في بدنه وسمعه وبصره ويديه ورجليه وغير ذلك وليس من هذا شيء إلا وفيه نعمة من الله عز وجل حق على العبد أن يعمل بالنعمة التي في بدنه لله عز وجل في طاعته ونعمة أخرى في الرزق حق عليه أن يعمل لله عز وجل فيما أنعم عليه من الرزق في طاعته فمن عمل بهذا كان قد أخذ بحزم الشكر وأصله وفرعه ورأى الحسن رجلًا يتبختر في مشيه فقال لله في كل عضو منه نعمة اللهم لا تجعلنا ممن يتقوى بنعمتك على معصيتك الدرجة الثانية من الشكر الشكر المستحب وهو أن يعمل العبد بعد أداء الفرائض واجتناب المحارم بنوافل الطاعات وهذه درجة السابقين المقربين وهي التي أرشد إليها النبي ﷺ في هذه الأحاديث التي سبق ذكرها، وكذلك كان النبي ﷺ يجتهد في الصلاة ويقوم حتى تنفطر قدماه فإذا قيل لم تفعل هذا وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر فيقول أفلا أكون عبدًا شكورا وقال بعض السلف لما قال الله عز وجل {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا} سبأ لم يأت عليهم ساعة من ليل أو نهار إلا وفيهم مصل يصلي وهذا مع أن بعض الأعمال التي ذكرها النبي ﷺ واجب إما على الأعيان كالمشي إلى الصلاة عند من يرى وجوب الصلاة في الجماعات في المساجد وإما على الكفاية كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإغاثة اللهفان والعدل بين الناس إما في الحكم بينهم أو في الإصلاح.

فقد روي من حديث عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي ﷺ قال أفضل الصدقة إصلاح ذات البين وهذه الأنواع التي أشار إليها النبي ﷺ من الصدقة منها ما نفعه متعد كالإصلاح وإعانة الرجل على دابته بحمله عليها لرفع متاعه عليها والكلمة الطيبة ويدخل فيها السلام وتشميت العاطس وإزالة الأذى عن الطريق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ودفن النخاعة في المسجد وإعانة ذي الحاجة الملهوف وإسماع الأصم وتبصير المنقوص بصره وهداية الأعمى أو غيره الطريق وجاء في بعض رواية أبي ذر وبيانك عن الأرتم صدقة يعني من لا يطيق الكلام إما لآفة في لسانه أو لعجمة في لغته فبين عنه ما يحتاج إلى بيانه ومنه ما هو قاصر النفع كالتسبيح والتكبير والتحميد والتهليل والمشي إلى الصلاة وصلاة ركعتي الضحى وإنما كانتا مجزئتين عن ذلك كله لأن في الصلاة استعمال الأعضاء كلها في الطاعة والعبادة فتكون كافية في شكر سلامي هذه الأعضاء وبقية كلام هذه الخصال المذكورة أكثرها استعمال لبعض أعضاء البدن خاصة فلا تكمل الصدقة بها حتى يأتي منها بعدد سلامي البدن وهي ثلاثمائة وستون كما في حديث عائشة رضي الله عنها وعن أبويها.

وفي المسند عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال أتدرون أي الصدقة أفضل أو أخير قالوا الله ورسوله أعلم قال المنحة تمنح أخاك الدراهم أو ظهر دابة أو لبن الشاة أو لبن البقرة والمراد بمنحة الدراهم قرضها ومنحة ظهر الدابة إفقارها وهو إعارتها لمن يركبها ومنحة لبن الشاة أو البقرة أن تمنحه بقرة أو شاة يشرب لبنها ثم يعيدها إليه وإذا أطلقت المنيحة لم تنصرف إلا إلى هذا وخرجه الإمام أحمد والترمذي من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال من منح لبن أو ورق أو أهدي زقاقا كان له مثل عتق رقبة وقال الترمذي معنى قوله من منح منحة لبن أو ورق إنما يعني به قرض الدراهم، وقوله وأهدي زقاقا إنما يعني به هداية الطريق وهو إرشاد السبيل وخرجه البخاري من حديث حسان بن عطية عن أبي كبشة السلولي قال سمعت عبدالله بن عمر رضي الله عنهما يقول قال رسول الله ﷺ أربعون خصلة أعلاها منحة العنز ما من عامل يعمل بخصلة منها رجاء ثوابها أو تصديق موعودها إلا أدخله الله بها الجنة قال حسان بن عطية فعددنا ما دون منحة العنز من رد السلام وتشميت العاطس وإماطة الأذى عن الطريق ونحوه فما استطعنا أن نبلغ خمس عشرة خصلة وفي صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال حق الإبل حلبها على الماء وإعارة دلوها وإعارة فحلها ومنحتها وحمل عليها في سبيل الله.

وخرج الإمام أحمد من حديث جابر رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال كل معروف صدقة ومن المعروف أن تلقى أخاك بوجه طلق وأن تفرغ من دلوك في إنائه.

وخرج الحاكم وغيره بزيادات وهي ما أنفق المرء على نفسه وأهله كتب له به صدقة وما وقى به عرضه كتب له به صدقة وكل نفقة أنفقها المؤمن فعلى الله خلفها ضامن إلا نفقة في معصية أو بنيان.

وفي المسند عن أبي جري الجهني قال سألت النبي ﷺ عن المعروف فقال لا تحقرن من المعروف شيئًا ولو أن تعطي صلة الحبل ولو أن تعطي شسع النعل ولو أن تفرغ من دلوك في إناء المستسقي ولو أن تنحي الشيء من طريق الناس يؤذيهم ولو أن تلقى أخاك بوجه منطلق ولو أن تلقى أخاك فتسلم عليه ولو أن تؤنس الوحشان في الأرض ومن أنواع الصدقة كف الأذى عن الناس باليد واللسان كما في الصحيحين عن أبي ذر رضي الله عنه قال قلت يا رسول الله أي الأعمال أفضل قال الإيمان بالله والجهاد في سبيل الله قلت فإن لم أفعل قال تعين صانعا أو تصنع لأخرق قلت أرأيت إن ضعفت عن بعض العمل قال فكف شرك عن الناس فإنها صدقة وفي صحيح ابن حبان عن أبي ذر رضي الله عنه قال قلت يا رسول الله دلني على عمل إذا عمل به العبد دخل به الجنة قال يؤمن بالله قال قلت يا رسول الله إن مع الإيمان عملًا قال يرضخ مما رزقه الله قلت فإن كان معدما لا شيء له قال يقول قولًا معروفا بلسانه قلت فإن كان عييا لا يبلغ عنه لسانه قال فيعين مغلوبا قلت فإن كان ضعيفا لا قدرة له قال فليصنع لأخرق قلت فإن كان أخرق فالتفت إلى فقال ما تريد أن تدع في صاحبك شيئًا من الخير فليدع الناس من أذاه قلت يا رسول الله إن هذا كله ليسير قال والذي نفسي بيده ما من عبد يعمل بخصلة منها يريد ما عند الله إلا أخذت بيده يوم القيامة فأدخلته الجنة فاشترط في هذا الحديث لهذه الأعمال كلها إخلاص النية كما في حديث عبدالله بن عمرو الذي فيه ذكر الأربعين خصلة وهذا كما في قوله عز وجل {لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} النساء.

وقد روي عن الحسن وابن سيرين أن فعل المعروف يؤجر عليه وإن لم يكن له فيه نية سئل الحسن عن الرجل يسأله آخر حاجة وهو يبغضه فيعطيه حياء هل له فيه أجر فقال إن ذلك لمن المعروف وإن في المعروف لأجرًا خرجه حميد بن زنجويه.

وسئل ابن سيربن عن الرجل يتبع الجنازة لا يتبعها حسبة يتبعها حياء من أهلها أله في ذلك أجر فقال أجر واحد بل له أجران أجر الصلاة على أخيه وأجر لصلته الحي خرجه أبو نعيم في الحلية ومن أنواع الصدقة أداء حقوق المسلم على المسلم بعضها مذكور في الأحاديث الماضية.

ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال حق المسلم على المسلم خمس رد السلام وعيادة المريض واتباع الجنازة وإجابة الدعوة وتشميت العاطس.

وفي رواية لمسلم للمسلم على المسلم ست قيل ما هن يا رسول الله قال إذا لقيته تسلم عليه وإذا دعاك فأجبه وإذا استنصحك فانصح له وإذا عطس فحمد الله فشمته وإذا مرض فعده وإذا مات فانبعثه.

وفي الصحيحين عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال أمرنا رسول الله ﷺ بسبع بعيادة المريض وأتباع الجنائز وتشميت العاطس وإبرار القسم ونصر المظلوم وإجابة الداعي وإفشاء السلام.

وفي رواية لمسلم وإرشاد الضال بدل إبرار القسم ومن أنواع الصدقة المشي بحقوق الآدميين الواجبة إليهم قال ابن عباس رضي الله عنهما من مشى بحق أخيه إليه ليقضيه فله بكل خطوة صدقة ومنها إنظار المعسر.

وفي المسند وسنن ابن ماجه عن بريدة مرفوعًا من أنظر معسرا فله كل يوم صدقة قبل أن يحل الدين فإذا حل الدين فأنظره فله بكل يوم مثله صدقة ومنها الإحسان إلى البهائم كما قال النبي ﷺ لما سئل عن سقيها قال في كل كبد رطبة أجر وأخبر النبي ﷺ أن بغيا سقت كلبا يلهث من العطش فغفر لها وأما الصدقة القاصرة على نفس العامل فمثل أنواع الذكر من التسبيح والتكبير والتحميد والتهليل والاستغفار والصلاة على النبي ﷺ، وكذلك تلاوة القرآن والمشي إلى المساجد والجلوس فيها لانتظار الصلاة أو لاستماع الذكر ومن ذلك التواضع في اللباس والمشي والهدي والتبذل في المهنة واكتساب الحلال والتحري فيه ومنها أيضًا محاسبة النفس على ما سلف من أعمالها والندم والتوبة من الذنوب السالفة والحزن عليها واحتقار النفس والازدراء بها ومقتها في الله عز وجل والبكاء من خشية الله تعالى والتفكر في ملكوت السموات والأرض وفي أمور الآخرة ومافيها من الوعد والوعيد ونحو ذلك مما يزيد الإيمان في القلب وينشأ عنه كثير من أعمال القلوب كالخشية والمحبة والرجاء والتوكل وغير ذلك وقد قيل إن هذا التفكر أفضل من نوافل الأعمال البدنية روي ذلك عن غير واحد من التابعين منهم سعيد بن المسيب والحسن وعمر بن عبدالعزيز وفي كلام الإمام أحمد ما يدل عليه وقال كعب لأن أبكي من خشية الله أحب إلى من أن أتصدق بوزني ذهبا.

===========

الحديث السابع والعشرون

عن النواس بن سمعان رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال البر حسن الخلق والإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس رواه مسلم وعن وابصة بن معبد رضي الله عنه قال أتيت رسول الله ﷺ فقال جئت تسأل عن البر والإثم قلت نعم قال استفت قلبك البر ما اطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب والإثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر وإن أفتاك الناس وأفتوك . حديث حسن رويناه في مسندي الإمامين أحمد بن حنبل والدارمي بإسناد حسن

أما حديث النواس بن سمعان فخرجه مسلم من رواية معاوية بن صالح عن عبدالرحمن ابن حبيب بن نفير عن أبيه النواس ومعاوية وعبد الرحمن وأبوه تفرد بتخريج حديثهم مسلم دون البخاري وأما حديث وابصة فخرجه الإمام أحمد من طريق حماد بن سلمة عن الزبير بن عبدالسلام عن أيوب بن عبدالله بن مكرز عن وابصة بن معبد قال أتيت رسول الله ﷺ وأنا أريد أن لا أدع شيئًا من البر والإثم إلا سألته عنه فقال لي ادن يا وابصة فدنوت منه حتى مست ركبتي ركبته فقال يا وابصة أخبرك ما جئت تسأل عنه أو تسألني قلت يا رسول الله أخبرني قال جئت تسألني عن البر والإثم قلت نعم فجمع أصابعه الثلاث فجعل ينكت بها في صدري ويقول يا وابصة استفت نفسك البر ما اطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب والإثم ما حاك في القلب وتردد في الصدر وإن أفتاك الناس وأفتوك وفي رواية أخرى للإمام أحمد أن الزبير لم يسمعه من أيوب وقال حدثني جلساؤه وقد رأيته ففي إسناد هذا الحديث أمران يوجب كل منهما ضعفه أحدهما الانقطاع بين أيوب والزبير فإنه رواه عن قوم لم يسمعهم والثاني ضعف الزبير هذا قال الدارقطني روي أحاديث مناكير وضعفه ابن حبان أيضًا لكنه سماه أيوب بن عبدالسلام وأخطأ في اسمه وله طريق آخر عن وابصة خرجه الإمام أحمد أيضًا من رواية معاوية بن صالح عن أبي عبدالله السلمي قال سمعت وابصة وذكر الحديث مختصرًا ولفظه قال البر ما انشرح له الصدر والإثم ما حاك في صدرك وإن أفتاك عنه الناس والسلمي هذا قال على بن المديني هو مجهول وخرجه البزار والطبراني وعندهما أبو عبدالله الأسدي وقال البزار لا نعلم أحدًا سماه كذا قال وقد سمي في بعض الروايات محمد قال عبدالغني بن سعيد الحافظ لو قال قائل إنه محمد بن سعيد المصلوب لما رفعت ذلك والمصلوب هذا صلبه المنصور في الزندقة وهو مشهور بالكذب والوضع ولكنه لم يدرك وابصة والله أعلم.

وقد روي هذا الحديث عن النبي ﷺ من وجوه متعددة وبعض طرقه جيدة فخرجه الإمام أحمد وابن حبان في صحيحه من طريق يحيى بن أبي كثير عن زيد بن سلام عن جده ممطور عن أبي أمامة قال قال رجل يا رسول الله ما الإثم قال إذا حاك في صدرك شيء فدعه وهذا إسناد جيد على شرط مسلم فإنه خرج حديث يحيى بن كثير عن زيد بن سلام وأثبت أحمد سماعه منه وإن أنكره ابن معين.

وخرج الإمام أحمد من رواية عبدالله بن العلاء بن زيد قال سمعت مسلم بن مسلم قال سمعت أبا ثعلبة الخشني يقول قلت يا رسول الله أخبرني ما يحل لي وما يحرم علي قال البر ما سكنت إليه النفس واطمأن إليه القلب والإثم ما لم تسكن إليه النفس ولا يطمئن إليه القلب وإن أفتاك المفتون وهذا أيضًا إسناد جيد وعبد الله بن علاء بن زبير ثقة مشهور وخرجه البخاري ومسلم بن مسلم ثقة مشهور أيضًا.

وخرج الطبراني وغيره بإسناد ضعيف من حديث واثلة بن الأسقع رضي الله عنه قال قلت للنبي ﷺ أفتني عن أمر لا أسألك عنه أحدًا بعدك قال استفت نفسك قلت كيف لي بذلك قال تدع ما يريبك إلى ما لا يريبك وإن أفتاك المفتون قلت كيف بذلك قال تضع يدك على قلبك فإن الفؤاد ليسكن للحلال ولا يسكن للحرام ويروى نحوه من حديث أبي هريرة بإسناد ضعيف أيضًا وروى ابن لهيعة عن أبي زيد بن أبي حبيب أن سويد بن قيس أخبره عن عبدالرحمن بن معاوية أن رجلًا سأل النبي ﷺ فقال يا رسول الله ما يحل لي وما يحرم على وردد عليه ثلاث مرات كل ذلك يسكت النبي ﷺ ثم قال أين السائل فقال له أنا يا رسول الله فقال بأصبعه ما أنكر قلبك فدعه خرجه أبو القاسم البغوي في معجمه وقال لا أدري عبدالرحمن بن معاوية سمع من النبي ﷺ أم لا ولا أعلم له غير هذا الحديث قلت هو عبدالرحمن بن معاوية بن خديج جاء منسوبا في كتاب الزهد لابن المبارك وعبدالرحمن هو تابعي مشهور فحديثه مرسل وقد صح عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال الإثم حزاز القلوب واحتج به الإمام أحمد ورواه عن جرير عن منصور عن محمد بن عبدالرحمن عن أبيه قال قال عبدالله إياكم وحزاز القلوب وما حز في قلبك فدعه قال أبو الدرداء الخير في طمأنينة والشر في ريبة وروى ابن مسعود من وجه منقطع أنه قيل له أرأيت شيئًا يحيك في صدورنا لا ندري حلال هو أم حرام فقال وإياكم والحكاكات فإنهن الإثم والحك والحز متقاربان في المعنى والمراد ما أثر في القلب ضيقا وحرجا ونفورا وكراهة وهذه الأحاديث مشتملة على تفسير البر والإثم وبعضها في تفسير الحلال والحرام فحديث النواس بن سمعان فسر النبي ﷺ البر بحسن الخلق وفسره في حديث وابصة وغيره بما اطمأنت إليه النفس والقلب كما فسر الحلال والحرام بذلك في حديث أبي ثعلبة وإنما اختلف في تفسير البر لأن البر يطلق باعتبارين معينين أحدهما باعتبار معاملة الخلق بالإحسان إليهم وربما خص بالإحسان إلى الوالدين فيقال بر الوالدين ويطلق كثيرًا على الإحسان إلى الخلق عموما وقد صنف ابن المبارك كتابًا سماه كتاب البر والصلة، وكذلك في صحيح البخاري وجامع الترمذي كتاب البر والصلة ويتضمن هذا الكتاب الإحسان إلى الخلق عموما ويقدم فيه بر الوالدين على غيرهما وفي حديث بهز ابن حكيم عن أبيه عن جده أنه قال يا رسول الله من أبر قال أمك قال ثم من قال أباك قال ثم من قال ثم الأقرب فالأقرب ومن هذا المعنى قول النبي ﷺ الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة.

وفي المسند أنه ﷺ سئل عن بر الحج فقال إطعام الطعام وإفشاء السلام وفي رواية أخرى قال وطيب الكلام، وكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول البر شيء هين وجه طلق وكلام لين وإذا قرن البر بالتقوى كما في قوله تعالى {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى} المائدة فقد يكون المراد بالبر معاملة الخلق بالإحسان وبالتقوى معاملة الحق بفعل طاعته واجتناب محرماته وقد يكون أريد بالبر فعل الواجبات وبالتقوى اجتناب المحرمات، وقوله تعالى {وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} المائدة قد يراد بالإثم المعاصي وبالعدوان ظلم الخلق وقد يراد بالإثم ما هو محرم في نفسه كالزنا والسرقة وشرب الخمر وبالعدوان تجاوز ما أذن فيه إلى ما نهى عنه مما جنسه مأذون فيه كقتل ما أبيح قتله بقصاص ومن لا يباح فيه وأخذ زيادة على الواجب من الناس في الزكاة ونحوها ومجاوزة الحد في الذي وصى به في الحدود ونحو ذلك والمعنى الثاني من معنى البر أن يراد به فعل جميع الطاعات الظاهرة والباطنة كقوله تعالى {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا} البقرة.

وقد روي عن النبي ﷺ سئل عن الإيمان فتلا هذه الآية فالبر بهذا المعنى يدخل فيه جميع الطاعات الباطنة كالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله والطاعات الظاهرة كإنفاق الأموال فيما يحبه الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة والوفاء بالعهد والصبر على الأقدار كالمرض والفقر وعلى الطاعات كالصبر على لقاء العدو وقد يكون جواب النبي ﷺ في حديث النواس شاملًا لهذه الخصال كلها لأن حسن الخلق قد يراد به التخلق بأخلاق الشريعة والتأدب بآداب الله التي أدب بها عباده في كتابه كما قال لرسوله ﷺ وإنك لعلى خلق عظيم القلم وقالت عائشة رضي الله عنها كان خلقه ﷺ القرآن يعني أنه يتأدب بآدابه فيفعل أوامره ويتجنب نواهيه فصار العمل بالقرآن له خلقا كالجبلة والطبيعة لا يفارقه وهذا من أحسن الأخلاق وأشرفها وأجملها وقد قيل إن الدين كله خلق وأما في حديث وابصة فقال البر ما اطمأن إليه القلب واطمأنت إليه النفس وفي رواية ما انشرح إليه الصدر وفسر الحلال بنحو ذلك كما في حديث أبي ثعلبة وغيره وهذا يدل على أن الله فطر عباده على معرفة الحق والسكون إليه وقبوله وركز في الطباع محبة ذلك والنفور عن ضده وقد يدخل هذا في قوله في حديث عياض بن حمار إني خلقت عبادي حنفاء مسلمين فأتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم فحرمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا، وقوله كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء قال أبو هريرة رضي الله عنه اقرأوا إن شئتم فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله الروم ولهذا سمى الله ما أمره به معروفا وما نهى عنه منكرا فقال تعالى {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ} النحل وقال تعالى في صفة الرسول ﷺ {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ} الأعراف.

وأخبر أن قلوب المؤمنين تطمئن بذكره فالقلب الذي دخله نور الإيمان وانشرح به وانفسح سكن للحق واطمأن به ويقبله وينفر عن الباطل ويكرهه ولا يقبله.

وقال معاذ بن جبل أحذركم زيغة الحكيم فإن الشيطان قد يقول كلمة الضلال على لسان الحكيم وقد يقول المنافق كلمة الحق فقيل لمعاذ ما يدريني أن الحكيم قد يقول كلمة الضلالة وأن المنافق قد يقول كلمة الحق قال اجتنب من كلام الحكيم المشتهرات التي يقال ما هذه ولا يثنيك ذلك عنه فإنه لعله أن يراجع وتلق الحق إن سمعته فإنه على الحق نور خرجه أبو داود.

وفي رواية له قال بل ما تشابه عليك من قول الحكيم حتى تقول ما أدري بهذه الكلمة فهذا يدل على أن الحق والباطل لا يلتبس أمرهما على المؤمن البصير بل يعرف الحق بالنور عليه فيقبله قلبه وينفر عن الباطل فينكره ولا يعرفه ومن هذا المعنى قول النبي ﷺ سيكون في آخر الزمان قوم يحدثونكم بما لا تسمعون أنتم ولا آباؤكم فإياكم وإياهم يعني أنهم يأتون بما تستنكره قلوب المؤمنين ولا تعرفه وفي قوله أنتم ولا آباؤكم إشارة إلى أن ما استقرت معرفته عند المؤمنين مع تقادم العهد وتطاول الزمان فهو الحق وأن ما أحدث بعد ذلك فما يستنكر فلا خير فيه فدل حديث وابصة وما في معناه على الرجوع إلى القلوب عند الاشتباه مما سكن إليه القلب وانشرح إليه الصدر فهو البر والحلال وما كان خلاف ذلك فهو الإثم والحرام.

وقوله في حديث النواس بن سمعان الإثم ما حاك في الصدر وكرهت أن يطلع عليه الناس إشارة إلى أن الإثم ما أثر في الصدر حرجًا وضيقًا وقلقًا واضطرابًا فلم ينشرح له الصدر ومع هذا فهو عند الناس مستنكر بحيث ينكرونه عند اطلاعهم عليه وهذا أعلى مراتب معرفة الإثم عند الاشتباه وهو ما استنكر الناس فاعله وغير فاعله.

ومن هذا المعنى قول ابن مسعود رضي الله عنه ما رآه المؤمنون حسنًا فهو عند الله حسن وما رآه المومنون قبيحًا فهو عند الله قبيح، وقوله في حديث وابصة وأبي ثعلبة وإن أفتاك المفتون يعني أن ما حاك في صدر الإنسان فهو إثم وإن أفتاه غيره بأنه ليس بإثم فهذه مرتبة ثانية وهو أن يكون الشيء مستنكرا عند فاعله دون غيره وقد جعله أيضًا إثما وهذا إنما يكون إذا كان صاحبه ممن شرح صدره للإيمان، وكان المتفتي يفتي له بمجرد ظن أو ميل إلى هوى من غير دليل شرعي فأما ما كان مع المفتي به دليل شرعي فالواجب على المفتى الرجوع إليه وإن لم ينشرح له صدره وهذا كالرخصة الشرعية مثل الفطر في السفر والمرض وقصر الصلاة في السفر ونحو ذلك مما لا ينشرح به صدور كثير من الجهال فهذا لا عبرة به وقد كان النبي ﷺ أحيانا يأمر أصحابه بما لا تنشرح به صدور بعضهم فيمتنعون من قوله فيغضب من ذلك كما أمرهم بفسخ الحج إلى العمرة فكرهه من كرهه منهم وكما أمرهم بنحر هديهم والتحلل من عمرة الحديبية فكرهوه وكرهوا مفاوضته لقريش على أن يرجع من عامه وعلى أن من أتاه منهم يرده إليهم وفي الجملة فما ورد النص به فليس للمؤمن إلا طاعة الله ورسوله كما قال تعالى {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} وينبغي أن يتلقى ذلك بانشراح الصدر والرضا فإن ما شرعه الله ورسوله يجب الإيمان والرضا به والتسليم له كما قال تعالى {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا} النساء وأما ما ليس فيه نص من الله ولا رسوله ولا عمن يقتدي بقوله من الصحابة وسلف الأمة فإذا وقع في نفس المؤمن المطمئن قلبه بالإيمان المنشرح صدره بنور المعرفة واليقين منه شيء وحك في صدره بشبهة موجودة ولم يجد من يفتي فيه بالرخصة إلا من يخبر عن رأيه وهو ممن لا يوثق بعلمه وبدينه بل هو معروف باتباع الهوى فهنا يرجع المؤمن إلى ما حاك في صدره وإن أفتاه هؤلاء المفتون وقد نص الإمام أحمد على مثل هذا أيضًا قال المروزي في كتاب الورع قلت لأبي عبدالله إن القطيعة أرفق بي من سائر الأسواق وقد وقع في قلبي من أمرها شيء فقال أمرها أمر قذر متلوث قلت فتكره العمل فيها قال دع عنك هذا إن كان لا يقع في قلبك شيء قلت قد وقع في قلبي منها فقال قال ابن مسعود الإثم حواز القلب قلت إنما هذا على المشاورة قال أي شيء يقع في قلبك قلت قد اضطرب على قلبي قال الإثم هو حواز القلوب وقد سبق في شرح حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه الحلال بين والحرام بين وفي شرح حديث الحسين بن على رضي الله عنهما دع ما يريبك وشرح حديث إذا لم تستح فاصنع ما شئت شيء يتعلق بتفسير هذه الأحاديث المذكورة ههنا وقد ذكر طوائف من الفقهاء من الشافعية والحنفية المتكلمين في أصول الفقه مسألة الإلهام هل هو حجة أم لا وذكروا فيه اختلافا بينهم وذكر طائفة من أصحابنا أن الكشف ليس بطريق إلى الأحكام وأخذه القاضي أبو يعلى من كلام أحمد في ذم المتكلمين في الوساوس والخطرات وخالفهم طائفة من أصحابنا في ذلك وقد ذكرنا نصا عن أحمد ههنا بالرجوع إلى حواز القلوب وإنما ذم أحمد وغيره المتكلمين على الوساوس والخطرات من الصوفية حيث كان كلامهم في ذلك لا يستند إلى دليل شرعي بل إلى مجرد رأي وذوق كما كان ينكر الكلام في مسائل الحلال والحرام بمجرد الرأي من غير دليل شرعي فأما الرجوع إلى الأمور المشتبهة إلى حواز القلوب فقد دلت عليه النصوص النبوية وفتاوي الصحابة فكيف ينكره الإمام أحمد بعد ذلك لا سيما وقد نص على الرجوع إليه موافقة لهم وقد سبق الحديث إن الصدق طمأنينة والكذب ريبة فالصدق يتميز من الكذب بسكون القلب إليه ومعرفته وبنفوره عن الكذب وإنكاره كما قال الربيع بن خثيم إن للحديث نورا كنور النهار فيعرف به وللكذب ظلمة كظلمة الليل ينكره.

وخرج الإمام أحمد من حديث ربيعة عن عبدالملك بن سعيد بن سويد وأبي أسيد رضي الله عنهما أن رسول الله ﷺ قال إذا سمعتم الحديث عني تعرفه قلوبكم وتلين له أشعاركم وأبشاركم وترون أنه منكم قريب فأنا أولاكم به وإذا سمعتم الحديث عني تنكره قلوبكم وتنفر عنه أشعاركم وأبشاركم وترون أنه منكم بعيد فأنا أبعدكم منه وإسناده قد قيل على شرط مسلم لأنه خرج بهذا الإسناد بعينه حديثًا لكن هذا الحديث معلول فإنه رواه بكير بن الأشج عن عبدالملك بن سعيد عن عباس بن سهل عن أبي بن كعب من قوله قال البخاري هو أصح من يحيى ابن آدم عن ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال إذا حدثتم عني حديثًا تعرفونه ولا تنكرونه فصدقوه فإني أقول ما يعرف ولا ينكر وإذا حدثتم عني بحديث تنكرونه ولا تعرفونه فلا تصدقوا به فإني لا أقول ما ينكر ولا يعرف وهذا الحديث معلول أيضًا وقد اختلفوا في إسناده على ابن أبي ذئب ورواه الحفاظ عنه عن سعيد مرسلًا والمرسل أصح عند أئمة الحفاظ منهم ابن معين والبخاري وأبو حاتم الرازي وابن خزيمة وقال ما رأيت أحدًا من علماء الحديث يثبت وصله وإنما يحمل مثل هذه الأحاديث على تقدير صحتها على معرفة أئمة أهل الحديث الجهابذة النقاد الذين كثرت دراستهم لكلام النبي ﷺ ولكلام غيره لحال رواة الأحاديث ونقلة الأخبار ومعرفتهم بصدقهم وكذبهم وضبطهم وحفظهم فإن هؤلاء لهم نقد خاص في الحديث مختصون بمعرفته كما يختص الصيرفي الحاذق بمعرفة النقود جيدها ورديئها وخالصها ومشوبها والجوهري الحاذق في معرفة الجوهر بانتقاد الجواهر وكل من هؤلاء لا يمكن أن يعبر عن سبب معرفته ولا يقيم عليه دليلًا لغيره وآية ذلك أنه يعرض الحديث الواحد على جماعة ممن يعلم هذا العلم فيتفقون على الجواب فيه من غير مواطأة وقد امتحن منهم غير هذا مرة في زمن أبي زرعة وأبي حاتم فوجد الأمر على ذلك فقال السائل أشهد أن هذا العلم إلهام قال الأعمش كان إبراهيم النخعي صيرفيا في الحديث كنت أسمع من لرجال فأعرض عليه ما سمعته وقال عمرو بن قيس ينبغي لصاحب الحديث أن يكون مثل الصيرفي الذي ينقد الدرهم الزائف والبهرج وكذا الحديث وقال الأوزاعي كنا نسمع الحديث فنعرضه على أصحابنا كما نعرض الدرهم الزائف على الصيارفة فما عرفوا أخذنا وما أنكروا تركنا وقيل لعبد الرحمن بن مهدي إنك تقول للشيء هذا يصح وهذا لم يثبت فعمن تقول ذلك فقال أرأيت لو أتيت الناقد فأريته دراهمك فقال هذا جيد وهذا بهرج أكنت تسأله عن ذلك أو تسلم الأمر إليه قال لا بل كنت أسلم الأمر إليه فقال فهذا كذلك لطول المجادلة والمناظرة والخبرة وقد روي نحو هذا المعنى عن الإمام أحمد أيضًا وأنه قيل له يا أبا عبدالله تقول هذا الحديث منكر فكيف علمت ولم تكتب الحديث كله قال مثلنا كمثل ناقد العين لم تقع بيده العين كلها فإذا وقع بيده الدينار يعلم بأنه جيد أو أنه رديء.

وقال ابن مهدي معرفة الحديث إلهام وقال إنكارنا الحديث عند الجهال كهانة وقال أبو حاتم الرازي مثل معرفة الحديث كمثل فص ثمنه مائة دينار وآخر مثله على لونه ثمنه عشرة دراهم قال وكما لا يتهيأ للناقد أن يخبر بسبب نقده فكذلك نحن رزقنا علمًا لا يتهيأ لنا أن نخبر كيف علمنا بأن هذا حديث كذب وأن هذا حديث منكر إلا بما نعرفه قال ويعرف جودة الدينار بالقياس إلى غيره فإن تخلف عنه في الحمرة والصفاء علم أنه مغشوش ويعلم جنس الجوهر بالقياس إلى غيره فإن خالفه في المائية والصلابة علم أنه زجاج ويعلم صحة الحديث بعدالة ناقليه وأن يكون كلاما يصلح مثل أن يكون كلام النبوة ويعرف سقمه وإنكاره بتفرد من لم تصح عدالته بروايته والله أعلم.

وبكل حال فالجهابذة النقاد العارفون بعلل الحديث أفراد قليل من أهل الحديث جدًا وأول من اشتهر في الكلام في نقد الحديث ابن سيرين ثم خلفه أيوب السختياني وأخذ ذلك عنه شعبة وأخذ عن شعبة يحيى القطان وابن مهدي وأخذ عنهما أحمد وعلى بن المديني وابن معين وأخذ عنهم مثل البخاري وأبي داود وأبي زرعة وأبي حاتم، وكان أبو زرعة في زمانه يقول من قال يفهم هذا وما أعزه إلا رفعت هذا عن واحد واثنين فما أقل من تجد من يحسن هذا ولما مات أبو زرعة قال أبو حاتم ذهب الذي كان يحسن هذا المعنى يعني أبا زرعة ما بقي بمصر ولا بالعراق واحد يحسن هذا وقيل له بعد موت أبي زرعة يعرف اليوم واحد يعرف هذا قال وجاء بعد هؤلاء جماعة منهم النسائي والعقيلي وابن عدي والدارقطني وقل من جاء بعدهم من هو بارع في معرفة ذلك حتى قال أبو الفرج الجوزي في أول كتابه الموضوعات قل من يفهم هذا بل عدم والله أعلم.

=============

الحديث الثامن والعشرون

عن أبي نجيح العرباض بن سارية رضي الله عنه قال وعظنا رسول الله ﷺ موعظة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون فقلنا يا رسول الله كأنها موعظة مودع فأوصنا قال أوصيكم بتقوى الله عز وجل والسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرًا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة . رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن صحيح

هذا الحديث خرجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه من رواية ثور بن يزيد عن خالد بن معدان عن عبدالرحمن بن عمرو السلمي رضي الله عنه زاد أحمد في رواية له وأبو داود وحجر بن حجر الكلاعي كلاهما عن العرباض رضي الله عنه وقال الترمذي حسن صحيح وقال الحافظ أبو نعيم هو حديث جيد من صحيح حديث الشاميين قال ولم يترك له البخاري ومسلم من جهة إنكار منهما له وزعم الحاكم أن سبب تركهما له أنهما توهما أنه ليس له راو عن خالد بن معدان عن ثور بن يزيد وقد رواه عنه أيضًا بجير بن سعد ومحمد بن إبراهيم التيمي وغيرهما قلت ليس الأمر كما ظنه وليس الحديث على شرطهما فإنما لم يخرجا لعبد الرحمن بن عمرو السلمي ولا لحجر الكلاعي شيئًا وليس ممن اشتهر بالعلم والرواية وأيضا فقد اختلف فيه على خالد بن معدان فروي عنه كما تقدم وروي عنه ابن عمرو عن أبي بلال عن العرباض وخرجه الإمام أحمد من هذا الوجه أيضًا عن ضمرة بن أبي حبيب عن عبدالرحمن بن عمرو السلمي عن العرباض خرجه من طريقه الإمام أحمد وابن ماجه وزاد في حديثه فقد تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك وزاد في آخر الحديث فإنما المؤمن كالجمل الأنف حيثما قيد انقاد وقد أنكر طائفة من الحفاظ هذه الزيادة في آخر الحديث وقالوا هي مدرجة فيه وليست منه قاله أحمد بن صالح المصري وغيره وقد خرجه الحاكم وقال في حديثه، وكان أسد بن وداعة يزيد في هذا الحديث فإن المؤمن كالجمل الأنف حيثما قيد انقاد وخرجه ابن ماجه أيضًا من رواية عبدالله بن العلاء بن زبير حدثني يحيى بن أبي المطاع سمعت العرباض فذكره وهذا في الظاهر إسناد جيد متصل ورواته ثقات مشهورون وقد صرح فيه بالسماع وقد ذكر البخاري في تاريخه أن يحيى بن أبي المطاع سمع من العرباض اعتمادا على هذه الرواية إلا أن حفاظ أهل الشام أنكروا ذلك وقالوا يحيى بن أبي المطاع لم يسمع من العرباض ولم يلقه وهذه الرواية غلط وممن ذكر ذلك زرعة الدمشقي وحكاه عن دحيم وهؤلاء أعرف بشيوخهم من غيرهم والبخاري رحمه الله يقع له في تاريخه أوهام في أخبار أهل الشام وقد روي عن العرباض من وجوه أخر وروي من حديث بريدة عن النبي ﷺ إلا أن إسناد بريدة لا يثبت والله أعلم.

فقول العرباض وعظنا رسول الله ﷺ وفي رواية الإمام أحمد وأبي داود والترمذي بليغة وفي روايتهم أن ذلك بعد صلاة الصبح، وكان النبي ﷺ كثيرًا ما يعظ أصحابه في غير الخطب الراتبة كخطب الجمع والأعياد وقد أمره الله عز وجل بذلك فقال تعالى {وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغًا} النساء وقال تعالى {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} النمل.

ولكنه كان لا يديم وعظهم بل يتخولهم بها أحيانا كما في الصحيحين عن أبي وائل قال كان عبدالله بن مسعود يذكرنا كل يوم خميس فقال له رجل يا أبا عبدالرحمن إنا نحب حديثك ونشتهيه ولوددنا أنك تحدثنا كل يوم فقال ما يمنعني أن أحدثكم كل يوم إلا كراهة أن أملكم إن رسول الله ﷺ كان يتخولنا بالموعظة كراهة السآمة علنيا والبلاغة في الموعظة مستحسنة لأنها أقرب إلى قبول القلوب واستجلابها والبلاغة هي التوصل إلى إفهام المعاني المقصودة وإيصالها إلى قلوب السامعين بأحسن صورة من الألفاظ الدالة عليها وأفصحها وأحلاها لدى أسماع وأوقعها في القلوب.

وكان النبي ﷺ يقصر الخطبة ولا يطيلها بل كان يبلغ ويوجز.

وفي صحيح مسلم عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال كنت أصلي مع النبي ﷺ فكانت صلاته قصدًا وخطبته قصدًا وخرجه أبو داود ولفظه كان رسول الله ﷺ لا يطيل الموعظة يوم الجمعة إنما هي كلمات يسيرات وخرجه مسلم من حديث أبي وائل قال خطبنا عمار رضي الله عنه فأوجز وأبلغ فلما نزل قلنا يا أبا اليقظا لقد أبلغت وأوجزت فلو كنت تنفست قال إني سمعت رسول الله ﷺ يقول إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة من فقهه فأطيل الصلاة وأقصر الخطبة فإن من البيان سحرا.

وخرج الإمام أحمد وأبو داود من حديث الحاكم بن حزم رضي الله عنه قال شهدت مع رسول الله ﷺ الجمعة فقام متوكئا على عصا أو قوس فحمد الله وأثنى عليه كلمات خفيفات طيبات مباركات.

وخرج أبو داود عن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن رجلًا قام يومًا فأكثر القول فقال عمرو فلو قصد في قوله لكان خيرًا له سمعت رسول الله ﷺ يقول لقد رأيت أو أمرت أن أتجوز في القول فإن الجواز هو خير، وقوله ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب هذان الوصفان بهما مدح الله المؤمنين عند سماع الذكر كما قال تعالى {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} الأنفال وقال {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} الحديد وقال تعالى {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} الزمر وقال تعالى {وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ} المائدة.

وكان النبي ﷺ يتغير حاله عند الموعظة كما قال جابر كان النبي ﷺ إذا خطب وذكر الساعة اشتد غضبه وعلا صوته واحمرت عيناه كأنه منذر جيش يقول صبحكم ومساكم خرجه مسلم بمعناه.

وفي الصحيحين عن أنس رضي الله عنه أن النبي ﷺ خرج حين زاغت الشمس فصلى الظهر فلما سلم قام على المنبر فذكر الساعة وذكر أن بين يديها أمورا عظاما ثم قال من أحب أن يسأل عن شيء فليسأل عنه فوالله ما تسألوني عن شيء إلا أخبرتكم به في مقامي هذا قال أنس فأكثر الناس البكاء وأكثر رسول الله ﷺ يقول سلوني فقام إليه رجل فقال أين مدخلي يا رسول الله قال النار وذكر الحديث.

وفي مسند الإمام أحمد عن النعمان بن بشير رضي الله عنه أنه خطب فقال سمعت رسول الله ﷺ يخطب يقول أنذرتكم النار حتى لو أن رجلًا كان بالسوق لسمع من مقامي هذا قال حتى وقعت خميصته على عاتقه عند رجليه.

وفي الصحيحين عن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال قال رسول الله ﷺ اتقوا النار قال ثم أعرض وأشاح ثم قال اتقوا النار قال ثم أعرض وأشاح ثلاثًا حتى قلت إنه ينظر إليها ثم قال اتقوا النار ولو بشق تمرة فإن لم يجد فبكلمة طيبة.

وخرجه الإمام أحمد من حديث عبدالله بن سلمة عن على أو عن الزبير بن العوام قال كان رسول الله ﷺ يخطبنا فيذكرنا بأيام الله حتى يعرف ذلك في وجهه وكأنه نذير قوم يصبحهم الأمر غدوة، وكان إذا كان حديث عهد بجبرائيل لم يتبسم ضاحكا حتى يرتفع عنه.

وخرج الطبراني والبزار من حديث جابر قال كان النبي ﷺ إذا أتاه الوحي أو وعظ قلت نذير قوم أتاهم العذاب فإذا ذهب عنه ذلك رأيته أطلق الناس وجها وأكثرهم ضحكا وأحسنهم بشرا ﷺ، وقوله فقلنا يا رسول الله كأنها موعظة مودعة فأوصنا يدل على أنه كان ﷺ قد أبلغ في تلك الموعظة ما لم يبلغ في غيرها فلذلك فهموا أنها موعظة مودع فإن المودع يستقصي ما لم يستقص غيره في القول والفعل ولذلك أمر النبي ﷺ أن يصلي صلاة مودع لأنه من استشعر أنه مودع بصلاته أتقنها على أكمل وجوهها وربما كان قد وقع منه ﷺ تعريض في تلك الخطبة بالتوديع كما عرض بذلك في خطبته في حجة الوداع وقال لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا وطفق يودع الناس فقالوا هذه حجة الوداع ولما رجع من حجه إلى المدينة جمع الناس بماء بين مكة والمدينة يسمى خما وخطبهم وقال يا أيها الناس إنما أنا بشر مثلكم يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيبه ثم حض على التمسك بكتاب الله ووصى بأهل بيته خيرًا خرجه مسلم.

وفي الصحيحين ولفظه لمسلم عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال صلى رسول الله ﷺ على قتلى أحد ثم صعد المنبر كالمودع للأحياء والأموات فقال إني فرطكم على الحوض فإن عرضه كما بين أيلة إلى الجحفة وإني لست أخشى عليكم أن تشركوا بعدي ولكن أخشى عليكم الدنيا تتنافسوا فيها فتقتتلون فتهلكوا كما هلك من كان قبلكم قال عقبة رضي الله عنه فكان آخر ما رأيت رسول الله ﷺ على المنبر.

وخرج الإمام أحمد ولفظه صلي رسول الله ﷺ على قتلى أحد بعد ثمان سنين كالمودع للأحياء والأموات ثم طلع المنبر فقال أيها الناس إني فرطكم وأنا شهيد عليكم وإن موعدكم الحوض وإني لأنظر إليه ولست أخشى عليكم الفقر ولكن الدينا أن تنافسوها.

وخرج الإمام أحمد أيضًا عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال خرج علينا رسول الله ﷺ يومًا كالمودع فقال أنا محمد النبي الأمي قال ذلك ثلاث مرات ولا نبي بعدي أوتيت فواتح الكلم وخواتمه وجوامعه وعلمتكم خزنة النار وحملة العرش وتجوز لي ربي وعوفيت أمتي فاسمعوا وأطيعوا ما دمت فيكم فإذا ذهب بي فعليكم بكتاب الله أحلوا حلاله وحرموا حرامه فلعل في الخطبة التي أشار إليها العرباض بن سارية في حديثه كانت بعض هذه الخطبة أو شبيهة بها ما يشعر بالتوديع وقولهم أوصنا يعنون وصية جامعة كافية فإنهم لما فهموا أنه مودع استوصوه وصية ينفعهم بها التمسك بعده ويكون فيها كفاية لمن تمسك بها وسعادة له في الدنيا والآخرة، وقوله ﷺ أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة فهاتان الكلمتان يجمعان سعادة الدنيا والآخرة أما التقوى فهي كافلة سعادة الدنيا والآخرة لمن تمسك بها وهي وصية الله للأولين والآخرين كما قال تعالى {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللَّهَ} وقد سبق في شرح التقوى بما فيه كفاية في شرح حديث النبي ﷺ لمعاذ رضي الله عنه وأما السمع والطاعة لولاة أمور المسلمين ففيها سعادة الدنيا وبها تنتظم مصالح العباد في معاشهم وبها يستعينون على إظهار دينهم وطاعة ربهم كما قال على بن أبي طالب رضي الله عنه إن الناس لا يصلحهم إلا إمام بر أو فاجر إن كان فاجرا عبدالمؤمن فيه ربه وحمل الفاجر فيها إلى أجله وقال الحسن في الأمراء هم يلون من أمورنا خمسا الجمعة والجماعة والعيد والثغور والحدود والله ما يستقيم الدين إلا بهم وإن جاروا أو ظلموا والله لما يصلح الله بهم أكثر مما يفسدون مع أن والله إن طاعتهم لغيظ وإن فرقتهم لكفر.

وخرج الخلال في كتاب الإمارة من حديث أبي أمامة قال أمر رسول الله ﷺ أصحابه حين صلوا العشاء أن احشدوا فإن لي إليكم حاجة فلما فرغوا من صلاة الصبح قال هل حشدتم كما أمرتكم قالوا نعم قال اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا هل عقلتم هذه ثلاثًا قلنا نعم قال فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة هل عقلتم هذه ثلاثًا قلنا نعم قال اسمعوا وأطيعوا هل عقلتم هذه ثلاثًا قلنا نعم قال فكنا نرى أن رسول الله ﷺ سيتكلم كلاما طويلا ثم نظرنا في كلامه فإذا هو قد جمع لنا الأمر كله في هذين الأصلين وصى النبي ﷺ في حجة الوداع في خطبته أيضًا كما خرجه الإمام أحمد والترمذي من رواية أم الحصين الأحمسية قالت سمعت رسول الله ﷺ يخطب في حجة الوداع فسمعته يقول يا أيها الناس اتقوا الله وإن تأمر عليكم عبد حبشي مجدع فاسمعوا له وأطيعوا ما أقام فيكم كتاب الله.

وخرج مسلم منه ذكر السمع والطاعة.

وخرج الإمام أحمد والترمذي أيضًا من حديث أبي أمامة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله ﷺ يخطب في حجة الوداع يقول اتقوا الله وصلوا خمسكم وصوموا شهركم وأدوا زكاة ما لكم وأطيعوا إذ أمركم تدخلوا جنة ربكم وفي رواية أخرى قال يا أيها الناس إنه لا نبي بعد ولا أمة بعدكم وذكر الحديث بمعناه.

وفي المسند عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال من لقي الله لا يشرك به شيئًا وأدى زكاة ماله طيبة بها نفسه محتسبا وسمع وأطاع فله الجنة، وقوله ﷺ ولو تأمر عليكم عبد وفي رواية حبشي هذا مما تكاثرت به الروايات عن النبي ﷺ وهو مما اطلع عليه النبي ﷺ من أمر أمته بعده وولاية العبيد عليهم وفي صحيح البخاري عن أنس رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي كان رأسه زبيبة وفي صحيح مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه قال إن خليلي ﷺ أوصاني أن أسمع وأطيع ولو كان عبدًا حبشيا مجدع الأطراف والأحاديث في هذا المعنى كثيرة جدًا ولا ينافي هذا قوله ﷺ لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي في الناس اثنان، وقوله ﷺ الناس تبع لقريش، وقوله الأئمة من قريش لا ولاية للعبيد قد تكون من جهة إمام قريش ويشهد لذلك ما أخرجه الحاكم من حديث علي رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال الأئمة من قريش أبرارها أمراء أبرارها وفجارها أمراء فجارها ولكل حق فآتوا كل ذي حق حقه وإن أمرت قريش فيكم عبدًا حبشيا فاسمعوا له وأطيعوا وإسناده جيد ولكنه روي عن على موقوفا وقال الدارقطني هو أشبه وقد قيل إن العبد الحبشي إنما ذكره على وجه ضرب المثل وإن لم يصح وقوعه كما قال النبي ﷺ فيمن بنى مسجدا ولو كمحفص قطاة، وقوله ﷺ فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرًا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ هذا إخبار منه ﷺ بما وقع في أمته بعده من كثرة الاختلاف في أصول الدين وفروعه وفي الأعمال والأقوال والاعتقادات وهذا موافق لما روي عنه من افتراق أمته على بضع وسبعين فرقة وأنها كلها في النار إلا فرقة واحدة وهي ما كان عليه وأصحابه ولذلك في هذا الحديث أمر عند الافتراق والاختلاف بالتمسك بسنته وسنة الخلفاء الراشدين من بعده والسنة هي الطريق المسلوك فيشمل ذلك التمسك بما كان عليه هو وخلفاؤه الراشدون من الاعتقادات والأعمال والأقوال وهذه هي السنة الكاملة ولهذا كان السلف قديما لا يطلقون اسم السنة إلا على ما يشمل ذلك كله وروي معنى ذلك عن الحسن والأوزاعي والفضيل بن عياض وكثير من العلماء المتأخرين يخص اسم السنة بما يتعلق بالاعتقاد إلا أنها أصل الدين والمخالف فيها على خطر عظيم وفي ذكر هذا الكلام بعد الأمر بالسمع والطاعة لأولي الأمر إشارة إلى أنه لا طاعة لأولي الأمر في غير طاعة الله كما صح عنه ﷺ أنه قال إنما الطاعة في المعروف.

وفي المسند عن أنس أن معاذ بن جبل رضي الله عنهما قال يا رسول الله أرأيت إن كان علينا أمراء لا يستنون بسنتك ولا يأخذون بأمرك فما تأمر في أمرهم فقال رسول الله ﷺ لا طاعة لمن لم يطع الله عز وجل وخرجه ابن ماجه من حديث ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال سيلي أموركم بعدي رجال يطفئون السنة بالبدعة ويؤخرون الصلاة عن مواقيتها فقلت يا رسول الله وإن أدركتهم كيف أفعل قال لا طاعة لم عصى الله وفي أمره ﷺ باتباع سنته وسنة الخلفاء الراشدين بعد أمره بالسمع والطاعة لولاة الأمور عموما دليل على أن سنة الخلفاء الراشدين متبعة كاتباع السنة بخلاف غيرهم من ولاة الأمور.

وفي مسند الإمام أحمد وجامع الترمذي عن حذيفة رضي الله عنه قال كنا عند النبي ﷺ جلوسا فقال إني لا أدري ما قدر بقائي فيكم فاقتدوا بالذين من بعدي وأشار إلى أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وتمسكوا بعهد عمار وما حدثكم به ابن مسعود فصدقوه وفي رواية فتمسكوا بعهد ابن أم عبد واهتدوا بهدي عمار فنص رسول الله ﷺ في آخر عمره على من يقتدي به من بعده والخلفاء الراشدون الذين أمرنا بالاقتداء بهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلى رضي الله عنهم فإن في حديث سفينة عن النبي ﷺ والخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم يكون ملكا وقد صحيح الإمام أحمد واحتج به على خلافة الأئمة الأربعة ونص كثير من الأئمة على أن عمر بن عبدالعزيز خليفة راشد أيضًا ويدل عليه ما خرجه الإمام أحمد من حديث حذيفة رضي الله عنه عن النبوة ﷺ قال تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها ثم تكون خلافة على منهاج النبي فتكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها الله ثم تكون ملكا عاضا ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها ثم تكون ملكا جبرية فتكون ما شاء الله أن تكون ثم إذا شاء الله أن يرفعها ثم تكون خلافة على منهاج نبوة ثم سكت فلما ولي عمر بن عبدالعزيز دخل عليه رجل فحدثه بهذا الحديث فسر به وأعجبه، وكان محمد بن سيرين يسئل أحيانا عن شيء من الأشربة فيقول نهى عنه إمام هدي عمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه ورحمه وقد اختلف العلماء في إجماع الخلفاء الأربعة هل هو إجماع أو حجة مع مخالفة غيرهم من الصحابة أم لا وفيه روايتان عن الإمام أحمد وحكم أبو حازم الحنفي في زمن المعتضد بتوريث ذوي الأرحام ولم يعتد بمن خالف الخلفاء وأنفذ حكمه في ذلك في الآفاق ولو قال بعض الخلفاء الأربعة قولًا ولم يخالفه أحد بل خالفه غيره من الصحابة فهل يقدم قوله على قول غيره فيه قولان أيضًا للعلماء والمنصوص عن أحمد أنه يقدم قوله على قول غيره من الصحابة وكذا ذكره الخطابي وغيره وكلام أكثر السلف يدل على ذلك خصوصًا عمر بن الخطاب رضي الله عنه فإنه روي عن النبي ﷺ من وجوه أنه قال إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه، وكان عمر بن عبد العزيز يتبع أحكامه ويستدل بقول النبي ﷺ إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه وقال مالك قال عمر بن عبد العزيز سن رسول الله ﷺ وولاة الأمر من بعده سننا الأخذ بها اعتصام بكتاب الله وقوة على دين الله وليس لأحد تبديلها ولا تغييرها ولا النظر في أمر خالفها من اهتدى بها فهو المهتدي ومن استنصر بها فهو المنصور ومن تركها واتبع غير سبيل المؤمنين ولاه الله ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيرا وحكى عبدالله بن عبد الحكم عن مالك أنه قال أعجبني عزم عمر على ذلك يعني هذا الكلام وروى عبد الرحمن بن مهدي هذا الكلام عن مالك ولم يحكه عن عمر وقال خلف بن خليفة شهدت عمر بن عبد العزيز يخطب الناس وهو خليفة فقال في خطبته ألا إن ما سن رسول الله ﷺ وصاحباه فهو وظيفة دين نأخذ به وننتهي إليه وروى أبو نعيم من حديث عزوب الكندي أن رسول الله ﷺ قال إنه سيحدث بعدي أشياء فاجتهدوا إلى أن تلزموا ما أحدث عمر، وكان علي رضي الله عنه يتبع قضاياه وأحكامه ويقول إن عمر كان رشيد الأمر وروى الأشعث عن الشعبي قال إذا اختلف الناس في شيء فانظروا فيه كيف قضى عمر فإنه لم يكن يقضي عمر في أمر لم يقض فيه قلبه حتى يشاور وقال مجاهد إذا اختلف الناس في شيء فانظروا ما صنع عمر فخذوا به وقال أيوب عن الشعبي انظروا ما اجتمعت عليه أمة محمد ﷺ فإن الله لم يكن يجمعها على ضلالة فإذا اختلفت فانظروا ما صنع عمر بن الخطاب فخذوا به وسئل عكرمة عن أم الولد فقال تعتق بموت سيدها قيل له بأي شيء تقول قال بالقرآن قال بأي القرآن قال أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم النساء وعمر رضي الله عنه من أولي الأمور وقال وكيع إذا اجتمع عمر وعلي على شيء فهو الأمر وروى عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه كان يحلف أن الصراط المستقيم هو الذي ثبت عليه عمر رضي الله عنه وبكل حال فما جمع عمر عليه الصحابة فاجتمعوا عليه في عصره فلا شك أنه الحق ولو خالفه من بعد ذلك من خالفه كقضائه في مسائل من الفرائض كالعول وفي زوج وأبوين وزوجة وأبوين أن للأم ثلث الباقي وكقضائه فيمن جامع في إحرامه أنه يمضي في نسكه وعليه القضاء والهدي ومثل ما قضى به في امرأة المفقود ووافقه غيره من الخلفاء أيضًا ومثل ما جمع عليه الناس في الطلاق الثلاث وفي تحريم متعة النساء ومثل ما فعله من وضع الديوان ووضع الخراج على أرض العنوة وعقد الذمة لأهل الذمة بالشروط التي شرطها عليهم ونحو ذلك ويشهد لصحته ما جمع عليه عمر أصحابه فاجتمعوا عليه رضي الله عنهم ولم يخالف في وقته قول النبي ﷺ رأيتني في المنام أنزع على قليب فجاء أبو بكر فنزع ذنوبا أو ذنوبين وفي نزعه ضعف والله يغفر له ثم جاء عمر بن الخطاب فاستحالت غربا فلم أر أحدًا يفري فريه حتى روى الناس وضربوا بعطن وفي رواية فلم أر عبقريا من الناس ينزع نزع ابن الخطاب وفي رواية أخرى حتى تولى الحوض يتفجر وهذا إشارة إلى أن عمر لم يمت حتى وضع الأمور في مواضعها واستقامت الأمور وذلك لطول مدته وتفرغه للحوادث واهتمامه بها بخلاف مدة أبي بكر فإنها كانت قصيرة، وكان مشغولا فيها بالفتوح وبعث البعوث للقتال فلم يتفرغ لكثير من الحوادث وربما كان يقع في زمنه ما لا يبلغه ولا يرفع إليه حتى رفعت تلك الحوادث إلى عمر فرد الناس فيها إلى الحق وحملهم على الصواب رضي الله عنه وعن أبي بكر وعن الصحابة أجمعين وأما ما لم يجمع عمر الناس عليه بل كان له فيه رأي وهو يسوغ لغيره أن يرى رأيا يخالف رأيه كمسائل الجد مع الإخوة ومسئلة طلاق البتة فلا يكون قول عمر فيه حجة على غيره من الصحابة والله أعلم.

وإنما وصف الخلفاء بالراشدين لأنهم عرفوا الحق وقضوا به والراشد ضد الغاوي والغاوي من عرف الحق وعمل بخلافه وفي رواية المهديين يعني أن الله يهديهم للحق ولا يضلهم عنه فالأقسام ثلاثة راشدٍ وغاوٍ وضالٍ فالراشد عرف الحق واتبعه والغاوي عرفه ولم يتبعه والضال لم يعرفه بالكلية فكل راشد فهو مهتد وكل مهتد هداية تامة فهو راشد لأن الهداية إنما تتم بمعرفة الحق والعمل به أيضًا.

وقوله عضوا عليها بالنواجذ كناية عن شدة التمسك بها والنواجذ الأضراس قوله وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة تحذير للأمة من اتباع الأمور المحدثة المبتدعة وأكد ذلك بقوله كل بدعة ضلالة والمراد بالبدعة ما أحدث مما لا أصل له في الشريعة يدل عليه وأما ما كان له أصل من الشرع يدل عليه فليس ببدعة شرعا وإن كان بدعة لغة وفي صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه عن النبي ﷺ كان يقول في خطبته إن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد ﷺ وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة وخرجه الترمذي وابن ماجه من حديث كثير بن عبدالله المزني وفيه ضعف عن أبيه عن جده عن النبي ﷺ قال من ابتدع بدعة ضلالة لا يرضاها الله ولا رسوله كان عليه مثل آثام من عمل بها لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئًا.

وخرج الإمام أحمد من رواية غضيف بن الحارث الشمالي قال بعث إلى عبد الملك بن مروان فقال إنا قد جمعنا الناس على أمرين رفع الأيدي على المنابر يوم الجمعة والقصص بعد صلاة الصبح والعصر فقال أما إنهما أمثل بدعتكم عندي ولست بمجيبكم إلى شيء منها لأن النبي ﷺ قال ما أحدث قوم بدعة إلا رفع مثلها من السنة فتمسك بسنة خير من إحداث بدعة وقد روى ابن عمر رضي الله عنه من قوله نحو هذا فقوله ﷺ كل بدعة ضلالة من جوامع الكلم لا يخرج عنه شيء وهو أصل عظيم من أصول الدين وهو شبيه بقوله ﷺ من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد فكل من أحدث شيئًا ونسبه إلى الدين ولم يكن له أصل من الدين يرجع إليه فهو ضلالة والدين بريء منه وسواء في ذلك مسائل الاعتقادات أو الأعمال أو الأقوال الظاهرة والباطنة وأما ما وقع في كلام السلف من استحسان بعض البدع فإنما ذلك في البدع اللغوية لا الشرعية فمن ذلك قول عمر رضي الله عنه لما جمع الناس في قيام رمضان على إمام واحد في المسجد.

وخرج ورآهم يصلون كذلك فقال نعمت البدعة هذه وروي عنه أنه قال إن كانت هذه بدعة فنعمت البدعة وروى عن أبي بن كعب قال له إن هذا لم يكن فقال عمر قد علمت ولكنه حسن ومراده أن هذا الفعل لم يكن على هذا الوجه قبل هذا الوقت ولكن له أصل في الشريعة يرجع إليها فمنها أن النبي ﷺ كان يحث على قيام رمضان ويرغب فيه، وكان الناس في زمنه يقومون في المسجد جماعات متفرقة ووحدانا وهو ﷺ صلى بأصحابه في رمضان غير ليلة ثم امتنع من ذلك معللا بأنه خشي أن يكتب عليهم فيعجزوا عن القيام به وهذا قد أمن بعده ﷺ وروي عنه ﷺ أنه كان يقوم بأصحابه ليالي الإفراد في العشر الأواخر ومنها أنه ﷺ أمر باتباع سنة خلفائه الراشدين وهذا قد صار من سنة خلفائه الراشدين فإن الناس اجتمعوا عليه في زمن عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم ومن ذلك أذان الجمعة الأول زاده عثمان لحاجة الناس إليه وأقره واستمر عمل المسلمين عليه وروى عن ابن عمر أنه قال هو بدعة ولعله أراد ما أراد أبوه في قيام شهر رمضان ومن ذلك جمع المصحف في كتاب واحد توقف فيه زيد بن ثابت وقال لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما كيف تفعلان ما لم يفعله النبي ﷺ ثم علم أنه مصلحة فوافق على جمعه وقد كان النبي ﷺ يأمر بكتابة الوحي ولا فرق بين أن يكتب مفرقا أو مجموعا بل جمعه صار أصلح، وكذلك جمع عثمان الأمة على مصحف وإعدامه لما خالفه خشية تفرق الأمة وقد استحسنه على وأكثر الصحابة رضي الله عنهم، وكان ذلك عين المصلحة، وكذلك قتال من منع الزكاة توقف فيه عمر وغيره حتى بين له أبو بكر أصله الذي يرجع إليه من الشريعة فوافقه الناس على ذلك ومن ذلك القصص وقد سبق قول غضيف بن الحارث إنه بدعة وقال الحسن إنه بدعة ونعمت البدعة كم من دعوة مستجابة وحاجة مقضية وأخ مستفاد وإنما عني هؤلاء بأنه بدعة الهيئة الاجتماعية عليه في وقت معين فإن النبي ﷺ لم يكن له وقت معين يقص على أصحابه فيه غير خطبته الراتبة في الجمع والأعياد وإنما كان يذكرهم أحيانا أو عند حدوث أمر يحتاج إلى التذكير عنده ثم إن الصحابة رضي الله عنهم اجتمعوا على تعيين وقت له كما سبق عن ابن مسعود أنه كان يذكر أصحابه كل يوم خميس وفي صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال حدث الناس في كل جمعة مرة فإن أبيت فمرتين فإن أكثرت فثلاثا ولا تمل الناس. وفي المسند عن عائشة رضي الله عنها أنها وصت قاص أهل المدينة بمثل ذلك وروى عنها أنها قالت لسعيد بن عمير حدث الناس يومًا ودع الناس يومًا وروى عن عمر بن عبد العزيز أنه أمر القاص أن يقص كل ثلاثة أيام مرة وروي عنه أنه قال روح الناس ولا تثقل عليهم ودع القصص يوم السبت ويوم الثلاثاء وقد روى الحافظ أبو نعيم بإسناد عن إبراهيم بن الجنيد قال سمعت الشافعي يقول البدعة بدعتان بدعة محمودة وبدعة مذمومة فما وافق السنة فهو محمود وما خالف السنة فهو مذموم واحتج بقول عمر رضي الله عنه نعمت البدعة هي ومراد الشافعي رضي الله عنه ما ذكرناه من قبل أن أصل البدعة المذمومة ما ليس لها أصل في الشريعة ترجع إليه وهي البدعة في إطلاق الشرع وأما البدعة المحمودة فما وافق السنة يعني ما كان لها أصل من السنة ترجع إليه وإنما هي بدعة لغة لا شرعا لموافقتها السنة وقد روي عن الشافعي كلام آخر يفسر هذا وأنه قال المحدثات ضربان ما أحدث مما يخالف كتابًا أو سنة أو أثرا أو إجماعا فهذه البدعة الضلالة وما أحدث فيه من الخير لا خلاف فيه لواحد من هذا وهذه محدثة غير مذمومة وكثير من الأمور التي أحدثت ولم يكن قد اختلف العلماء في أنها بدعة حسنة حتى ترجع إلى السنة أم لا فمنها كتابة الحديث نهى عنه عمر وطائفة من الصحابة ورخص فيها الأكثرون واستدلوا له بأحاديث من السنة ومنها كتابة تفسير الحديث والقرآن كرهه قوم من العلماء ورخص فيه كثير منهم، وكذلك اختلافهم في كتابه الرأي في الحلال والحرام ونحوه وفي توسعة الكلام في المعاملات وأعمال القلوب التي لم تنقل عن الصحابة والتابعين، وكان الإمام أحمد يكره أكثر ذلك وفي هذه الأزمان التي بعد العهد فيها بعلوم السلف يتعين ضبط ما نقل عنهم من ذلك كله ليتميز به ما كان من العلم موجودًا في زمانهم وما أحدث في ذلك بعدهم فيعلم بذلك السنة من البدعة وقد صح عن ابن مسعود رضي الله عنهما أنه قال إنكم قد أصبحتم اليوم على الفطرة وإنكم ستحدثون ويحدث لكم فإذا رأيتم محدثة فعليكم بالعهد الأول وابن مسعود قال هذا في زمن الخلفاء الراشدين وروى ابن حميد عن مالك قال لم يكن شيء من هذه الأهواء في عهد النبي ﷺ وأبي بكر وعمر وعثمان، وكان مالك يشير بالأهواء إلى ما حدث من التفرق في أصول الديانات من أمور الخوارج والروافض والمرجئة ونحوهم ممن تكلم في تكفير المسلمين واستباحة دمائهم وأموالهم أو في تخليدهم في النار أو في تفسيق خواص هذه الأمة أو عكس ذلك من زعم أن المعاصي لا تضر أهلها وأنه لا يدخل النار من أهل التوحيد أحد وأصعب من ذلك ما أحدث من الكلام في أفعال الله تعالى في قضائه وقد مرد وكذب بذلك من كذب وزعم أنه نزه الله بذلك عن الظلم وأصعب من ذلك ما حدث من الكلام في ذات الله وصفاته مما سكت عنه النبي ﷺ والصحابة والتابعون لهم بإحسان فقوم نفوا كثيرًا مما أورد في الكتاب والسنة من ذلك وزعموا أنهم فعلوا تنزيها لله عما تقتضيه العقول بتنزيهه عنه وزعموا أن لازم ذلك لمستحيل على الله عز وجل وقوم لم يكتفوا بإثباته حتى أثبتوا ما يظن أنه لازم له بالنسبة إلى المخلوقين وهذه اللوازم نفيا وإثباتا درج صدر الأمة على السكوت عنها ومما حدث في الأمة بعد عصر الصحابة والتابعين الكلام في الحلال والحرام بمجرد الرأي ورد كثير مما وردت به السنة في ذلك لمخالفته الرأي والأقيسة العقلية ومما حدث بعد ذلك الكلام في الحقيقة بالذوق والكشف وزعم أن الحقيقة تنافي الشريعة وأن المعرفة وحدها تكفي مع المحبة وأنه لا حاجة إلى الأعمال وأنها حجاب أو أن الشريعة إنما يحتاج إليها العوام وربما انضم إلى ذلك الكلام في الذات والصفات بما يعلم قطعا مخالفته الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.

=============

الحديث التاسع والعشرون

عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال قلت يا رسول الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني عن النار قال لقد سألت عن عظيم وإنه ليسير على من يسره الله عليه تعبد الله لا تشرك به شيئًا وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت ثم قال ألا أدلك على أبواب الخير الصوم جنة والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار وصلاة الرجل في جوف الليل ثم تلا { تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ } حتى بلغ {يَعْمَلُونَ} ثم قال ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه قلت بلى يا رسول الله قال رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد ثم قال ألا أخبرك بملاك ذلك كله قلت بلى يا رسول الله فأخذ بلسانه ثم قال كف عليك هذا قلت يا نبي الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به فقال ثكلتك أمك يا معاذ وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو قال على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم . رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح

هذا الحديث خرجه الإمام أحمد والترمذى والنسائى وابن ماجه من رواية معمر عن عاصم بن أبي النجود عن أبي وائل عن معاذ بن جبل رضي الله عنه وقال الترمذي حسن صحيح وفيما قاله رحمه الله نظر من وجهين أحدهما أنه لم يثبت سماع أبي وائل عن معاذ وإن كان قد أدركه بالسن، وكان معاذ بالشام وأبو وائل بالكوفة وما زال الأئمة كأحمد وغيره يستدلون على انتفاء السماع بمثل هذا وقد قال أبو حاتم الرازي في سماع أبي وائل من أبي الدرداء قد أدركه، وكان بالكوفة وأبو الدرداء بالشام يعني أنه لم يصح منه سماع وقد حكى أبو زرعة الدمشقي عن قوم أنهم توقفوا في سماع أبي وائل من عمر أو نفوه فسماعه من معاذ أبعد والثاني أنه قد رواه حماد بن سلمة عن عاصم بن أبي النجود عن شهر بن حوشب عن معاذ خرجه الإمام أحمد مختصرًا قال الدارقطني وهو أشبه بالصواب لأنه الحديث معروف من رواية شهر على اختلاف عليه فيه قلت رواية شهر عن معاذ مرسلة يقينا وشهر مختلف في توثيقه وتضعيفه وقد خرجه الإمام أحمد من رواية شهر عن عبد الرحمن بن غنم عن معاذ وخرجه الإمام أحمد أيضًا من رواية عروة بن النزال بن عروة وميمون بن أبي شبيب كلاهما عن معاذ ولم يسمع عروة ولا ميمون من معاذ وله طرق أخرى عن معاذ كلها ضعيفة، وقوله أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني عن النار وقد تقدم في شرح الحديث الثاني والعشرين من وجوه ثابتة من حديث أبي هريرة وأبي أيوب وغيرهما أن النبي ﷺ سئل عن مثل هذه المسئلة فأجاب بنحو ما أجاب به في حديث معاذ وفي رواية الإمام أحمد في حديث معاذ أنه قال يا رسول الله إني أريد أن أسألك عن كلمة قد أمرضتني وأسقمتني وأحرقتني قال سل عما شئت قال أخبرني بعمل يدخلني الجنة لا أسألك غيره وهذا يدل على شدة اهتمام معاذ رضي الله عنه بالأعمال الصالحة وفيه دليل على أن الأعمال سبب لدخول الجنة كما قال تعالى {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} الزخرف.

وأما قوله ﷺ لن يدخل الجنة أحد منكم بعمله فالمراد والله أعلم أن العمل بنفسه لا يستحق به أحد الجنة لولا أن الله عز وجل جعله بفضله ورحمته سببًا لذلك والعمل بنفسه من فضل الله ورحمته على عبده فالجنة وأسبابها كل من فضل الله ورحمته.

وقوله لقد سألت عن عظيم قد سبق في شرح الحديث المشار إليه أن النبي ﷺ قال لرجل سأله عن مثل هذا لئن كنت أوجزت المسئلة لقد أعظمت وأطولت وذلك لأن دخول الجنة والنجاة من النار أمر عظيم جدًا ولأجله أنزل الله الكتب وأرسل الرسل وقال النبي ﷺ لرجل كيف تقول إذا صليت قال أسأل الله الجنة وأعوذ به من النار ولا أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ يشير إلى كثرة دعائهما واجتهادهما في المسئلة فقال النبي ﷺ حولها ندندن.

وفي رواية هل تصير دندنتي ودندنة معاذ إلا أن نسأل الله الجنة ونعوذ به من النار.

وقوله ﷺ وإنه ليسير على من يسره الله عليه إشارة إلى أن التوفيق كله بيد الله عز وجل فمن يسر الله عليه الهداية اهتدى ومن لم ييسر عليه لم ييسر له ذلك قال تعالى {فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى. وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى. فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى. وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى. وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى. فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} الليل وقال النبي ﷺ اعملوا فكل ميسر لما خلق له أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة ثم تلا ﷺ هذه الآية، وكان النبي ﷺ يقول في دعائه واهدني ويسر الهدي لي أخبر الله عن نبيه موسى عليه السلام أنه قال في دعائه {رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي. وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي} طه.

وكان ابن عمر رضي الله عنهما يدعو اللهم يسرني لليسرى وجنبني العسرى وقد سبق في شرح الحديث المشار إليه توجيه ترتيب دخول الجنة على الإتيان بأركان الإسلام الخمسة وهي التوحيد والصلاة والزكاة والصيام والحج، وقوله ألا أدلك على أبواب الخير لما رتب دخول الجنة على واجبات الإسلام دله بعد ذلك على أبواب الخير من النوافل فإن أفضل أولياء الله المقربين الذين يتقربون إليه بالنوافل بعد أداء الفرائض، وقوله الصوم جنة هذا الكلام ثابت عن النبي ﷺ من وجوه كثيرة وخرجاه في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ وخرجه الإمام أحمد بزيادة وهي الصيام جنة وحصن حصين من النار وخرجه من حديث عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال الصوم جنة من النار كجنة أحدكم من القتال ومن حديث جابر رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال قال ربنا عز وجل الصيام جنة يستجن بها العبد من النار.

وخرج الإمام أحمد والنسائى من حديث أبي عبيدة رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال الصيام جنة ما لم تخرقها، وقوله ما لم تخرقها يعني بالكلام السيء ونحوه ولهذا في حديث أبي هريرة المخرج في الصحيحين عن النبي ﷺ الصيام جنة فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يفسق ولا يجهل فإن امرؤ سابه فليقل إني امرؤ صائم وقال بعض السلف الغيبة تخرق الصيام والاستغفار يرفعه فمن استطاع منكم أن لا يأتي بصوم مخرق فليفعل.

وقال ابن المنكدر الصائم إذا اغتاب خرق وإذا استغفر رقع وخرجه الطبراني بإسناد فيه نظر عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا إن الصيام جنة ما لم يخرقها قيل بم يخرقها قال بكذب أو غيبة فالجنة هي ما يستجن به العبد كالمجن الذي يقيه عند القتال من الضرب فكذلك الصيام يقي صاحبه من المعاصي في الدنيا كما قال عز وجل {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} البقرة فإذا كان له جنة من المعاصي كان له في الآخرة جنة من النار ومن لم يكن له جنة في الدنيا من المعاصي لم يكن له جنة في الآخرة من النار وخرجه ابن مردويه من حديث على مرفوعًا قال بعث الله يحيى بن زكريا إلى بني إسرائيل بخمس كلمات فذكر الحديث بطوله وفيه إن الله يأمركم أن تصوموا ومثل ذلك كمثل رجل مشى إلى عدوه وقد أخذ للقتال جنة فلا يخاف من حيث ما أتي وخرجه من وجه آخر عن علي رضي الله عنه مرفوعًا وفيه قال الصيام مثله كمثل رجل أبصره الناس فاستحد في السلاح حتى ظن أن لن يصل إليه سلاح العدو فكذلك الصيام جنة قوله ﷺ والصدقة تطفيء الخطيئة كما يطفيء الماء النار هذا الكلام روي عن النبي ﷺ من وجوه أخر فخرجه الإمام أحمد والترمذى من حديث كعب بن عجرة عن النبي ﷺ قال الصوم جنة حصينة والصدقة تطفيء الخطيئة كما يطفيء الماء النار وخرجه الطبراني وغيره من حديث أنس بمعناه مرفوعًا وخرجه الترمذي وابن حبان في صحيحه من حديث أنس عن النبي ﷺ قال إن صدقة السر لتطفيء غضب الرب وتدفع ميتة السوء وروى عن على بن الحسين رضي الله عنهما أنه كان يحمل الخبز على ظهره بالليل يتتبع به المساكين في ظلمة الليل ويقول إن الصدقة في ظلام الليل تطفئ غضب الرب عز وجل وقد قال الله تعالى {إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لُّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ} البقرة فدل على أن الصدقة تكفر بها السيئات إما مطلقات أو صدقة السر.

وقوله ﷺ وصلاة الرجل في جوف الليل يعني أنها تطفيء الخطيئة أيضًا كالصدقة ويدل على ذلك ما أخرجه الإمام أحمد من رواية عروة بن النزال عن معاذ رضي الله عنه قال أقبلت مع النبي ﷺ من غزوة تبوك فذكر الحديث وفيه إن الصوم جنة والصدقة وقيام العبد في جوف الليل يكفر الخطيئة.

وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال أفضل الصلاة بعد المكتوبة قيام الليل وقد روي عن جماعة من الصحابة أن الناس يحرقون بالنهار من الذنوب وكلما قاموا إلى صلاة من الصلوات المكتوبات أطفأوا ذنوبهم وروى ذلك مرفوعًا من وجوه فيها نظر، وكذلك قيام الليل يكفر الخطايا لأنه أفضل نوافل الصلاة وفي الترمذي من حديث بلال رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم وإن قيام الليل قربة إلى الله عز وجل ومنهاة عن الإثم وتكفير السيئات ومطردة للداء عن الجسد وخرجه أيضًا من حديث أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي ﷺ بنحوه وقال هو أصح من حديث بلال وخرجه الحاكم وابن خزيمة في صحيحيهما من حديث أبي أمامة أيضًا.

وقال ابن مسعود فضل صلاة الليل على صلاة النهار كفضل صدقة السر على صدقة العلانية وخرجه أبو نعيم عنه مرفوعًا والموقوف أصح وقد تقدم أن صدقة السر تطفيء الخطيئة وتطفيء غضب الرب فكذلك صلاة الليل، وقوله ﷺ ثم تلا قوله تعالى {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} السجدة حتى بلغ يعملون.

يعني أن النبي ﷺ تلا هاتين الآيتين عند ذكره فضل صلاة الليل ليبين بذلك فضل صلاة الليل.

وقد روي عن أنس رضي الله عنه أن هذه الآية نزلت في انتظار صلاة العشاء خرجه الترمذي وصححه وروي عنه أنه قال في هذه الآية كانوا ينتظرون بين المغرب والعشاء خرجه أبو داود وروى نحوه عن بلال وخرجه البزار بإسناد ضعيف وكل هذا يدخل في عموم لفظ الآية فإن الله مدح الذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع لدعائه فيشمل ذلك كله من ترك النوم بالليل لذكر الله ودعائه فيدخل فيه من صلى بين العشاءين ومن انتظر صلاة العشاء فلم يقم حتى يصليها لا سيما مع حاجته إلى النوم ومجاهدة نفسه على تركه لأداء الفريضة وقد قال النبي ﷺ لمن انتظر صلاة العشاء إنكم لن تزالوا في صلاة ما انتظرتم الصلاة ويدخل فيه من نام ثم قام من نومه بالليل للتهجد وهو أفضل أنواع التطوع بالصلاة مطلقا وربما دخل فيه من ترك النوم عند طلوع الفجر وقام إلى أداء صلاة الصبح لا سيما مع غلبة النوم عليه ولهذا شرع للمؤذن في أذان الفجر أن يقول في أذانه الصلاة خير من النوم.

وقوله ﷺ وصلاة الرجل في جوف الليل ذكر أفضل أوقات التهجد بالليل وهو جوف الليل.

وخرج النسائي والترمذى من حديث أبي أمامة قيل يارسول الله أي الدعاء أسمع قال جوف الليل الآخر ودبر الصلوات المكتوبات وخرجه ابن أبي الدنيا ولفظه جاء رجل إلى النبي ﷺ فقال أي الصلاة أفضل قال جوف الليل الأوسط قال أي الدعاء أسمع قال دبر المكتوبات.

وخرج النسائي من حديث أبي ذر رضي الله عنه قال سألت النبي ﷺ أي الليل خير قال خير الليل جوفه.

وخرجه الإمام أحمد من حديث أبي مسلم قال قلت لأبي ذر أي قيام الليل أفضل قال سألت النبي ﷺ كما سألتني فقال جوف الليل الغابر أو نصف الليل وقليل فاعله وخرجه البزار والطبراني من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال سئل النبي ﷺ أي الليل أجوب دعوة قال جوف الليل زاد البزار في روايته الأخرى وخرجه الترمذي من حديث عمرو بن عبسة سمعت النبي ﷺ يقول أقرب ما يكون الرب من العبد في جوف الليل الآخر فإن استطعت أن تكون ممن يذكر الله تلك الساعة فكن وصححه وخرجه الإمام أحمد ولفظه قال قلت يا رسول الله أي الساعات أفضل قال جوف الليل الآخر وفي رواية له أيضًا وقال جوف الليل الآخر أجوب دعوة وفي رواية له قلت يارسول الله هل من ساعة أقرب إلى الله من ساعة أخري قال جوف الليل الآخر وخرجه ابن ماجه وعنده جوف الليل الأوسط وفي رواية الإمام أحمد عن عمر بن عبسة قال قلت يا رسول الله هل من ساعة أفضل من ساعة قال إن الله لينزل في جوف الليل فيغفر إلا ما كان من الشرك وقد قيل إن جوف الليل إذا أطلق فالمراد به وسطه وإن قيل جوف الليل الآخر فالمراد به وسط النصف الثاني وهو السدس الخامس من أسداس الليل وهو الوقت الذي ورد فيه النزول الإلهي، وقوله ﷺ ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه قلت بلى يارسول الله قال رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد وفي رواية الإمام أحمد من رواية شهر بن حوشب عن ابن غنم عن معاذ رضي الله عنه قال قال لي رسول الله ﷺ إن شئت حدثتك برأس هذا الأمر وقوام هذا الدين وذروة السنام قلت بلى فقال نبي الله ﷺ إن رأس هذا الأمر أن تشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدًا عبده ورسوله وإن قوام هذا الأمر إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وإن ذروة السنام منه الجهاد في سبيل الله وإنما أمرت أن أقاتل الناس حتى يقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ويشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله فإذا فعلوا ذلك فقد عصموا دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله عز وجل وقال رسول الله ﷺ والذي نفس محمد بيده ما شج وجه ولا اغبرت قدم في عمل يبتغي به درجات الجنة بعد الصلاة المفروضة كالجهاد في سبيل الله عز وجل ولا ثقل ميزان عبد كالدابة تنفق له في سبيل الله أو يحمل عليها في سبيل الله عز وجل فأخبرني النبي ﷺ عن ثلاثة أشياء رأس الأمر وعموده وذروة سنامه فأما رأس الأمر فيعني بالأمر الدين الذي بعث به وهو الإسلام وقد جاء تفسيره في رواية أخرى بالشهادتين فمن لم يقر بهما باطنا وظاهرا فليس من الإسلام في شيء وأما قوام الدين الذي يقوم به الدين كما يقوم الفسطاط على عموده فهي الصلاة وفي الرواية الأخرى وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة كما سبق القول في أركان الإسلام وارتباط بعضها ببعض وأما ذروة سنامه وهو أعلى ما فيه وأرفعه فهو الجهاد وهذا يدل على أنه أفضل الأعمال بعد الفرائض كما هو قول الإمام أحمد وغيره من العلماء، وقوله في رواية الإمام أحمد والذي نفس محمد بيده ما شحت وجه ولا اغبرت قدم في عمل يبتغي به درجات الجنة بعد الصلاة المفروضة كالجهاد في سبيل الله عز وجل يدل على ذلك صريحا.

وفي الصحيحين عن أبي ذر رضي الله عنه قال قلت يا رسول الله أي العمل أفضل قال إيمان بالله ثم جهاد في سبيل الله وفيهما عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال أفضل الأعمال إيمان بالله ثم جهاد في سبيل الله والأحاديث في هذا المعنى كثيرة جدا، وقوله ﷺ ألا أخبرك بملاك ذلك كله قلت بلى يا رسول الله فأخذ بلسان نفسه ثم قال كف عليك هذا إلى آخر الحديث هذا يدل على أن كف اللسان وضبطه وحبسه هو أصل الخير كله وأن من ملك لسانه فقد ملك أمره وأحكمه وضبطه وقد سبق الكلام على هذا المعنى في شرح حديث من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت وفي شرح حديث قل آمنت بالله ثم استقم وخرجه البزار في مسنده من حديث أبي اليسر أن رجلًا قال يارسول الله دلني على عمل يدخلني الجنة قال أمسك هذا وأشار إلى لسانه فأعادها عليه فقال ثكلتك أمك هل يكب الناس على مناخرهم في النار إلا حصائد ألسنتهم وقال إسناده حسن والمراد بحصائد الألسنة جزاء الكلام المحرم وعقوباته فإن الإنسان يزرع بقوله وعمله الحسنات والسيئات ثم يحصد يوم القيامة ما زرع فمن زرع خيرًا من قول أو عمل حصد الكرامة ومن زرع شرًا من قول أو عمل حصد غدا الندامة وظاهر حديث معاذ يدل على أن أكثر ما يدخل الناس به النار النطق بألسنتهم فإن معصية النطق يدخل فيها الشرك وهي أعظم الذنوب عند الله عز وجل ويدخل فيها القول على الله بغير علم وهو قرين الشرك ويدخل فيها شهادة الزور التي عدلت الإشراك بالله عز وجل ويدخل فيها السحر والقذف وغير ذلك من الكبائر والصغائر كالكذب والغيبة والنميمة وسائر المعاصي الفعلية لا يخلو غالبًا من قول يقترن بها يكون معينا عليها.

وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال أكثر ما يدخل الناس النار الأجوفان الفم والفرج خرجه الإمام أحمد والترمذى.

وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال إن الرجل ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها يزل بها في النار أبعد مما بين المشرق والمغرب وخرجه الترمذي ولفظه إن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يرى بها بأسًا يهوي بها سبعين خريفا في النار.

وروى مالك عن زيد بن أسلم عن أبيه أن عمر دخل على أبي بكر رضي الله عنهما وهو يجبذ لسانه فقال عمر مه غفر الله لك فقال أبو بكر هذا الذي أوردني الموارد.

وقال ابن بريدة رأيت ابن عباس رضي الله عنهما أخذ بلسانه وهو يقول ويحك قل خيرًا تغنم أو اسكت عن سوء تسلم وإلا فاعلم أنك ستندم قال فقيل له يا ابن عباس لم تقول هذا قال إنه بلغني أن الإنسان أراه قال ليس على شيء من جسده أشد حنقا أو غيظا يوم القيامة منه على لسانه إلا من قال به خيرًا أو أملي به خيرًا.

وكان ابن مسعود رضي الله عنه يحلف بالله الذي لا إله إلا هو ما على الأرض شيء أحوج إلى طول سجن من لساني وقال الحسن اللسان أمير البدن فإذا جنى على الأعضاء شيئًا جنت وإذا عف عفت وقال يونس بن عبيد ما رأيت أحدًا لسانه منه على بال إلا رأيت ذلك صالحًا في سائر عمله وقال يحيى بن أبي كثير ما صلح منطق رجل إلا عرفت ذلك في سائر عمله ولا فسد منطق رجل قط إلا عرفت ذلك في سائر عمله. وقال ابن المبارك عن فضالة عن يونس بن عبيد رحمهم الله لا تجد شيئًا من البر واحدًا يتبعه البر كله غير اللسان فإنك تجد الرجل يصوم النهار ويفطر على حرام ويقوم الليل ويشهد الزور بالنهار وذكر أشياء نحو هذا ولكن لا تجده لا يتكلم إلا بحق فيخالف ذلك عمله أبدًا.

=============

الحديث الثلاثون

عن أبي ثعلبة الخشني جرثوم بن ناشر رضي الله عنه عن رسول الله ﷺ قال إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها وحد حدودا فلا تعتدوها وحرم أشياء فلا تنتهكوها وسكت عن أشياء رحمة لكم من غير نسيان فلا تبحثوا عنها . حديث حسن رواه الدارقطني وغيره

هذا الحديث من رواية مكحول عن أبي ثعلبة الخشني وله علتان إحداهما أن مكحولا لم يصح له السماع عن أبي ثعلبة كذلك قال أبو شهر الدمشقي وأبو نعيم الحافظ وغيرهما والثانية أنه اختلف في رفعه ووقفه على ابن ثعلبة ورواه بعضهم عن مكحول عن قوله لكن قال الدارقطني الأشبه بالصواب المرفوع قال وهو أشهر وقد حسن الشيخ رحمه الله هذا الحديث، وكذلك حسن قبله الحافظ أبو بكر السمعاني في أماليه وقد روى معنى هذا الحديث مرفوعًا من وجوه أخر خرجه البزار في مسنده والحاكم من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال ما أحل الله في كتابه فهو حلال وما حرم فهو حرام وما سكت عنه فهو عفو فاقبلوا من الله عافيته فإن الله لم يكن لينسى شيئًا ثم تلا هذه الآية {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} مريم وقال الحاكم صحيح الإسناد.

وقال البزار إسناده صالح وقد خرجه الطبراني والدارقطني من وجه آخر عن أبي الدرداء عن النبي ﷺ بمثل حديث أبي ثعلبة وقال في آخره رحمة من الله فاقبلوها ولكن إسناده ضعيف.

وخرجه الترمذي وابن ماجه من رواية سيف بن هارون عن سليمان التيمي عن أبي عثمان عن سلمان رضي الله عنه قال سئل رسول الله ﷺ عن السمن والجبن والفراء فقال الحلال ما أحل الله في كتابه والحرام ما حرم الله في كتابه وما سكت عنه فهو مما عفا عنه.

قال الترمذي رواه سفيان يعني ابن عيينة عن سليمان عن أبي عثمان عن سلمان رضي الله عنه من قوله وكأنه أصح وذكر في كتاب العلل عن البخاري أنه قال في الحديث المرفوع ما أراه محفوظًا.

وقال أحمد هو منكر وأنكره ابن معين أيضًا وقال أبو حاتم الرازي هو خطاء رواه الثقات عن التيمي عن أبي عثمان عن النبي ﷺ مرسلًا ليس فيه سلمان قلت وقد روي عن سلمان من قوله من وجوه أخر وخرجه ابن عدي من حديث ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعًا وضعف إسناده ورواه أبو صالح المري عن الجريري عن أبي عثمان النهدي عن عائشة رضي الله عنها أخطأ في إسناده وروى عن الحسن مرسلًا.

وخرجه أبو داود من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال كان أهل الجاهلية يأكلون أشياء ويتركون أشياء تقذرا فبعث الله نبيه ﷺ وأنزل كتابه وأحل حلاله وحرم حرامه فما أحل فهو حلال وما حرم فهو حرام وما سكت عنه فهو عفو ثم تلا قوله تعالى {قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} الأنعام وهذا موقوف.

وقال عبيد بن عمير إن الله عز وجل أحل الحلال وحرم الحرام وما أحل فهو حلال وما حرم فهو حرام وما سكت عنه فهو عفو فحديث أبي ثعلبة قسم فيه أحكام الله أربعة أقسام فرائض ومحارم وحدود ومسكوت عنه وذلك يجمع أحكام الدين كلها.

وقال أبو بكر السمعاني هذا الحديث أصل كبير من أصول الدين وفروعه قال وحكي عن بعضهم أنه قال ليس في أحاديث رسول الله ﷺ حديث واحد أجمع بانفراده لأصول الدين وفروعه من حديث أبي ثعلبة قال وحكي عن أبي واثلة المزني أنه قال جمع رسول الله ﷺ الدين في أربع كلمات ثم ذكر حديث أبي ثعلبة ثم قال ابن السمعاني من عمل بهذا الحديث فقد حاز الثواب وأمن من العقاب لأن من أدى الفرائض واجتنب المحارم ووقف عند الحدود وترك البحث عما غاب عنه فقد استوفى أقسام الفضل وأوفى حقوق الدين لأن الشرائع لا تخرج عن هذه الأنواع المذكورة في هذا الحديث انتهى.

فأما الفرائض فما فرضه الله على عباده وألزمهم به القيام كالصلاة والزكاة والصيام والحج وقد اختلف العلماء رضي الله عنهم هل الواجب والفرائض بمعنى واحد أم لا فمنهم من قال هما سواء وكل واجب بدليل شرعي بكتاب أو سنة أو إجماع أو غير ذلك من أدلة الشرع فهو فرض وهو المشهور عن أصحاب الشافعي وغيرهم وحكي رواية عن أحمد قال كل ما في الصلاة فهو فرض ومنهم من قال بل الفرض ما ثبت بدليل مقطوع به والواجب ما ثبت بغير مقطوع به وهو قول الحنفية وغيرهم وأكثر النصوص عن أحمد يفرق بين الفرض والواجب فنقل جماعة من أصحابه عنه أنه قال لا يسمى فرضًا إلا ما كان في كتاب الله تعالى وقال في صدقة الفطر ما أجترئ أن أقول إنها فرض مع أنه يقول بوجوبها فمن أصحابنا من قال مراده أن الفرض ما يثبت بالكتاب والواجب ما يثبت بالسنة ومنهم من قال أراد أن الفرض ما ثبت بالاستفاضة والنقل المتواتر والواجب ما ثبت من جهة الاجتهاد وساغ الخلاف في وجوبه ويشكل على هذا أن أحمد قال في رواية الميموني في بر الوالدين ليس بفرض ولكن أقول واجب ما لم تكن معصية وبر الوالدين مجمع على وجوبه وقد كثرت الأوامر به في الكتاب والسنة فظاهر هذا أنه لا يقول فرض إلا ما ورد في الكتاب والسنة فرضًا وقد اختلف السلف في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هل يسمى فريضة أم لا فقال جويبر عن الضحاك هما من فرائض الله عز وجل وكذا روي عن مالك وروى عبد الواحد بن زيد عن الحسن فقال ليس بفريضة كان فريضة على بني إسرائيل فرحم الله هذه الأمة لضعفهم فجعله عليهم نافلة وكتب عبدالله بن شبرمة إلى عمرو بن عبيد أبياتا مشهورة أولها:

الأمر بالمعروف يا عمرو نافلة *** والقائمون به لله أنصار

واختلف كلام الإمام أحمد فيه هل يسمى واجبا أم لا ؟ فروى عنه جماعة ما يدل على وجوبه ورواه عنه أبو داود في الرجل يرى الطنبور ونحوه أواجب عليه تغييره قال ما أدري ما واجب إن غيره فهو نفل وقال إسحاق بن راهوية هو واجب على كل مسلم إلا أن يخشى على نفسه ولعل أحمد يتوقف في إطلاقه الواجب على ما ليس بواجب على الأعيان بل على الكفاية وقد اختلف العلماء رضي الله عنهم في الجهاد هل هو واجب أم لا فأنكر جماعة منهم وجوبه منهم عطاء وعمرو بن دينار وابن شبرمة ولعلهم أرادوا هذا المعنى وقال طائفة هو واجب منهم سعيد بن المسيب ومكحول ولعلهما أرادوا وجوبه على الكفاية وقال أحمد في رواية حنبل الغزو واجب على الناس كلهم كوجوب الحج فإذا غزا بعضهم أجزأ عنهم ولابد للناس من الغزو وسأله المروزي عن الجهاد أفرض هو قال قد اختلفوا فيه وليس هو مثل الحج ومراده أن الحج لا يسقط عمن لم يحج مع الاستطاعة بحج غيره بخلاف الجهاد وسئل عن النفير متى يجب فقال أما إيجابه فلا أدري ولكن إذا خافوا على أنفسهم فعليهم أن يخرجوا وظاهر هذا التوقف في إطلاق لفظ الواجب على ما لم يأت فيه لفظ الإيجاب تورعا ولذلك توقف في إطلاق لفظ الحرام على ما اختلف فيه وتعارضت أدلته من نصوص الكتاب والسنة فقال في متعة النساء لا أقول هي حرام ولكن ننهى عنه ولم يتوقف في معنى التحريم ولكن في إطلاق لفظه لاختلاف النصوص والصحابة فيها هذا هو الصحيح في تفسير كلام أحمد وقال في الجمع بين الأختين بملك اليمين لا أقول هو حرام ولكن ننهى عنه والصحيح في تفسيره أنه توقف في إطلاق لفظ الحرام دون معناه وهذا كله على سبيل الورع في الكلام حذرا من الدخول تحت قوله تعالى {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} النحل.

قال الربيع بن خثيم ليتق أحدكم أن يقول أحل كذا وحرم كذا فيقول الله كذبت لم أحل كذا ولم أحرم كذا.

وقال ابن وهب سمعت مالك بن أوس يقول أدركت علماءنا يقول أحدهم إذا سئل أكره هذا ولا أحبه ولا يقول حلال ولا حرام.

وأما ما حكي عن أحمد أنه قال كل ما في الصلاة فرض فليس كلامه كذلك إنما نقل عنه ابنه عبدالله أنه قال كل شيء في الصلاة ذكره الله فهو فرض وهذا يعود إلى معنى قوله إنه لا فرض إلا ما في القرآن والذي ذكره الله من أمر الصلاة القيام والقراءة والركوع والسجود وإنما قال أحمد هذا لأن بعض الناس كان يقول الصلاة فرض والركوع والسجود لا أقول إنه فرض ولكنه سنة.

وقد سئل مالك بن أنس عمن يقول ذلك فكفره فقيل له إنه يتأول فلعنه فقال لقد قال قولًا عظيمًا.

وقد نقله أبو بكر النيسابوري في كتاب مناقب مالك من وجوه عنه وقد روى أيضًا بإسناده عن عبدالله بن عمرو بن ميمون بن الرماح قال دخلت على مالك بن أنس فقلت يا أبا عبدالله ما في الصلاة من فريضة وما فيها من سنة أو قال نافلة فقال مالك كلام الزنادقة أخرجوه ونقل إسحاق بن منصور عن إسحاق بن راهوية أنه أنكر تقسيم أجزاء الصلاة إلى سنة وواجب فقال كل ما في الصلاة فهو واجب وأشار إلى أن منه ما تعاد الصلاة بتركه ومنه ما لا تعاد وسبب هذا والله أعلم أن التعبير بلفظ السنة قد يفضي إلى التهاون بفعل ذلك وإلي الزهد فيه وتركه وهذا خلاف مقصود الشارع من الحث عليه والترغيب فيه بالطرق المؤدية إلى فعله وتحصيله فإطلاق لفظ الواجب أدعى إلى الإتيان به والرغبة فيه وقد ورد إطلاق الواجب في كلام الشارع على ما لا يأثم بتركه ولا يعاقب عليه عند الأكثرين كغسل الجمعة، وكذلك ليلة النصف عند كثير من العلماء أو أكثرهم وإنما المراد به المبالغة في الحث على فعله وتأكيده وأما المحارم فهي التي حماها الله تعالى ومنع من قربانها وارتكابها وانتهاكها والمحرمات المقطوع بها مذكورة في الكتاب والسنة كقوله تعالى {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا} الأنعام، وقوله تعالى {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} الأعراف إلى قوله {وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} الأعراف وقد ذكر في بعض الآيات المحرمات المختصة بنوع من الأنواع كما ذكر المحرمات من المطاعم في مواضع منها قوله تعالى {قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} الأنعام، وقوله {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالْدَّمَ وَلَحْمَ الْخَنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} النحل، وقوله {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ} المائدة وذكر المحرمات في النكاح في قوله تعالى {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ} النساء وذكر المحرمات من المكاسب في قوله تعالى {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} البقرة وأما السنة ففيها ذكر كثير من المحرمات كقوله ﷺ إن الله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام، وقوله إن الله إذا حرم شيئًا حرم ثمنه، وقوله كل مسكر حرام، وقوله إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام فما ورد التصريح بتحريمه في الكتاب والسنة فهو محرم وقد يستفاد التحريم من النهي مع الوعيد والتشديد كما في قوله عز وجل {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ} المائدة وأما النهي المجرد فقد اختلف الناس هل يستفاد منه التحريم أم لا.

وقد روي عن ابن عمر رضي الله عنهما إنكار استفادة التحريم منه.

قال ابن المبارك أخبرنا سلام بن أبي مطيع عن ابن أبي دخيلة عن أبيه قال كنت عند ابن عمر فقال نهى رسول الله ﷺ عن الزبيب والتمر يعني أن يخلطا فقال لي رجل من خلفي ما قال فقلت حرم رسول الله ﷺ التمر والزبيب فقال عبدالله ابن عمر كذبت فقلت ألم تقل نهى رسول الله ﷺ عنه فهر حرام فقال أنت تشهد بذلك قال سلام كأنه يقول نهى النبي ﷺ فهو أدب.

وقد ذكرنا فيما تقدم عن العلماء الورعين كأحمد ومالك توقيا إطلاق لفظ الحرام على ما لم يتيقن تحريمه ما فيه نوع شبهة أو اختلاف وقال النخعي كانوا يكرهون أشياء لا يحرمونها.

وقال ابن عون قال لي مكحول ما تقولون في الفاكهة تلقى بين القوم فينتهبونها قلت إن ذلك عندنا لمكروه قال أحرام هي قال ابن عون فاستخفنا ذلك من قول مكحول وقال جعفر بن محمد سمعت رجلًا يسأل القاسم بن محمد الغناء أحرام هو فسكت عنه القاسم ثم عاد فسكت عنه ثم عاد فقال إن الحرام ما حرم الله في القرآن أرأيت إذا أتي بالحق والباطل إلى الله فأيهما يكون الغناء فقال الرجل في الباطل فقال فأفت نفسك فقال عبدالله بن الإمام أحمد سمعت أبي يقول أما نهى النبي ﷺ فمنها أشياء حرام مثل قوله نهى أن تنكح المرأة على عمتها أو على خالتها فهذا حرام ونهى عن جلود السباع فهذا حرام وذكر أشياء من نحوها هذا ومنها أشياء نهى عنها فهي أدب وأما حدود الله التي نهى عن اعتدائها فالمراد بها جملة ما أذن في فعله سواء كان على طريق الوجوب أو الندب أو لإباحة واعتداؤها هو تجاوز ذلك إلى ارتكاب ما نهى عنه كما قال تعالى {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} الطلاق والمراد من طلق على غير ما أمر الله به وأذن فيه وقال تعالى {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} البقرة والمراد من أمسك بعد أن طلق بغير معروف أو سرح بغير إحسان أو أخذ مما أعطى المرأة شيئًا على غير وجه الفدية التي أذن الله فيها وقال تعالى {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} النساء إلى قوله {وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ} النساء.

والمراد من تجاوز ما فرضه الله للورثة ففضل وارثا وزاد على حقه أو نقصه منه ولهذا قال النبي ﷺ في خطبته في حجة الوداع إن الله أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث.

وروى النواس بن سمعان رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال ضرب الله مثلًا صراطا مستقيما وعلى جنبتي الصراط سوران فيهما أبواب مفتحة وعلى الأبواب ستور مرخاة وعلى باب الصراط داع يقول يا أيها الناس ادخلوا الصراط جميعا ولا تعوجوا وداع يدعو من جوف الصراط فإذا أراد أن يفتح شيئًا من تلك الأبواب قال ويحك لا تفتحه فإنك إن تفتحه تلجه والصراط الإسلام والسوران حدود الله والأبواب المفتحة محارم الله وذلك الداعي على الصراط كتاب الله والداعي من فوق واعظ الله في قلب كل مسلم خرجه الإمام أحمد وهذا لفظه والنسائى في تفسيره والترمذى وحسنه فضرب النبي ﷺ مثل الإسلام في هذا الحديث بصراط مستقيم وهو الطريق السهل الواسع الموصل سالكه إلى مطلوبه وهو مع هذا مستقيم لا عوج فيه فيقتضي ذلك قربه وسهولته وعلى جنبتي الصراط يمنة ويسرة سوران وهما حدود الله وكما أن السور يمنع من كان داخله من تعديه ومجاوزته فكذلك الإسلام يمنع من دخل فيه من الخروج عن حدوده ومجاوزتها وليس وراء ما حد الله من المأذون فيه إلا ما نهى عنه ولهذا مدح سبحانه الحافظين لحدوده وذم من لا يعرف حد الحلال من الحرام كما قال تعالى {الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} التوبة وقد تقدم حديث إن القرآن يقول من عمل به حفظ حدودي ومن لم يعمل به تعدى حدودي والمراد أن من لم يجاوز ما أذن له فيه إلى ما نهى عنه فقد حفظ حدود الله ومن تعدى ذلك فقد تعدى حدود الله وقد تطلق الحدود ويراد بها نفس المحارم وحينئذ فيقال لا تقربوا حدود الله كما قال تعالى {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا} البقرة.

والمراد النهي عن ارتكاب ما نهى عنه في الآية من محظورات الصيام والاعتكاف في المساجد ومن هذا المعنى وهو تسمية المحارم حدودا وقول النبي ﷺ مثل القائم على حدود الله والمداهن فيها كمثل قوم اقتسموا سفينة الحديث المشهور وأراد بالقائم على حدود الله المنكر للمحرمات والناهي عنها وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي ﷺ قال إني آخذ بحجزكم اتقوا النار اتقوا الحدود قالها ثلاثًا خرجه الطبراني والبزار وأراد بالحدود محارم الله ومعاصيه ومنه قول الرجل الذي قال للنبي ﷺ فإني أصبت حدا فأقمه علي وقد تسمى العقوبات المقدرة الرادعة عن المحارم المغلظة حدودا كما يقال حد الزنا وحد السرقة وحد شرب الخمر ومنه قول النبي ﷺ لأسامة أتشفع في حد من حدود الله يعني في القطع في السرقة وهذا هو المعروف من أسماء الحدود في اصطلاح الفقهاء وأما قول النبي ﷺ لا يجلد فوق عشر جلدات إلا في حد من حدود الله فهذا قد اختلف الناس في معناه فمنهم من فسره ههنا بهذه الحدود المقدرة وقال إن التعزير لا يزاد على عشر جلدات ولا يزاد عليها إلا في هذه الحدود المقدرة ومنهم من فسر الحدود ههنا بجنس محارم الله وقال إن المراد بمجاوزة العشر الجلدات لا يجوز إلا في ارتكاب محرم من محارم الله فأما ضرب التأديب على غير محرم فلا يتجاوز به عشر جلدات وقد حمل بعضهم قوله ﷺ وحد حدودا فلا تعتدوها على هذه العقوبات الزاجرة عن المحرمات وقال المراد النهي عن تجاوز هذه الحدود وتعديها عن إقامتها على أهل الجرائم ورجح ذلك بأنه لو كان المراد بالحدود الوقوف عند الأوامر والنواهي لكان تكريرًا لقوله وفرض فرائض فلا تضيعوها وحرم أشياء فلا تنتهكوها وليس المراد على ما قاله فإن الوقوف عند الحدود يقتضي أنه لا يخرج عما أذن فيه إلا ما نهى عنه وذلك أعم من كون المأذون فيه فرضًا أو ندبا أو مباحًا كما تقدم وحينئذ فلا تكرير في هذا الحديث والله أعلم.

وأما المسكوت عنه فهو ما لم يذكر حكمه بتحليل ولا إيجاب ولا تحريم فيكون معفوا عنه لا حرج على فاعله وعلى هذا دلت الأحاديث المذكورة ههنا كحديث أبي ثعلبة وغيره وقد اختلفت ألفاظ حديث أبي ثعلبة فروى باللفظ المتقدم وروى بلفظ آخر وهو إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها ونهاكم عن أشياء فلا تنتهكوها وعفا عن أشياء من غير نسيان فلا تبحثوا عنها خرجه إسحاق بن راهوبه وروى بلفظ آخر هو إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها وسن لكم سننا فلا تنتهكوها وحرم عليكم أشياء فلا تعتدوها وترك بين ذلك أشياء من غير نسيان رحمة منه فاقبلوها ولا تبحثوا عنها خرجه الطبراني وهذه الرواية تبين أن المعفو عنه ما ترك ذكره فلم يحرم ولم يحلل ولكن مما ينبغي أن يعلم أن ذكر الشيء بالتحليل والتحريم مما قد يخفى فهمه من نصوص الكتاب والسنة فإن دلالة هذه النصوص قد تكون بطريق النص والتصريح وقد تكون بطريق العموم والشمول وقد تكون دلالته بطريق الفحوي والتنبيه كما في قوله تعالى {فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا} الإسراء فإن دخول ما هو أعظم من التأفيف من أنواع الأذى يكون بطريق الأولى ويسمى ذلك مفهوم الموافقة وقد تكون دلالته بطريق مفهوم المخالفة كقوله ﷺ في الغنم السائمة الزكاة فإنه يدل بمفهومه على أنه لا زكاة في غير السائمة وقد أخذ الأكثرون بذلك واعتبروا بمفهوم المخالفة وجعلوه حجة وقد تكون دلالته من باب القياس فإذا نص الشارع على حكم في شيء لمعنى من المعاني، وكان ذلك المعنى موجودًا في غيره فإنه يتعدى الحكم إلى كل ما وجد في ذلك المعنى عند جمهور العلماء وهو من باب العدل والميزان الذي أنزل الله وأمر بالاعتبار به فهذا كله مما يعرف به دلالة النصوص على التحليل والتحريم فأما ما انتفى فيه ذلك كله فهنا يستدل بعدم ذكره بإيجاب أو تحريم على أنه معفو عنه وههنا مسلكان أحدهما أن يقال لا إيجاب ولا تحريم إلا بالشرع وما لم يوجب الشرع شيئًا ولم يحرمه فيكون غير واجب أو غير محرم كما يقال مثل هذا في الاستدلال على نفي وجوب الوتر والأضحية أو نفي تحريم الضب ونحوه أو نفي تحريم بعض العقود المختلف فيها كالمساقاة والمزارعة ونحو ذلك ويرجع هذا إلى استصحاب براءة الذمة حيث لم يوجد ما يدل على اشتغالها ولا يصح هذا الاستدلال إلا لمن عرف أنواع أدلة الشرع وسيرها فإن قطع مع ذلك بانتفاء ما يدل على إيجاب أو تحريم قطع بنفي الوجوب والتحريم كما يقطع بانتفاء فريضة صلاة سادسة أو صيام شهر غير شهر رمضان أو وجوب الزكاة في غير الأموال الزكوية أو حجة غير حجة الإسلام وإن كان هذا كله يستدل عليه بنصوص مصرحة بذلك وإن ظن انتفاء ما يدل على إيجاب أو تحريم ظن انتفاء الوجوب والتحريم من غير قطع والمسلك الثاني أن يذكر من أدلة الشرع العامة ما يدل على ما لم يوجبه الشرع ولم يحرمه فإنه معفو عنه كحديث أبي ثعلبة هذا وما في معناه من الأحاديث المذكورة معه مثل قوله ﷺ لما سئل عن الحج في كل عام فقال ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ومثل قوله ﷺ في حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه إن أعظم المسلمين في المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته وقد دل القرآن على مثل هذا أيضًا في مواضع كقوله تعالى {قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا} الأنعام فهذا يدل على أن ما لم يوجد تحريمه فليس بمحرم، وكذلك قوله تعالى {وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} فعنفهم على ترك الأكل مما ذكر اسم الله عليه معللا بأنه قد بين لهم الحرام وهذا ليس منه فدل على أن الأشياء على الإباحة وإلا لما لحق اللوم بمن امتنع من الأكل مما لم ينص له على حكمه بمجرد كونه لم ينص على تحريمه واعلم أن هذه الأسئلة غير مسألة الأعيان قبل ورود الشرع هل هو الحظر أو الإباحة أو لا حكم فيها فإن تلك المسئلة مفروضة فيما قبل ورود الشرع فأما بعد وروده فقد دلت هذه النصوص وأشباهها على أن حكم ذلك الأصل زال واستقر أن الأصل في الأشياء كالإباحة بأدلة الشرع.

وقد حكى بعضهم الإجماع على ذلك وغلط من سوى بين المسئلتين وجعل حكمهما واحدًا وكلام الإمام أحمد يدل على أن ما لم يدخل في نصوص التحريم فإنه معفو عنه قال أبو الحارث قلت لأبي عبدالله يعني أحمد إن أصحاب الطير يذبحون من الطير أشياء لا نعرفها فما ترى في أكله فقال كل ما لم يكن ذا مخلب أو يأكل الجيف فلا بأس به فحصر تحريم الطير في ذي المخلب المنصوص عليه وما يأكل الجيف لأنه في معنى الغراب المنصوص عليه وحكم بإباحة ما عداهما، وحديث ابن عباس الذي سبق ذكره يدل على مثل هذا، وحديث سلمان الفارسي فيه السؤال عن الجبن والسمن والفراء فإن الجبن كان يصنع بأرض المجوس ونحوهم من الكفار، وكذلك السمن والفراء كذلك تجلب من عندهم وذبائحهم ميتة وهذا مما يستدل به على إباحة لبن الميتة وأنفحتها وعلى إباحة طعام المجوس وفي ذلك كله خلاف مشهور ويحمل على أنه إذا اشتبه الأمر لم السؤال والبحث عنه كما قال ابن عمر رضي الله عنهما لما أسأل عن الجبن الذي تصنعه المجوس فقال ما وجدته في سوق المسلمين اشتريته ولم أسئل عنه وذكر عند عمر الجبن وقيل أنه يوضع فيه أنافح الميتة فقال سموا الله وكلوا قال الإمام أحمد أصح حديث فيه هذا الحديث يعني جبن المجوس وقد روى من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي ﷺ أتى بجفنة في غزوة الطائف فقال أين تصنع هذه قالوا بفارس فقال ﷺ ضعوا فيها السكين وقطعوا واذكروا اسم الله وكلوا خرجه الإمام أحمد وسئل عنه فقال هو حديث منكر وكذا قال أبو حاتم الرازي وخرجه أبو داود بمعناه من حديث ابن عمر إلا أنه قال في غزوة تبوك وقال أبو حاتم هو منكر أيضًا وخرجه عبد الرازق في كتابه مرسلًا وهو أشبه وعنده زيادة وهي أنه قيل يا رسول الله نخشى أن تكون ميتة قال سموا عليه وكلوا.

وخرج الطبراني معناه من حديث ميمونة وإسناده جيد لكنه غريب جدًا وفي صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها أن قومًا قالوا للنبي ﷺ إن قومًا يأتوننا باللحم لا ندري أذكر اسم الله عليه أم لا فقال سموا عليه أنتم وكلوا قلت وكانوا حديثي عهد بالكفر.

وفي مسند الإمام أحمد رحمه الله عن الحسن أن عمر رضي الله عنه أراد أن ينهى عن حلل الحبرة لأنها تصبغ بالبول فقال له أبي ليس ذلك لك قد لبسهن النبي ﷺ ولبسناهن في عهده وخرجه الخلال من لفظ آخر ولفظه إن أبيا قال له يا أمير المؤمنين قد لبسها نبي الله ﷺ ورأى الله مكانها ولو علم الله أنها حرام لنهى عنها قال صدقت وسئل الإمام أحمد عن لبس ما يصنعه الكفار أهل الكتاب من غير غسل فقال لم تسأل عما لم تعلم لم يزل الناس منذ أدركناهم لا ينكرون ذلك وسئل عن يهود يصبغون بالبول فقال المسلم والكافر في هذا سواء ولا تسئل عن هذا ولا تبحث عنه وقال إذا علمت أنه لا محالة يصبغ بشيء من البول وصح عندك فلا تصل فيه حتى تغسله.

وخرج من حديث المغيرة ابن شعبة أن النبي ﷺ أهدى إليه خفان فلبسهما ولا يدري أذكبا أم لا وقد ورد ما يستدل به على البحث والسؤال فخرج الإمام أحمد من حديث رجل عن أم سلمة الأشجعية أن النبي ﷺ أتاها وهي في قبة فقال ما أحسنها إن لم يكن فيها ميتة قال فجعلت تتبعها والرجل مجهول.

وخرج الأثرم بإسناده عن زيد بن وهب قال أتانا كتاب عمر رضي الله عنه بأذربيجان إنكم بأرض فيها الميتة فلا تلبسوا من الفراء حتى تعلموا حله من حرامه وروى الخلال بإسناده عن مجاهد أن ابن عمر رأى على رجل فردانيسية فقال لو أعلم أنه ذكي لسرني أن يكون لي منه ثوب وعن محمد ابن كعب أنه قال لعائشة رضي الله عنها ما يمنعك أن تتخذي لحافا من الفراء قالت كرهت أن ألبس الميتة وروى عبدالرازق بإسناده عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال لمن نزل من المسلمين بفارس إذا اشتريتم لحما فاسألوا فإن كان ذبيحة يهودي أو نصراني فكلوا وهذا لأن الغالب على أهل فارس المجوس ذبائحهم محرمة والخلاف في هذا يشبه الخلاف في إباحة طعام من لا تباح ذبيحته من الكفار وفي استعمال أواني المشركين وثيابهم والخلاف فيها يرجع إلى قاعدة تعارض الأصل بالظاهر وقد سبق ذكر ذلك في الكلام على حديث الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات، وقوله في الأشياء التي سكت عنها وسكت عن أشياء رحمة لكم من غير نسيان يعني أنه سكت عن ذكرها رحمة بعباده ورفقا حيث لم يحرمها عليهم حتى يعاقبهم على فعلها ولم يوجبها عليهم حتى يعاقبهم على تركها بل جعلها عفوا فإن فعلوها فلا حرج عليهم وإن تركوها فكذلك وفي حديث أبي الدرداء ثم تلا وما كان ربك نسيا مريم ومثل قوله عز وجل {فِي كِتَابٍ لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى} طه.

وقوله فلا تبحثوا عنها يحتمل اختصاص هذا النهي بزمن النبي ﷺ لأن كثرة البحث والسؤال عما لم يذكر قد يكون سببًا لنزول التشديد فيه بإيجاب أو تحريم، وحديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه يدل على هذا فيحتمل أن يكون النهي عامًا والمروي عن سلمان من قوله يدل على ذلك فإن كثرة البحث والسؤال عن حكم ما لم يذكر في الواجبات ولا في المحرمات قد يوجب اعتقاد تحريمه أو إيجابه لمشابهته لبعض الواجبات أو المحرمات فقبول العافية فيه وترك البحث عنه والسؤال خير وقد يدخل في ذلك قوله ﷺ هلك المتنطعون قالها ثلاثًا. خرجه مسلم من حديث ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعًا والمتنطع هو المتعمق البحاث عما لا يعنيه وهذا قد يتمسك به من يتعلق بظاهر اللفظ وينفي المعاني والقياس كالظاهرية والتحقيق في هذا المقام والله أعلم أن البحث عما لم يوجد فيه نص خاص أو عام على قسمين أحدهما أن يبحث عن دخوله في دلالات النصوص الصحيحة من الفتوى والمفهوم والقياس الظاهر الصحيح فهذا حق وهو مما يتعين فعله على المجتهدين في معرفة الأحكام الشرعية والثاني أن يدقق الناظر نظره وفكره في وجوه الفروق المستبعدة فيفرق بين متماثلين بمجرد فرق لا يظهر له أثر في الشرع مع وجود الأوصاف المقتضية للجمع أو يجمع بين متفرقين بمجرد الأوصاف الطارئة التي هي غير مناسبة ولا يدل دليل على تأثيرها في الشرع فهذا النظر والبحث غير مرضي ولا محمود مع أنه قد وقع في طوائف من الفقهاء وإنما المحمود النظر الموافق لنظر الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم من القرون المفضلة كابن عباس ونحوه ولعل هذا مراد ابن مسعود رضي الله عنه يقول إياكم والتنطع إياكم والتعمق وعليكم بالعتيق يعني ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم ومن كلام بعض أعيان الشافعية لا يليق بنا أن نكتفي بالخيالات في الفروق كدأب أصحاب الرأي والسر في تلك أن متعلق الأحكام في الحال الظنون وغلباتها فإذا كان اجتماع مسئلتين أظهر في الظن من افتراقهما وجب القضاء باجتماعهما وإن انقدح فرق على بعد فافهموا ذلك فإنه من قواعد الدين انتهى ومما يدخل في النهي عن التعمق والبحث عنه أمور الغيب الخبرية التي أمرنا بها ولم يبين كيفيتها وبعضها قد لا يكون له شاهد في هذا العام المحسوس فالبحث عن كيفية ذلك هو مما لا يعني وهو مما ينهى عنه وقد يوجب الحيرة والشك ويرتقي إلى التكذيب وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال لا يزال الناس يسألون حتى يقال هذا خلق الله فمن خلق الله فمن وجد من ذلك شيئًا فليقل آمنت بالله وفي رواية له لا يزال الناس يسألونك عن العلم حتى يقولوا هذا الله خلقنا فمن خلق الله وفي رواية له أيضًا ليسألنكم الناس عن كل شيء حتى يقولوا الله خلق كل شيء فمن خلقه وخرجه البخاري أيضًا ولفظه يأتي الشيطان أحدكم فيقول من خلق كذا من خلق كذا حتى يقول من خلق ربك فإذا لغه فليستعذ بالله ولينته وفي صحيح مسلم عن أنس رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال قال الله عز وجل إن أمتك لا يزالون يقولون ما كذا ما كذا حتى يقولوا هذا الله خلق الخلق فمن خلق الله وخرجه البخاري ولفظه لم يزل الناس يسألون هذا الله خالق كل شيء فمن خلق الله قال إسحاق بن راهوية لا يجوز التفكر في الخالق ويجوز للعباد أن يتفكروا في المخلوقين بما سمعوا فيهم ولا يزيدون على ذلك لأنهم إن فعلوا تاهوا قال وقال الله عز وجل {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ} الإسراء ولا يجوز أن يقال كيف تسبيح القصاع والأخونة والخبز والمخبوز والثياب المنسوجة وكل هذا قد صح العلم فيهم أنهم يسبحون فذلك إلى الله أن يجعل تسبيحهم كيف شاء وكما شاء وليس للناس أن يخوضوا في ذلك إلا بما علموا ولا يتكلموا في هذا وشبهه إلا بما أخبر الله ولا يزيدوا على ذلك فاتقوا الله ولا تخوضوا في هذه الأشياء المتشابهة فإنه يرديكم الخوض فيه عن سنن الحق نقل ذلك كله حرب عن إسحاق رحمه الله تعالى..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

كل بريد مكة

 الرابط